رد الشيخ الحبيب على إشكالات الشيخ حسين النصراوي حول المنهج الرافضي

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الشيخ ياسر الحبيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد فإن لدي بعض الملاحظات على منهجكم في التعاطي مع أهل الخلاف نرجو أن يتسع لها صدركم. وهي عبارة عن إثارات الهدف منها شهد الله محاولة الوصول إلى الرؤية الشرعية والصحيحة والتي يريدها الأئمة ع في التعامل مع هذه القضية.
وهذه الملاحظات تأتي بعد استماعنا إلى مجموعة من محاضراتكم مولانا الكريم ومعرفة رأيكم وكثير من مبرراته وحججه.
فإن اقتنعتم بما نقول فبها، وإن لم تقتنعوا فأقنعونا بما تقولون، فإن لم نقتنع، فعلى الأقل تتضح لنا وجهة نظركم أكثر، والخلاف في الرأي لايفسد في الود قضية.
إن منهجكم يقوم على أساس أنه لا موضوع اليوم للتقية وأنه يجب إسقاط وتعرية رموز الضلالة حتى يعرف المخدوعون بهم حقيقة الحال، فتسقط تلك الشخصيات التي كانت سبباً في كل المآسي والآلام لتي عانى منها المسلمون عبر الزمان ومازالوا يعانون إلى حد اليوم.
إنكم تقولون أن هذا المنهج هو المنهج الذي تتبعونه هو المنهج الذي اتبعه الشيخ المفيد وأبو الصلاح الحلبي والكركي العاملي والمجلسي ووالده وغيرهم فلماذا تلوموننا ولا تلومونهم؟ ومالفرق بين ما قام به هؤلاء -خصوصا العلامة المجلسي الذي كتب مجلدات خصصها للطعن في تلك الرموز وإسقاطها- ومانقوم به نحن؟ نحن لانعدو أننا نقوم بما قام به، غاية الأمر أن الوسيلة الإعلامية المتاحة لنا لم تتح له.
نقول: قد يقال بوجود فرق، وهو أن مافعله هؤلاء الأعلام من تدوين تلك القضايا وروايتها كان يتوقف عليه حفظ الحق، فكان لابد منه، والتقية إنما هي لازمة في غير الموارد التي تسبب اندثار الحق وزواله، أما إذا كان العمل بالتقية سيؤدي إلى اندثار الحق وزواله، فتحرم التقية حينئذ، ولذا لم يكن لهؤلاء أن يعملوا بالتقية، أما بالنسبة لكم فيقال: إن الحق محفوظ، ومدون ومسجل في مئات الكتب وفي صدور مئات العلماء وهو يتناقل من جيل إلى جيل، ولايتوقف حفظ الحق على رفع التقية منكم.
لكن قد تقولون بأن حفظ الحق وإن لم يتوقف على ذلك إلا أننا نرى أن شروط التقية غير متوفرة، ومادامت غير متوفرة فيحق لنا تركها والعمل وفق المنهج الذي نراه مناسباً.
حسنا سلمنا، شروط التقية غير متوفرة، لكن يقال لكم :إن التعرض لمثل هذه الأمور يزيد من دائرة العداء ضد الشيعة ويتسبب في قتلهم، أوليس من الواجبات حفظ دماء الشيعة؟!
تقولون: إذا كانت مصلحة الحق والدين تتوقف على قتل جماعات من الشيعة وسفك دمائهم فلتسفك الدماء، لأننا نفدي النفوس للدين ولا نفدي الدين للنفوس، نضحي بأنفسنا لأجل الدين، لا العكس، (نضحي بالدين لأجل أنفسنا!!) وهذا الذي صنعه الحسين (ع) مع أنه حجة الله، ونفسه أغلى الأنفس، بذلها من أجل الحق والدين.
نقول: لا إشكال، الدماء رخيصة إذا كان يتوقف عليها حفظ الدين وحفظ الحق_لاحظوا جيداً_ لكن من الواضح أن حفظ الدين والحق لا يتوقف على هذا المنهج، فلماذا نضع تلك الدماء في معرض السفك، مع عدم وجود مصلحة أهم تقتضي ذلك؟!
تقولون: إن هناك مصلحة أهم من تلك الدماء، وهي مصلحة هداية الناس إلى الحق، ومصلحة فضح رموز الضلالة وتعريتهم وهتكهم وتسقيطهم حتى يتجنبهم الناس، وهو مصداق لقوله (ص) في الصحيح: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهر والبراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.
نقول: إن هداية الناس إلى التشيع لاتتوقف على هذا المنهج، وهذا مايشهد به الواقع، فإن كثيراً من غير الشيعة قد تشيعوا من طريق غير هذا المنهج.
وفضح رموز الضلالة قد يكون له أثر إيجابي على البعض، حيث يصدم بما تقولونه وهذا ما يدفعه إلى البحث والتحقيق فيهتدي، ولكن بالمقابل له أثر سلبي على كثيرين أيضا، حيث سيؤدي إلى تشددهم من جهتين:
أولاً: من جهة تمسكهم بتلك الرموز رموز الضلالة أكثر، وهذا مارأيناه بعد احتفال الشيخ بهلاك عائشة وإصدار كتاب الفاحشة، حيث تنادى أتباع عائشة وحشدوا قواهم وشكلوا تيارا عريضاً للدفاع عن أمهم، وأخذوا يعقدون المنتديات والتجمعات للدفاع عن عائشة ، وأيضا هب أتباع عائشة ينصرونها من خلال التسمية باسمها، فسميت وليدات كثيرات باسمها، وسمعت مؤخراً عن عقد احتفال بمناسبة مرور كذا سنة على مولد عائشة في القاهرة!
كل هذا كان ردة فعل على هذا المنهج.
إذن هذا المنهج أيضا قد يكون له أثر سلبي على كثيرين، حيث يؤدي إلى تشددهم من جهتين: أولاً من جهة التمسك برموز الضلالة والباطل تلك.
ثانيا: تشددهم –وهو الأخطر- من جهة نظرتهم إلى الشيعة، حيث سيتحول هؤلاء إلى متطرفين،وتكفيريين ، وسيتحولون إلى قنابل موقوتة مستعدة لأن تنفجر في وجه كل مافيه رائحة التشيع!!.
وبالتالي فإن هذا المنهج ينطوي على مغامرة ومخاطرة كبرى، وحاله –عفوا والأمثال تضرب ولاتقاس- حال من يلعب القمار، إما أن يربح ويصير مليونيراً، وإما أن يخسر كل شيء ويلقى في السجن.
ولنضرب مثالاً لعله أقرب: حال من يقوم بذلك حال من يقوم بانقلاب عسكري ضد نظام متسلط، فإما أن يربح كل شيء وإما أن يخسر كل شيء.
يعني من يقوم بذلك هو في الواقع يغامر بالشيعة في كل مكان، ومن هنا فقد أمرنا الأئمة (ع) بالتقية وشددوا عليها، وعلى حرمة مخالفتها.
قد تقولون: بأن التشدد ضد الشيعة وتكفيرهم ليس مرتبطاَ بمنهجنا، إذ بوسع أي شخص أن يمضي إلى النت وينظر إلى مؤلفات علماء الشيعة وكتاباتهم ليعرف رأي الشيعة في رموز القوم.
وتكفير الشيعة واستحلال دمائهم في باكستان وأفغانستان كان موجوداَ قبل أن يسمع أحد باسم (ياسر الحبيب) كما أن التطرف بدأ في العراق أيضاً قبل أن يقوم الشيخ ياسر الحبيب بإعلان الحرب بتلك الصورة وإنشاء الفضائية وإسقاط عائشة بذلك الشكل، فليس من الإنصاف القول بأن التطرف والتشدد ضد الشيعة مرتبط بمثل ذلك.
نقول: نعم صحيح إن التطرف موجود والمتطرفون موجودون والحيوانات المفخخة موجودة سواء أتكلم الشيخ ياسر أم لا، وسواء صدح بهذا المنهج أم اتبع المنهج السائد عند الشيعة.
ولكن هناك فرق من جهتين: أولاً إن هذه الكتب الموجودة على النت هناك طبقة معينة من الناس تلاحظها وتتبعها، وليس لها أثر الفضائية، والدليل أن الضجة حدثت بعد خروج فضائية فدك وإشهار هذا المنهج من خلالها.
ثانياً: القول بأن التطرف والتشدد والحيوانات المفخخة كل ذلك موجود سواء سرنا بهذا المنهج أم لا، هذا قول صحيح، ولكن الكلام-ولاحظوا هنا جيداً- أن نسبة ذلك التطرف والتشدد ستزيد من غير شك ، يعني إذا كان المتطرفون مثلاً من (السنة) 10% فسيصيرون ربما 40% على سبيل المثال، فالتطرف صحيح أنه موجود، لكن الكلام في نسبة التطرف، نحن في الواقع بهذا كمن يصب الزيت على النار، النار هي موجودة ، ولكن بهذا المنهج نصبُّ الزيت عليها، نوسع دائرة التطرف، وليس الكلام أننا نوجد التطرف.!!
فنحن لأجل مجموعة أشخاص -حتى لوكانوا بالآلاف- يتشيعون هنا أو هناك عن طريق هذا المنهج (منهج الصدمة والتصريح) نخاطر بالشيعة ؟!! حيث نفتح مجالاً لحرب طائفية طاحنة تأتي على الأخضر واليابس وتهدد الكيان الشيعي بالإضعاف والاضمحلال والتقهقر، وعلى الأقل نجعل نفوساً محترمة كثيرة في معرض التلف، ونتسبب في سفك دماء ماكانت لتسفك لولا مثل هذا المنهج، يعني لنفرض بدون هذا المنهج سيسفك دم ألف شيعي خلال سنة في العراق، ومع هذا المنهج يسفك دم ثلاثة آلاف، أفهذه الدماء يسوغ لنا التضحية بها في سبيل أنه قد يتشيع جماعة من المخالفين؟!
ثم دعهم لايتشيعوا!! إذا لم يتشيعوا مع وجود المنهج الآخر، فهم المقصرون!! المهم أن لا نخفي الحق عليهم ونغرر بهم. لاحظوا ، مادام الحق يصل إليهم من خلال المنهج الآخر، لكن هم لايقبلوه فرضاً إلا بمنهج الصدمة، (طيب) ماذا نصنع لهم؟! فليذهبوا إلى حيث يذهبون!! المطلوب منا إقامة الحجة وإتمامها والحجة قد أقيمت وتمت.
وأما حديث (إذا رأيتم أهل الريب والبدع...) فهو يشير إلى الحكم الأولي، أي إسقاط أهل البدع بما هو هو، في نفسه، ومن دون الالتفات إلى وجود التوالي الفاسدة المترتبة عليه كماهو الحال في مقامنا.
قد تقولون: إن هذا المنهج -منهج رفع التقية- هو منهج أمير المؤمنين (ع) حيث رفع التقية في فترة من حياته، حيث سنحت له الفرصة وصرح بثلب القوم وأعلن البراءة منهم حتى وصل ذلك إلى معاوية فأشاعه بين أهل الشام، وتسبب ذلك بقتل بعض الشيعة الذين كانوا في الشام.
وهو قبله منهج الرسول(ص) نفسه، حيث إنه كان يسب آلهتهم كما قالوا لأبي طالب: (سب آلهتنا)، وبسبب مثل ذلك أيضاً قتل بعض أصحابه كياسر وسمية...
نقول: أما بالنسبة لسب الرسول لآلهتهم فتلك دعواهم، فإنا لوراجعنا التاريخ لوجدنا هذه تهمة منهم له (ص)، ولم يذكر التاريخ في مورد واحد –حسب اطلاعنا- أنه (ص) سب آلهتهم فعلاً، فالذي يظهر أنهم كانوا يعتبرون مجرد بيان واقع آلهتهم سباً لها، ولذا لما نزل قوله تعالى: ( إنكم وماتعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) الأنبياء 98. قالوا: يامحمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك) فاعتبروا ذلك سباً، مع أنه لم يكن سباً، بل هو توصيف واقع، كما أن القرآن الكريم الذي أتى به النبي(ص) لم يسب آلهة المشركين في أي مورد، وحتى ماجاء فيه على لسان إبراهيم(ع) من قبيل: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) الأنبياء 67 لم يكن سباً، لأن أف كلمة تضجر، يعني أنه يبدي تضجره منهم ومن آلهتهم التي لا تضر ولاتنفع.
لكم أن تقولوا: لابأس حتى لو لم يسب أصنامهم لكنه أسقطها، يعني اتبع معها منهج التسقيط والتسفيه، وهذا هو المطلوب.
نقول: نعم إن ما قام به (ص) كان في إطار تثبيت دعائم الحق، وما قام به الإمام علي(ع) من فضح القوم كان في إطار حفظ الحق خوفاً من اندثاره، وفي مثل هذا المورد ترخص الدماء: في سبيل حفظ الحق.
أما في فرضنا فقد قلنا أن حفظ الحق غير متوقف على هذا المنهج، فما الداعي للتضحية بتلك الدماء الثمينة عند الله تعالى؟!
على أن كلامنا هذا لايعني أننا نقول بوجوب التقية، وإخفاء الحق عن المخالفين، بل نحن نقول بلزوم اتباع منهج كشف الحقائق، وتعرية أهل الباطل، لكن بهدوء وبتعقل وروية، خشية من الآثار السلبية التي يمكن أن تصيب الكيان الشيعي والأمة الشيعية، والفرد الشيعي. نحن نقول بلزوم اتباع منهج بيان الحق كما هو، لكن –على طريقة من تسمونهم أنتم ب(أهل العالم الثاني)- بدون إظهار اللعن والسب المفضين إلى الآثار التي لاتحمد عقباها.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أخوكم الشيخ حسين النصراوي
ربيع الأول 1435هـ


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جواب الشيخ:

بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أما بعد؛ فقد تلقيت رسالتكم مثمّناً رغبتكم في تحرّي أصول منهجنا من مصدرها، وهي رغبة لو توفرت بصدق وإنصاف لدى كثير من أمثالكم من أهل العلم والفضيلة؛ لأزالت كثيراً من الاحتقان السائد فضلاً عن الالتباس وسوء الفهم. لذا حق أن تُشكروا. ولا يفوتني الاعتذار لتأخر الجواب لما تعلمون من كثرة الأعباء والانشغالات والارتباطات. وأدناه الجواب على ما تفضلتم به على شكل نقاط.

أولاً؛ دقِّياً؛ إن منهجنا لا يقوم على أساس أنْ لا موضوع للتقية اليوم مطلقاً، بل على أساس عدم تحقق هذا الموضوع إجمالاً في التبليغ والتجديد، وذلك - من حيث الأصل - لغلبة التبليغ من حيث قوة المطلوبية على التقية، فإذا ما تحقق موضوع وجوب التبليغ أو رجحانه رفع موضوع وجوب التقية أو رجحانها وروداً. واحترزنا بـ (إجمالاً) لإمكان انقلاب الغلبة في بعض الفروض، لكنها اليوم نادرة.
نظيره: تحقق موضوع وجوب الجهاد، فإنه لا معنى حينئذ لتصوّر وجود موضوع للتقية، إذ هذا الأخير يرتفع بالأول بواسطة التعبّد الشرعي، وإن كان ما يستدعي التقية من الضرر والتلف متحققاً وجداناً، غير أنه معدوم شرعاً.
يشهد للغلبة الكتاب، حيث أقوائية وأكثرية آيات التبليغ وإقامة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقابل أضعفية وأقلية آيات التقية، وجريان الأولى مجرى العزيمة والأخرى مجرى الرخصة. كما تشهد لها السنة، كما في قوله صلى الله عليه وآله: «بذلك مالك ودمك دون دينك»، ناهيك عن شهادة السيرة الشرعية والمتشرعية حيث لم يكد يخلو زمان من جهر بالتبليغ وترك للتقية، من الأئمة الأطهار عليهم السلام، وأصحابهم الأخيار، ثم العلماء الأبرار، رغم السيوف التي كانت تقطر دماً، ورغم العمل بالتقية في موارد أُخَر. قال الحر العاملي عليه الرضوان في الفوائد الطوسية: «ألا ترى أنهم عليهم السلام كثيرا ما كانوا يعملون بالتقية في جزئيات يسيرة من المستحبات والمكروهات ويتركون التقية في الكليات كذم أئمة الضلال ولعنهم».
هذا من حيث الأصل، أما من حيث الوظيفة، فالمضي بهذا المنهج جاء بعد تشخيص رجحان المصلحة معه على المفسدة، بل اضمحلال هذه الأخيرة واندكاكها في الأولى بحيث تعذّر إحراز انقلاب الغلبة ليكون هذا الإحراز معذّراً شرعاً عن أداء وظيفة التبليغ. وعلى التنزل فلا أقل من الشك، ومعه يُرجع إلى الأصل المتقدّم.

ثانيا؛ تنقيحاً؛ ليست المصلحة في المقام إلا المصلحة الدينية لا مصلحة الفرد أو الجماعة من المؤمنين، وكذا المفسدة عكساً بعكس. نعم قد تتوقف هذه المصلحة على فرد أو جماعة كأن يكون ببقائه أو بقائهم بقاء الدين أو عزته، وبذهابه أو ذهابهم ذهاب الدين أو انكساره، فحينئذ تُراعى مصلحة الفرد أو الجماعة، وإلا فلا مصلحة تُراعى إلا مصلحة الدين وإن كانت توقع مفسدة أو ضرراً على فرد أو جماعة، لأن الأصل أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
مثاله: الجهاد الابتدائي، فإنه لا يجوز تركه، بل يجب أن يتجدد في كل عام مرة على الأقل، مع أنه يعرّض الفرد أو الجماعة للضرر غالباً، إذ لولاه يبقى المجتمع أكثر أمناً وضماناً ورخاءً وراحة، أما معه فلا، إذ لا تكاد تنتهي حرب في سنة حتى تنشب أخرى في التي تليها، مع ما تحمله من اضطراب وقلاقل وخسائر في الأرواح لا للمقاتلين فقط؛ بل لمن لا ناقة له في الحرب ولا جمل، كأن يغير العدو على جماعة عُزَّل من المؤمنين الأبرياء في طرف ما فيقتلهم ويهتك أعراضهم ويسلب أموالهم ثأراً وانتقاماً، ناهيك عن أضرار أُخَر كانقطاع سبل التجارة مثلاً إبان الحرب بما يؤدي إلى انقطاع أرزاق الناس وأقواتهم، مع ما تخلّفه الحرب من آثار معروفة توجد فئات من الأرامل واليتامى والمعاقين والمرضى النفسيين، وهذا كله على فرض انتصار المسلمين في تلك الحملات الابتدائية، وإلا فلو دارت الدائرة عليهم في بعض تلك الحملات فالمصيبة أعظم والأضرار أكبر والخسائر أفدح كما هو واضح.
وعليه؛ فلو كانت الشريعة ناظرة في المصلحة والمفسدة إلى الفرد بما هو هو أو الجماعة بما هي هي؛ لوجب انتفاء حكم الجهاد الابتدائي لتلافي زجّ المؤمنين في أتون الحروب وللمحافظة على نفوسهم ولتأمين استقرار مجتمعاتهم، بيد أن الشريعة ناظرة في المصلحة والمفسدة إلى الدين بالأولوية والأهمية، ومصلحة الدين إنما تتحقق في ترك الموادعة وتجديد المصادمة من حين لحين وإن اقتضى ذلك أضراراً وخسائر اجتماعية، إذ لولا ذلك لحلّت الذلة محل العزة، ولخمل أمر الإسلام وتضاءل وانكفأ، ولقوي أمر الطغيان والجور والكفر والنفاق، وتلك نتيجة طبيعية صاغها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «يأتي الذل مَن وادَع، غُلب المتخاذلون»، لذا كانت الحكمة من تشريع الجهاد الابتدائي أنه يحقق مصلحة دينية وإن اقتضى ضررا على مستوى مصالح العباد، وليس لأولئك العباد إلا الإيمان بأن «الجهاد عزّاً للإسلام» كما قالت الزهراء عليها السلام، وليس لهم إلا تغليب مصلحة الدين على مصالحهم وإلا دخلوا في قوله تعالى: «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين».
نعم إذا توقفت هذه المصلحة على حفظ مصلحة فرد أو جماعة، كأن يكون فناؤهم أو تضررهم مفضيا إلى فناء الدين أو تضرره؛ آل الأمر إلى الترك والتقية، لكن هذا الفرض نادر. وبدهيّ أن لا شيء من هذا الفناء أو الضرر الديني يتهدد الأمة اليوم بحمد الله تعالى، فهم من الكثرة والنماء العددي ما شاء الله رغم السيوف الواقعة عليهم إذ «بقية السيف أنمى عدداً وأكثر ولداً» كما نطق الأمير عليه السلام، وقد زادتهم عدداً وكثرة أفواج المهتدين المتشيعين ولا تزال.
ثم إن المؤمن على يقين من قوله عليه السلام: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق» فمتى ما تعيّنت هذه الوظيفة كان الله تعالى هو الحامي والوكيل، ولن تجدها سبباً لا لموت أحد قبل أوانه، ولا لانقطاع رزقه أو نقصانه. وقد قيل للرضا عليه السلام: «إنك تتكلم بهذا الكلام والسيف يقطر دماً! فقال: إن لله وادياً من ذهب حماه بأضعف خلقه، النمل، فلو رامه البخاتي لم تصل إليه».

ثالثا؛ حيث أن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو من الجهاد، داخل في بابه في المتون الفقهية، غايته أنه مرتبة من مراتبه إذ يسمى (الجهاد باللسان)؛ فإنه يتسرّى له حكمه، فلا يجوز تركه مطلقاً وإن أفضى إلى خسائر إلا حين إحراز انقلاب الغلبة كما تقدّم، إذ المناط مصلحة الدين، ومنها أن يتجدد التبليغ والأمر والنهي على مرّ الزمان، تثبيتاً لأهل الحق، وتكثيراً لعددهم، وتعزيزاً لشأنهم، وإحياءً لما اندرس من عقائدهم.
ألا ترى كيف أن أصحاب الأئمة عليهم السلام وثقاتهم الأكابر ما كفّوا أنفسهم عن الكلام والتبليغ والحجاج والخصام والجهر بالبراءة وسط الأنام رغم ظروف تلك الأزمنة المستدعية للتقية الشديدة؟ هذا وحكم التقية ماثل نصب أعينهم، ونواهي الأئمة عن الخصومة في الدين والدعوة إلى هذا الأمر ملء أسماعهم، غير أنهم فهموا الشريعة من أربابها، ووزنوا الأمور بميزانها، فأدركوا أن الكفّ عن الخصومة والامتناع عن الكلام والعدول إلى التقية؛ كل ذلك رهن بأن لا ينعدم التبليغ والدعاء إلى الحق بالكلية فلا ينهض به أحد ويخلو منه الزمان.
تجد بعض هؤلاء الأكابر يبدو وكأنه عاصٍ لأئمته الذين قالوا: «إياكم والخصومة في الدين.. كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم.. إنما شيعتنا الخرس»، وتراه شاذا في سلوكه عن جماعة الشيعة، مجاهرا بما هم يسترونه، مذيعا لما هم يكتمونه، مصادما لمن هم يتألفونه، حتى إذا مات قيل في حقه: «رحمه الله ولقّاه نضرة وسروراً، فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت»! فلم يُمتدح للخصومة فحسب؛ بل لشدة الخصومة! إنه ابن الطيار رحمة الله عليه.
وتجد بعضاً آخر يبدو وكأنه يتغافل عن أمر أئمته الذين قالوا: «إياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم.. ضربوكم على دم عثمان ثمانين سنة وهم يعلمون أنه كان ظالماً، فكيف إذا ذكرتم صنميْهم»، فتراه يتعمّد النيل من هذين الصنميْن في مسمع من أهل الخلاف حتى يشتهر بينهم بهذا فيقدحون فيه، ويصفونه بأنه «كان رافضياً شتّاماً» إذ كان يقول لبعضهم: «غلامك خير من أبي بكر وعمر»! حتى إذا جاءت النوبة لعلمائنا الرجاليين كشفوا اللثام عن ارتباطه بساحة القداسة بقولهم أنه «كان خصيصاً بأبي جعفر وبأبي عبد الله عليهما السلام»! إنه إبراهيم بن أبي يحيى المدائني رحمة الله عليه.
وتقلّب صفحات أولئك الأماجد فترى أنهم كانوا يخرقون حجاب التقية بسهام توقع المجتمع في البلبلة والقلاقل، حين يتعدون عن الكناية إلى التصريح، ويبلغون حدّ أن يرموا الذين سُمّوا (الصحابة) بالكفر والارتداد! مع علمهم بما يفجّره ذلك من غضب وفزع، فيعودون إلى أئمتهم يذكرون لهم ما واجهوه من ردود فعل، فلا يجدون منهم نهياً ولا زجراً، بل يجدون تأكيداً لما نطقوا وصدموا الناس به في رموزهم ومعتقداتهم، كما في رواية عبد الرحيم القصير قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا! فقال: يا عبد الرحيم؛ إن الناس عادوا بعد ما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله أهل جاهلية! إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير، جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية: يا سعد أنت المرجا، وشعرك المرجل، وفحلك المرجم».
فلأي شيء ترى أولئك الأفذاذ مضوا شهداء يُصلبون وتقطّع أوصالهم، أو يُسجنون وتُعذَّب أبدانهم، أو يُنفوْن ويُشّردوا عن أوطانهم؟ أليس لألسنتهم السلاط التي بُها عُرفوا بالرفض؟ وعلى ماذا تراهم خاطروا بأرواحهم؟ أليس لضمان جريان التبليغ وسريان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وإلى أي عُقبى طمحت عيونهم؟ أليس للتي بشّر بها أئمتهم عليهم السلام حين قالوا: «من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه الله بحجته يوم موقفه بين يديه عز وجل»؟!

رابعا: دعوى الفرق بين ما نفعله ونمضي عليه وبين ما فعله الأعلام - رضوان الله عليهم - ومضوا عليه من الطعن والتسقيط لرموز الضلالة؛ دعوى أهون من أن يُصغى إليها. ذلك لأنه إنْ جُعِل الفرق في أن الحق اليوم محفوظ في مئات الكتب وفي صدور مئات العلماء يتناقلونه من جيل لجيل بخلاف ما كان في أزمنة الماضين من مشايخنا لذا ما كان لهم العمل بالتقية؛ نُقِض هذا بأنه كان كذلك أيضاً في أزمنتهم إلا في ما ندر، ولا أقل من أنه كان كذلك في أزمنة المتأخرين ومتأخري المتأخرين، فأي داعٍ إذن لأن ينبري العلامة المجلسي - مثلا - ليؤلف كتاباً كحياة القلوب يعيد فيه ذكر ما هو مدوّن محفوظ في ما تقدّمه من كتب عديدة وما هو مستقرّ في صدور المئات من العلماء يتناقلونه من جيل لجيل من أن «عائشة وحفصة لعنة الله عليهما وعلى أبويهما قتلتا رسول الله صلى الله عليه وآله»؟! فيقع هذا الكتاب وفيه هذه العبارة بيد قضاة المحكمة الشرعية في كابل فيفتون بسببه بارتداد الشيعة الهزارة في أفغانستان وإهدار دمائهم، فتقع تلك المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة عشرات الألوف منهم حتى كان جند عبد الرحمن خان يستمتعون برمي الرُّضَّع في الهواء وتقطيعهم بالسيوف إرباً إرباً! فيما بيعت الحرائر الشيعيات في سوق النخاسة بخمس روبيات!
ألا قيل للعلامة المجلسي: دماء هذا الشعب الشيعي الأفغاني بأكمله في رقبتك! قد كان الحق مدوّناً في الكتب محفوظاً في صدور المئات من العلماء يتناقلونه من جيل لجيل بما لا يُخاف عليه الاندراس أو الضياع، فأي داعٍ لأن تعيد تدوينه بهذا الأسلوب المستفز لمشاعر العدو حتى سُفكت عليه الدماء وانتهُكت لأجله الأعراض؟!
فلا يخلو المدافع عن العلامة من أن يكون دفاعه دائراً بين تبريرات ثلاث:
أولاها؛ أنه لم يكن متعمّداً لذلك ولا ملتفتاً لإمكان وقوعه بسبب كتبه، ولو كان لما فعل.
وهو تبرير بارد سخيف، لأنه في حقيقته يجعل من مثل العلامة المجلسي رجلاً بليداً أو طائشاً لم يدرك العواقب! أو غرّاً لم يعرف النوائب! وهو الحكيم الذي صقلته التجارب، والفقيه الذي علم المشارب، والرَوِّيُ الذي لا يعيبه في رويَّته وبعد نظره عائب. وكيف يمكن تصديق مثل هذا الكلام الذي يسّفه هذا العالم العَلَم وينزله منزلة جاهلٍ غافلٍ لم يسمع بالتقية ولم يقرأ تاريخ الشيعة ولم يعلم بأن من أكثر ما يحفّز عدوهم للإجرام في حقهم وقوفه على لعنة أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة في كتبهم؟!
ثانيها؛ أنه كان ملتفتاً إلى إمكان وقوع سفك الدماء بسبب كتبه إلا أنه رأى ذلك احتمالاً ضعيفاً لما تحقق في عصره من تمكّن الشيعة بالدولة الصفوية، فعمل بالظن الغالب وفي مثله يُعذر المجتهد، وأين هذا مما نحن فيه اليوم حيث الدماء تُهراق على مدّ البصر فلزم الكف عن إظهار البراءة.
وهذا أيضاً كسابقه في السخف والبرود، إذ يرجع إلى تصوير العلامة - رضوان الله تعالى عليه - ضعيف الإدراك مغترّاً متهاوناً غير مدركٍ لشيء من أبسط ما يدركه العاقل وهو أن الأيام دول، ناهيك عن أن الواقع التأريخي يقول أنه إن كانت للشيعة مكنة في فارس فلم تكن في غيرها، بل كان الشيعة يقتلون ويذبحون في غيرها من البلاد، بل على أطرافها وتخومها حيث كانت الحروب والمناوشات تجري بين الصفويين والعثمانيين، وكانت آلة التجييش العثمانية تقوم على أساس تكفير الشيعة من واقع ما هو موجود في كتبهم مما يبيح قتلهم وقتالهم. وإزاء هذا الواقع لا يمكن المصير إلى غلبة الظن تلك.
ولعمري؛ إن كان ممكنا أن يُناقَش في هذا، فلا يمكن أبداً في شأن مثل الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، الذي كانت أشلاء الشيعة تتناثر طوال عصره عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، في بغداد وفي غيرها من البلاد، لا يزيده ذلك الذي يراه من سفك دماء الشيعة إلا مضيّاً في تكفير أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة والنيل منهم ومن سائر أهل الردة والنفاق بأصرح العبائر، لا في التأليف والتدوين فحسب؛ بل في مجالس المناظرة والجدل مع كبراء أهل الخلاف، وتلك كتبه وآثاره بين يديك فانظر فيها. على أنه لم يكن بمأمن، فلقد استهدفوه غير مرة وتعرّضوا له، وهو مع ذلك ثابت على عزمه غير متنهنهٍ عنه. ودعوى الفرق بين زمانه وظروفه وبين زماننا وظروفنا ليست سوى مكابرة، فلا فرق مطلقاً من هذه الجهة.
فلا يبقى من التبريرات إلا ثالثها؛ وهو أنه لم تكن لتغيب عن مثل العلامة المجلسي - رضوان الله تعالى عليه - تلك المحاذير حين قام بما قام به، إلا أنه أدرك بفقاهته ونباهته أنه لا يصح التعويل على ما اختزنته الكتب السالفة وصدور العلماء وإن كانوا بالمئات أو الألوف، بل لا بد في كل زمان من تجديد لهذا الدين وإلا صار في معرض الضياع أو الخضوع. وما هذا التجديد إلا الضمانة الحقيقية لحفظ هذا الدين واستمراره والحيلولة دون خموله أو سقوطه تحت هيمنة دين مغاير أو فكر دخيل، تماماً كما يجدّد الجهاد الابتدائي أمر الدين ويجعله في حصن حصين، منيعاً عزيزاً.
والتجديد الديني يتخذ أشكالاً وصوراً متنوعة، منها تنشيط ما خمل، ونشر ما انطوى، وإخراج ما استكنّ، وإذاعة ما استسر، وتنقية ما أسن، وتنميق ما ردئ، وجمع ما تفرّق، وإصلاح ما تشوّه. قوام ذلك كله التبليغ والصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بجميعه داخل تحت عنوان «إحياء أمرنا»، فلا يصح إذن قصر النظر - في تحديد مفهوم ما يتوقف عليه حفظ الدين المجوّز لرفع التقية واسترخاص الدماء - على ما يكون لولاه لاندثر الحق وانقرض، إذ قد يبقى الدين في طيات الكتب وجنبات الصدور، إلا أنه مع تعطيل التبليغ والتجديد يأخذ بالانحسار أو التضاؤل ولو على مدى بعيد، فيقع تحت هيمنة دين آخر يتمدد، ولا يبقى إلا في نطاق ضيق لا تقبله الشريعة، لأنه حينئذ يهدد أصل وجود الدين نفسه، لذا كانت لمطلوبية التبليغ وإقامة الدين من القوة والغلبة ما تذوب فيها سائر المطلوبيات، ولذا نجد اللسان الشرعي في الكتاب والسنة ينحو دوماً منحى التأكيد على إبقاء كلمة الله هي العليا وإظهار الدين على الدين كله ونفي سبيل الكافرين على المؤمنين ونحو ذلك مما يضمن العمل به عدم وقوع ديننا تحت هيمنة دين آخر، فيتعطّل مثلاً شيءٌ من بيان ديننا لأن ديناً آخر يرفضه ويفرض بهيمنته السكوت عن بيان ذلك الشيء.
ونحن اليوم ماضون على ما مضى عليه العلامة المجلسي وغيرهم من الأعلام رضوان الله تعالى عليهم. نقول كما قالوا ونفعل كما فعلوا.
إن العلامة المجلسي صرّح في مقدمة بحاره بأن ما دعاه إلى تأليفه هو ملاحظته وقوع أصول الحديث المعتبرة في الهجران مما أخلى الساحة لرواج العلوم الباطلة بدلاً منها، فانطلق لجمع ما تفرّق منها وإعادة ضبطها وترتيبها وتبويبها، ثم شرحها وإيضاح ما جاء فيها.
لم يكن الحق إذن غير محفوظ، بل كان محفوظاً، ولكنه في طوايا هذه النسخ من أصول الحديث المعتبرة. وكل ما فعله العلامة المجلسي هو إعادة إحيائها وتجديدها بلغة زمانه لكي لا تظل مهجورة لا يلتفت إليها الناس. وهذا عين ما نصنع، فإن الحق في زماننا محفوظ نعم، ولكن أين؟ في طوايا مصادر وكتب قد هُجرت، حتى لم يعد أهل الحوزة أنفسهم يعرفون ما جاء فيها إلا من رحم ربك، فما ظنك بسائر العوام من الناس! فانطلقنا لجمع ما تفرّق فيها وإعادة إحيائه وتجديده بلغة زماننا حتى يتعرف الناس على دينهم من جديد، ويعودون إلى أصولهم الرافضية المهجورة، التي حلّت محلها أصول ومعتقدات وأفكار غريبة مستوردة ببركات عميد المنكر والبتري الأول وأضرابهما وصلت مثلاً إلى حد الادعاء بأن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قاتل جندياً تحت لواء «الخليفة الأول» أبي بكر إذ كان حكمه يقوم على «الإسلام والعدل»!
كان غالب الشيعة لا يعرفون قبلنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قُتل بالسم من عائشة وحفصة بأمر من أبويهما! ومات مَن مات منهم على اعتقاد المخالفين وهو أن النبي صلى الله عليه وآله مات حتف أنفه أو سمّته امرأة يهودية! وكيف يُتصوَّر إمكان معرفتهم بهذه الحقيقة وهي مغمورة في بطون الكتب التي لا يطلع عليها أحد، ولا يجرؤ مَن اطلع عليها أن يتحدث بها على المنابر؟!
فعلنا كما فعل العلامة المجلسي. أخرجنا هذه الحقيقة من مثل تفسير العياشي رفع الله درجاته، ونشرناها. نشرها العلامة المجلسي في بحاره وفي حياة القلوب، ونشرناها نحن في الفاحشة وعلى المنبر. لكن الفرق أن مجزرة قد وقعت على الشيعة في أفغانستان بذريعة ما فعله العلامة، فيما لم يبلغنا قط أن مجزرة قد وقعت بذريعة ما فعلناه! هبْ أنها وقعت وكان هذا سببها حقا؛ ألا نكون في حلٍّ كما كان العلامة المجلسي في حل؟ ومن قبله المفيد؟ وغيرهما من العلماء الأعلام الذين جرّت أفعالهم على الشيعة قتلاً عبر العصور؟ ولئن قلتَ: هؤلاء دوّنوا وكتبوا ما خافوا عليه الضياع. قلنا: وهل لك أن تعتذر بمثل هذا عن المحقق الكركي رضوان الله تعالى عليه الذي كانت مواكب السباب واللعن تمشي بين يديه لم يوقفها مع ورود رسائل أهل المدينة المنورة إليه: أنتم تلعنون أئمتهم في أصفهان ونحن نُقتل بهذا اللعن في الحجاز!
أي شيء خاف المحقق ضياعه ولا تحفظه إلا مواكب السباب واللعن؟ إنما جدّد البراءة المهجورة بهذا الشكل العملي الخارجي المتوافق مع مقتضيات الزمان. وكذلك نحن نفعل بمثل احتفالات البراءة في هذا الزمان.
كم هي نظرة قاصرة تلك التي تفترض أن عوام الناس لن يتلاشى الحق في ما بينهم ما دام مدوّناً في الكتب محفوظاً في قلوب مئات العلماء - مع أنه في الواقع ليس كذلك! - إنها نظرة تفترض أن عوام الناس جميعهم من المتعلمين أو المثقفين من أهل المطالعة للكتب والتفتيش عن المصادر! والحال أن معظمهم لم يقرأوا قط في حياتهم خمس صفحات من كتاب ديني متداول! فكيف بمصدر قديم مهجور غير متداول إلا في أنطقة ضيقة بين بعض العلماء، وهم مع ذلك يسترونه ويخافون من كشف ما فيه بذريعة التقية والخوف على دماء الشيعة ولأن الحق محفوظ في المصادر والصدور!
إنه ليس من حق محفوظ معلوم كحق سيد الشهداء الحسين صلوات الله عليه، فلا أحد من الشيعة لا يعرف مظلوميته، وطغيان مَن طغى عليه وقتله كيزيد عليه لعائن الله، بل يعرف ذلك غيرهم، فذلك مدوّن في ألوف ألوف الكتب، محفوظ في صدور ألوف ألوف العلماء، تتناقله الأجيال منذ نعومة أظفارها، وما من خوف على هذه الحقيقة من الزوال أو الضياع. ومع ذلك لم يُسمع قط أن أحداً من الشيعة طالب بالتوقف عن إحياء هذه القضية والجهر بها على المنابر درءاً للقتل الذي يتعرّض له الشيعة بسبب ذلك! فما زالت الشيعة منذ يوم الطف إلى يومنا هذا تتعرّض للقتل في كل عهد كلما أحيت قضية الإمام الحسين عليه السلام بالمجالس والمواكب والمسيرات العزائية، مع أن مظلوميته من أوضح الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان!
فإذا كانت الدماء تهون في إحياء مظلومية أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع وضوحها؛ فلماذا لا تهون الدماء في إحياء مظلومية أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله مع خفائها؟! وإذا كانت التقية تتعطل في إحياء مظلومية سبط النبي؛ فلماذا لا تتعطل في إحياء مظلومية النبي نفسه؟! وإذا كان الخطيب الذي ينال من قاتل السبط معذوراً بل بطلاً وإن أدّى ذلك إلى مقتل مرتادي مجلسه؛ فلماذا يكون الخطيب الذي ينال من قاتل النبي مأثوماً إذا ما أدّى كلامه لمقتل مرتادي مجلسه؟! وإذا كان الذي يحضر المجلس الحسيني شهيداً إذا قُتل؛ فلماذا لا يكون الذي يحضر المجلس المحمدي شهيداً إذا قُتِل بل يُقال عنه أنه جنى على نفسه وألقاها في التهلكة بحضوره في مجلس يُنال فيه من رموز القوم؟!
إن موازينكم مختلة.. يا قوم!

خامسا: إن واقع التجربة صادق على صوابية نظرنا، فثبت ما كنا نقوله من قبل، وهو أن الانطلاق بهذا المنهج لن يؤدي إلى كارثة يُباد بها الشيعة كما كان يتوهّمه القاصرون! بل على العكس من ذلك، سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقوية الشيعة وتحريرهم من القيود المفروضة عليهم وفرض قبولهم - كما هم - على المجتمعات الأخرى، فتكون محصلة ذلك كله حقن دماء الشيعة وحفظ حقوقهم في الحياة.
التقوية بأن يرجع الشيعة إلى هويتهم الرافضية الأصيلة التي تعزز عقيدتهم وإيمانهم في أنفسهم، ويكونون في أشد وأمتن حصانة من التأثر بالغير، فلا ينساق منهم أحد لمذاهب أو تيارات أخرى بما قد يفضي يوماً إلى أن يتحوّل إلى إرهابي يعود بالقتل على من كان ينتمي لهم! خذ مثالاً (محسن الفضلي)، شاب كويتي شيعي من أسرة شيعية، لو أنها غذّته بالمبادئ الرافضية جيداً منذ الصغر، وشحنته بهذه الشحنات الضدّية، لما تحوّل إلى الديانة البكرية، ثم إلى أقصى التطرف فيها، فانضم إلى تنظيم القاعدة وترقى حتى صار المرافق الشخصي لأسامة بن لادن لعنه الله ومسؤول مالية التنظيم بأكمله! وغدا من أخطر المطلوبين عالمياً، حتى أن الولايات المتحدة رصدت مكافئة قيمتها سبعة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه. وحين بدأت أحداث سورية، نزل للشام وشكّل فصيلا إرهابيا متوحشاً تحت مسمى (تنظيم خراسان) اعتبرته واشنطن أخطر حتى من تنظيم (داعش) ولذا كثّفت ضرباتها عليه حتى قُتل زعيمه، هذا الشاب الفضلي الذي كان يوماً ما شيعياً!
تُرى ما الذي أودى بشاب كهذا في هذه المهالك سوى أنه لم يُعبَّأ منذ الصغر التعبئة الرافضية الأصيلة التي تشكل أقوى الضمانات لعدم انجراره للغير حيث يرى نفساً نِدّاً له؟ لعلك تورد هنا أن ضياع هذا الشاب إنما هو لضعف التربية الدينية بوجه عام، فلو أن أهله جعلوه منذ الصغر من مرتادي المساجد والحسينيات مثلاً لما ضاع هكذا وسقط متأثراً بالمخالفين المتطرفين، إذ يكفي أن يكون ممن يعيشون الأجواء الدينية الشيعية المعتادة لتتشكل تلك الحصانة في نفسه، ولا ضرورة لأن يتربّى على منهجكم الرافضي البرائي. وجوابك: أنّا لا ننكر إمكان كفاية ذلك، إلا أن الحق أن هذا المنهج الرافضي البرائي أقوى ضمانة لعدم التأثر بالغير، لما يحمله من روح رافضية تملأ النفس ثقة وتجعلها ترفض كل ما هو دخيل على إيمانها ويقينها، فهذا أساس «الرفض»!
أن تجعل فرداً رافضياً، معبأً بثقافة الرفض والضدية والإباء والتحدي، ليس كأن تجعله شيعياً عادياً يكتفي في إيمانه بحضور صلاة الجماعة والمجالس الدينية ويستمع إلى المراثي. ذلك لم يكن ليعصم محسن الفضلي مما هلك فيه وأهلك! كما لم يعصم من قبلُ مئات الألوف من الشيعة العراقيين مثلاً الذين قاتلوا تحت راية صدام والبعث في حرب دامت ثماني سنوات عجاف ضد إخوة لهم يشهدون أن عليا ولي الله، مع أن هؤلاء المقاتلين العراقيين كانوا ممن يزور العتبات المقدسة ويحضر المساجد والمجالس الحسينية ويبكون عند ذكر المصيبة!
إن أدنى تغافل عن الشحن الرافضي، أو تهاون فيه، قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تنهك جسد الأمة الشيعية برمته، وتجعله فريسة للآخرين ينهشون فيه كيفما شاءوا.
(جيسون) طالب جامعي إنجليزي، جاءنا قبل سنوات متأثراً بزميل له حجازي متشيع على يدنا، ليتشيع هذا الانجليزي بدوره أيضاً. حصل هذا فعلاً، وأشهر هذا الشاب الانجليزي إسلامه وتشيعه. وبعد فترة التقى بصهر أحد المراجع ووكيله، فحذّره هذا الاثنان من أن يستمع لنا بدعوى أننا متطرفين! قال الانجليزي لهما: سمعت منهم أن عائشة قتلت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فانتفضا وقالا: لا! لا يجوز هذا الكلام على زوجة النبي التي لها مقام يجب احترامه إكراماً للنبي! قال لهما: سمعت منهم أيضاً أن عمر قتل فاطمة الزهراء عليها السلام؟ قالا: لا نعلم بالضبط من قتل السيدة فاطمة! وإثارة هذه الأمور تفرّق بين المسلمين وتسبب سفك الدماء بينهم فعليك بأن تترك هذا الشيخ وجماعته.
استمع هذا الشاب الانجليزي لـ «نصائحهم الرشيدة» وخلال أقل من سنة، صار بترياً، ثم بعد نحو سنتين انقلب بكرياً، ثم تحوّل إلى وهّابي، ثم بالأخير حطّت به الرحال عند التنظيمات المتطرفة الإرهابية! فهنيئاً لأهل النصائح بما فعلوا، أرادوا أن يجنّبوا الأمة سفك الدماء، فإذا بهم أضافوا بحماقتهم إلى السفّاكين واحداً آخر! كل ذلك لأنهم جعلوه يبتعد عن المنهج الرافضي الأصيل الذي لو كان هذا الشاب الإنجليزي قد واصل السير فيه معنا؛ لغدا مؤمناً صالحاً مسالماً واثقاً من إيمانه معتزّاً بعقيدته ومحصّناً من الاغترار بالعقائد والمناهج الأخرى. بدلاً من أن يتأثّر هو بالآخرين، تراه يؤثّر فيهم، فيحوّلهم إلى رافضة، عوضاً عن أن يبقوا وهابيين أو أن يتحوّلوا إلى إرهابيين. وهذا على المدى البعيد هو مما يعصم دماء الشيعة.
إن الفرق بين منهجنا والمناهج الأخرى، أن منهجنا يعبئ المرء تعبئة لا تترك للآخرين مدخلاً له، أما المناهج الأخرى فإنها إذ لا تنطلق بحرية وقوة في طرح المبادئ الرافضية الأصيلة بدعوى أن إثارتها تسبب الفتنة؛ فإنها توقع المرء في شيء من الضعف والتردد وفقدان الثقة بالنفس أمام الآخر، فيكون لهذا الآخر مداخل ومداخل يستطيع من خلالها أن ينفذ ويؤثر فيسيطر. إن العامل النفسي هنا مهم جدا.
اقرأوا تاريخ الشيعة جيداً لتكتشفوا أن من أهم عوامل بقاء الحكومات الشيعية كان الانطلاق بأقصى طاقة في إعلان الرفض وإظهار شعائر البراءة، فيما كان من أهم عوامل زوال الحكومات الشيعية ضعفها في هذا الجانب. لماذا مثلاً بقي الحكم الصفوي وما تلاه منيع الهوية في إيران حتى صار الواقع الشيعي لإيران واقعاً متجذرّاً في الأرض لا يمكن اقتلاعه؛ فيما انهار الحكم البويهي في العراق وتخلخل الحكم الشيعي فيه إلى أن زال؟ كلتاهما منطقتان جغرافيتان الشيعة فيهما أكثرية ساحقة، فلماذا نجح الشيعة في إيران وفشل الشيعة في العراق، مع أن تجربة هؤلاء في العراق أعرق وأقدم؟
من جملة الأسباب، أن الدولة الصفوية - على علّاتها - انطلقت بالرفض إلى أقصى طاقة ومبلغ، فسكّت العملة أول ما سكّتها وعلى وجه منها الصلاة على محمد وآل محمد، وعلى الوجه الآخر اللعنة على أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة! وسيّرت مواكب اللعن في كل الأرجاء بتخطيط ومباركة مرشدها الديني آنذاك المحقق الكركي رضوان الله تعالى عليه، حتى صار الفرد الشيعي من الشعب الإيراني لا يرى أحداً يناهزه أو يكافئه ممن خالفه في دينه ومذهبه، بل رأى في نفسه علو الكعب عليه، فصار هذا العامل النفسي سبباً لأن لا تهيمن على عقيدة هذا الشعب عقيدة أخرى البتة، رغم كل الانتكاسات عبر العصور، ومنها الانتكاسة الحالية بفعل نظام خامنئي، فرغم كل الجهود الحكومية المبذولة، وكل هذا الهوس بما يسمّى التقريب الذي وصل إلى حد الذوبان في الآخر؛ بقي الشعب الإيراني بمجمله متمسكاً بهويته الرافضية، ما إن يحل يوم عيد الغدير الثاني حتى يخرج إلى الشوارع متحدياً السلطات منادياً بلعن عمر! تلك الممارسات الشعبية المتوارثة عبر القرون والتي جعلت الإيراني يستشعر السيادة في نفسه والاعتزاز بعقيدته ومذهبه.
أما في العراق فقد كان الحكم البويهي مختلفاً، لم يكن يعلن الشعائر الرافضية، بل كان يقسو أحياناً على من يقيمها. كان حكماً قوياً في العدة والعتاد، لكنه ضعيف في النفسية أمام الآخر، خاصة في جانب البراءة، فظلّ إسمياً تحت المظلة العباسية، يسرف في المجاملة والتودد، حتى صار هذا عاملاً نفسياً في شخصية الفرد الشيعي العراقي المحكوم من قبله، فجعله يجنح - عادةً إلا في ما ندر - للانبطاح أمام الآخر، والقبول به مهيمناً عليه. لهذا وجدت الأكثرية الشيعية في العراق تقبل منذ القديم أن يحكمها الأقلية حتى حكمها مثل صدام! أما الأكثرية الشيعية في إيران فقد صار ضرباً من ضروب الخيال تصوّر أن تقبل بأن يحكمها غير شيعي!
إن هذا التهاون في تعزيز روح الرفض والبراءة هو من أهم ما أدّى إلى سقوط الحكومات الشيعية عبر التاريخ، وللأمر جانب غيبي أيضاً لا يسعنا التفصيل فيه.
هذا على الصعيد الحكومي، أما على الصعيد الاجتماعي، فلو راجعت التاريخ الشيعي كذلك لوجدت أن المجتمعات الشيعية التي بقيت تعزز هويتها الرافضية - بما يقتضي الجهر بالبراءة - هي التي عاشت وتمددت وإن لم تمتلك سلطة، أما تلك التي أهملت هذا التعزيز وعملت بالتقية المغلوطة أو الإفراطية فهي التي ضعفت وانحسرت وخسرت ثقلها بل وجودها وإن كانت السلطة بيدها.
مثال الأولى: القطيف، بلدة ترسّخ فيها الوجود الشيعي وتمدد حتى عمّ المنطقة الشرقية على امتدادها الواسع، وبقي فيها التشيع قوياً إلى اليوم رغم كل المحن والمصائب وحملات الإبادة، ورغم عدم امتلاك أهل القطيف سلطة، وما ذاك إلا لما حكاه ابن بطوطة عنهم من أنهم «رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً لا يتّقون أحداً»!
مثال الأخرى: حلب، بلدة ضعف فيها الوجود الشيعي حتى انحسر وزال، رغم أن الشيعة كانوا فيها الأكثرية الساحقة، وكانت يوماً ما عاصمة الدولة الحمدانية الشيعية، كما كانت مركزاً علمياً شيعياً شامخاً خرّج أفذاذ العلماء، إلا أن كل ذلك لم يفلح في ضمان الوجود الشيعي هناك ومقاومة الحملات، وما ذاك إلا لما حكاه التاريخ عن مجتمع حلب وقيادتها من ضعف مظاهر الرفض والقعود عن إظهار البراءة مقابل الغلو المفرط في التطبيع مع الآخر ومجاملته وتقديمه، ذلك الغلو الذي بلغ حد قبول شيعة حلب بأن يتولى القضاء بينهم (أبو الجود) القاضي الحنفي البكري!
إن علينا أن نتعظ من تاريخنا ونتلافى أخطاءنا، فلا نفرّط بتقوية الروح الرافضية في مجتمعاتنا، ولا نسمح بأن تخبو جذوة التوهين للباطل ورموزه، فإن أدنى تفريط أو سماح بذلك سوف يؤدي إلى تشجّع العدو واستقوائه علينا، حينئذ تُزهق أرواحنا وتُسفك دماؤنا وتُنتهك أعراضنا. قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «لو لم تتخاذلوا عن مُرِّ الحق ولم تَهِنوا عن توهين الباطل؛ لم يتشجّع عليكم مَن ليس مثلكم! ولم يقوَ من قَويَ عليكم»!
لذا نقول بكل ثقة: إن منهجية أهل العالم الأول هي التي تعصم دماء الشيعة وتحفظ أرواحهم في محصلة الأمر، لأنها من جانب تقوّي النفسية الشيعية بما يجعلها عصيّةً على الذوبان في الآخر أو الانسياق إليه، وبما يجعل الآخر منهزماً نفسياً لا يفكّر في أن يستقوي أو يتشجّع على أحدٍ من الشيعة لما يراه من قوّتهم وبأسهم، فتبقى المجتمعات الشيعية بذلك قوية تتمدّد، وكلّما زاد تمدّدها كلما اشتدّت مَنعَتها واعتصمت دماؤها. وهي من جانب آخر؛ تخترق المجتمعات المخالفة بانتشار متسارع يؤدي إلى إدخال أفواج منها في دين الله، مما يقلّل من نسبة مَن ينزلق من تلك المجتمعات للإجرام والعنف والإرهاب، ويُحدث على الأقل اختلالاً بنيوياً في تلك المجتمعات يجعلها تنشغل به.
إن أية أمة تريد أن تحمي نفسها وتُحكم حصانتها عليها أن لا تهمل أموراً ثلاثة:
1- تربية أبنائها على استشعار السيادة والعزة والأخيرية مع الثقة العالية بالنفس والافتخار بالهوية والانتماء.
2- العمل التوسعي الدؤوب والمستمر بحيث لا يصيب الأمة أي تضاؤل أو انكماش، لا في العديد ولا في النفوذ.
3- اختراق العدو وإضعافه وخلخلة بنيانه بما لا يترك له فرصة لأن يتوجه للحرب أو الاعتداء.
وهذا ما تتكفل به منهجية أهل العالم الأول، وهي المنهجية التي أثبت التاريخ الإنساني نجاحها، فعلى سبيل المثال، إنك لا تجد اليوم أمة قوية عزيزة منيعة وناجحة في فرض نفسها على العالم كالأمة الأميركية، وما ذاك إلا لأنها اعتمدت المبادئ الثلاث تلك، فالمواطن الأميركي يُربّى منذ نعومة أظفاره على أنه سيد العالم الذي ليس له كفو وأن الولايات المتحدة هي مشعل الحرية والديموقراطية والإنسانية في العالم لذا حق لها أن تسود الأمم. وتجد جميع الحكومات الأميركية المتعاقبة - على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها الحزبية المتعارضة - لا تختلف أبداً على العمل التوسعي الذي يجعل لأميركا اليد الطولى في العالم وإن اقتضى ذلك الحروب أو المواجهات، ولا تزال أميركا رغم ما تعانيه من مصاعب بسبب كثرة الوافدين إليها تجري قرعة سنوية تسمع لأكثر من خمسين ألف مهاجر عشوائي بالهجرة إليها من شتى البلدان لكي تضمن أن تكون ذات كثافة سكانية ضخمة ومتنوعة، وأما اختراق العدو وإضعافه فيكفيك أن تعرف أن انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يوماً ما عدو أميركا اللدود؛ إنما حصل بسبب اختراق أميركي فكري لأعلى طبقة سوفييتية حاكمة، حين مال زعيم كغورباتشوف إلى الرأسمالية التي تتبناها واشنطن بدلاً من الشيوعية التي تتبناها موسكو، فأطلق غورباتشوف سياسته الاقتصادية الجديدة (البيريسترويكا) التي ما لبثت أن خلخلت الوضع الاقتصادي للاتحاد السوفييتي برمته إلى أن انهار وتفكك.
هكذا نجحت أميركا في أن تصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم. ليس يعني ذلك بطبيعة الحال أنها لم تتكبّد الخسائر في تاريخها الطويل؛ فلقد تكبّدت الخسائر حتى في الأرواح إلى اليوم، إلا أنك لو دقّقت النظر لوجدتَ هذه الخسائر مستهلَكة في المصالح والإنجازات الكبيرة التي تحققت، وعلى رأسها أن أميركا أكبر قوة سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية يعرفها العالم اليوم، لا يدانيها في ذلك أحد.
ثم إن هنالك فائدة تحققها منهجية أهل العالم الأول تصب في صالح حفظ نفوس الشيعة، وهي فائدة غُفِل عنها مع أن آثارها ملموسة اليوم، وتتمثل بتجريد المخالف من الانفعال وترويضه على تقبل وجود اللغة النقدية الشيعية لرموزه كأمر واقع لا بد من التعايش والتكيّف معه.
إنّا لا ننكر أن الاستهانة بعقائد الآخرين أو هدم ما يحملونه من فكر يؤدي إلى شيء من الاضطراب الاجتماعي؛ إلا أنّا ومن واقع التجربة التي طابقت النظرية نرى أن ذلك إنما يكون في البداية فقط، فما إن يمضي الزمن حتى ترى كل طائفة تتقبل ما يورَد به على معتقداتها وأفكارها وتتعامل معه كحالة طبيعية في مجتمع تعددي مختلف العقائد والتوجهات.
لقد نجحت هذه المنهجية نجاحاً باهراً في هذا الشأن بفضل الله ورسوله صلى الله عليه وآله، فبالأمس كانت أخف كلمة تُقال ولو تلميحاً ضد «الرموز» تحدث ارتجاجاً وبلبلةً في المجتمع، بل كان نقد أمثال هارون العباسي لعنه الله يؤدي إلى طرد خطيب مشهور من الكويت - هو السيد الفالي - وكأنه ارتكب جريمة عظمى! أما اليوم فإن الناس جميعاً يسمعون يومياً عبر القنوات أحدّ الكلمات وأجرأها ضد أقدس رموز أهل الخلاف كأبي بكر وعمر وعائشة لعنهم الله؛ وقد تروّضوا وتروّضت مجتمعاتهم بل وحكوماتهم على تقبّل ذلك. قد تروّضوا إلى حد أن مشايخ ودعاة عدة من أهل الخلاف حين يتصلون بنا على الهواء يحترموننا إلى حد أنهم يمتنعون من الترضي عن رموزهم أمامنا مراعاة لمشاعرنا! نعم؛ لقد فرضنا معادلة جديدة في هذه الأمة، لا يكون فيها الشيعي مضطراً لأن يراعي مشاعر الآخرين بقدر ما يكون فيها الآخرون مضطرين لأن يراعوا مشاعره.
إذن؛ لا بد لنا من أن نتحمّل ردة الفعل في بادئ الأمر، إلى أن نتمكن من تطويع المجتمع بمختلف فئاته على تقبل هذه الحالة، وحينئذ لا تجد الفرد المخالف يثور أو يهيج بمجرد أن يسمع لعناً أو سباً لأبي بكر وعمر مثلاً، لأن أذنه قد اعتادت على سماع هذه اللغة النقدية الرافضية، وعقله استوعب أن هنالك شطراً من هذه الأمة له موقف مضاد معروف تجاه هذه الشخصيات الغابرة. حرية الرأي هنا تكون هي الحاكمة، وهي التي تنزع فتيل التوتر.
أما أن يُسكَت عن هذه الشخصيات؛ فذلك يؤدي في الواقع إلى تدعيم اعتقاد أنها مقدسة في الوعي العام، وحينئذ لا يمكن حتى التعريض بها ولو تلميحاً أو إشارة، إذ يمتلئ المجتمع حساسية من ذلك، حتى إذا وقع شيء من البحث في هذه الشخصيات صار ذلك سبباً لأن يخرج الناس من أطوارهم ويدقّون طبول الحرب! كل ذلك لأنهم ما اعتادوا مثل هذا من قبل.
لذا نقول بلا تحامل: إن أهل العالم الثاني - على حسن نواياهم - لا يدركون أية كارثة يجلبونها علينا حين يُسهمون في تدعيم قداسة أبي بكر وعمر وعائشة وزيادة تحسّس المجتمع تجاه نقدهم، فيدفعون بذلك مراهقي أهل الخلاف للانفجار وارتكاب العنف، لا حين يطرق أسماعهم النيل من رموزهم فحسب؛ بل حين يتصفحون صفحات الإنترنت مثلاً فيقفون على أمهات المصادر الشيعية ويقرأون فيها ما يصدم عقيدتهم في رموزهم، ولذا فإنه على فرض أن أهل العالم الأول جميعاً تقاعدوا، وعلى فرض أن أحداً من الشيعة لن ينال من رموز القوم مطلقاً حتى بتعليق عابر هنا أو هناك، وعلى فرض أنه قد اختفت مظاهر إظهار البراءة بالكلية، فإن ذلك لن يجدي اليوم نفعاً، فلقد تعدّى المخالفون مرحلة الاعتماد على ما يقوله الشيعة إذ صارت مصادرهم الأصلية في متناول أيديهم وهي عندهم أولى بالاعتماد.
ولو أن أهل العالم الثاني انضموا إلى أهل العالم الأول لأسهموا في تجريد هؤلاء المراهقين من الانفعال والصدمة إذ يعتادون على ما يسمعون ويقرأون ولا يكون ذلك مفاجئاً لهم بشيء، خاصة أنه يكون مقروناً بالدليل الذي يبدد أوهامهم أو يضعضعها على أقل تقدير، وكثيراً ما يقودهم ذلك لا إلى ترك الانفعال والهيجان فحسب؛ بل إلى ترك ما كانوا عليه من اعتقاد حتى ولو كانوا عازمين على الإجرام ثأراً له، بل ولو كانوا داخلين فيه فعلياً، ففي عام 1432 تلقينا رسالة من شاب من مدينة حائل فيها أنه كان قد انخرط في الإرهاب وانضم لتنظيم القاعدة وهو يحمل أقصى مشاعر البغض للشيعة، حتى أنه سافر للعراق للقيام بالعمليات الإجرامية باسم الجهاد. المهم في الأمر أنه حين ضجّ العالم البكري بسبب احتفالنا الأول بهلاك عدوة الله عائشة كان هذا الشخص ممن ثار فأخذ يتتبع محاضراتنا بقصد أن يقف أكثر على «شركياتنا وبدعنا وضلالاتنا» فإذا بتلك المحاضرات تغيّر اعتقاده بالكلية فيغدو بعدئذ شيعياً رافضياً! ولك أن تطلع على رسالته بتمامها في موقع القطرة لتقف على شرحه التفصيلي لهذا التحوّل العظيم.
وكم من نظير لهذا الشاب الذي هداه الله تعالى. هنالك مثلاً الأخ (سامي) وهو بريطاني من أصل فلسطيني، كان كذلك مما هاله ما علمه منا من احتفال بهلاك عدوة الله عائشة، فجاءنا في البداية معترضاً مناقشاً، ثم ما لبث أن تشيع وجهر بالبراءة بالصوت والصورة، وأسرّ بعدئذ لأحد الأخوة أن مجيئه كان بالأصل لكي يتعرّف علينا عن قرب ويتحيّن الفرصة لاغتيالنا!
هكذا تتقدم المنهجية الرافضية الأصيلة إلى الأمام وتستنقذ الناس وتحوّلهم من مشاريع للقتل والإجرام والشر إلى مشاريع للردع والسلام والخير.

سادسا؛ نتيجة ما نال الشيعة من اضطهاد متوالٍ عبر التاريخ من مخالفيهم فإنهم أصيبوا أخيراً بـ (فوبيا) أفقدتهم النظرة الواقعية للأمور والحوادث، وأوقعتهم في الارتباك أمام المخالف العقدي وتضخيم شأنه وتهويل ردود فعله.
إن هذه الفوبيا محصورة عندنا اليوم بالمخالف العقدي دون غيره وإن كان هذا الغير أقوى منه وأشد بأساً كالكافر الصهيوني مثلاً، فإنك لا تجد أحداً من الشيعة ينكر على ما يسمى بـ (حزب الله) تصدّيه لهذا الكافر واستفزازه له أحياناً بما أدّى إلى مقتل ألوف الشيعة في لبنان، كما في حرب تموز حيث أسر الحزب جنديين صهيونيين فاستُفزَّت حكومة تل أبيب وشنّت حرباً دكّت فيها المناطق الشيعية في لبنان دكّاً حتى سالت الدماء أنهاراً. لا أحد تكلّم حينها عن التقية ووجوبها أو عن عدم صحة هذا الاستفزاز، كما لم يتكلّم أحد يُذكر عن ذلك حين دفع (مقتدى الصدر) مقاتلي (جيش المهدي) للتحرش بالقوات الأميركية في العراق فوقعت تلك الصدامات الدامية الذي ذهب ضحيتها مئات من الشيعة أيضاً حتى في المدن المقدسة كالنجف وكربلاء. تُرى لماذا لم يتكلم أحد حينها بما يُتكلَّم به اليوم ضدنا مع أن هذا الكافر الصهيوني أو الأميركي أشدّ بأساً من المخالف العقدي وإذ ذاك تكون التقية منه آكد؟
الجواب واضح؛ وهو أن الشيعي لا يعاني من (فوبيا) الكافر، لذا فإن نفسه تتقبل فوراً الاشتباك معه وإن سالت الدماء، ولا تحضر التقية هنا ولا غيرها من العناوين، بل تحضر قيم الجهاد والإباء والبطولة والتحدي.. إلخ، وهي ذاتها التي تحضر عند الاشتباك مع المخالف السياسي مع أنه أيضاً أقوى عدة وعتاداً من المخالف العقدي، فلا أحد قط سُمع يُنكر على (نمر النمر) مثلاً تصدّيه لحكومة آل سعود وتركه للتقية مع ما استتبع ذلك من دماء سالت في القطيف، ولا أحد أنكر على الذين ثاروا على حكومة آل خليفة وناداهم بالتزام التقية حقناً لدماء الشيعة، كما لا أحد أنكر من قبل على (خميني) أو (محمد باقر الصدر) ما فعلا من ترك للتقية، اللهم إلا من كان غير مسموع الكلمة.
إن مردّ ذلك هو أن الفوبيا محصورة عندنا بالمخالف العقدي، مع أنه في واقع الحال أضعف بكثير ممن نواجهه ونعرّض أرواحنا للخطر في مواجهته. ولو أننا أجرينا جرداً للحساب في عصرنا الراهن، لاكتشفنا ببساطة أن مواجهتنا للكافر أو المخالف السياسي أزهقت من الأرواح ما لا يمكن أن يُقاس أو يُقارَن مع ما تمخّض من مواجهتنا للمخالف العقدي، فهناك ذهب الملايين ضحية لتلك المواجهات حتى امتلأ العراق مثلاً بالمقابر الجماعية، أما هنا فلا تكاد تجد إلا حادثة يتيمة كاستشهاد الشيخ حسن شحاتة رحمه الله، وقد كان لوقوعها أيضاً بعض العوامل السياسية إبان حكم الإخوان لمصر كما هو معلوم، فلم تكن حادثة مقتله بدافع عقدي صرف، وإلا فإن الشهيد كان على منواله في الطعن برموز القوم علناً طوال عهد حسني مبارك، وكانت مقاطع طعوناته المرئية تبث على القنوات البكرية بالصوت والصورة لسنوات تحريضاً عليه، ومع ذا لم يتحمّس أحدٌ لقتله إلى أن تضاربت السياسات في عهد الإخوان فذهب الشهيد ضحيتها.
إن الفرد منّا عليه أن يتخلص أولاً من هذه الفوبيا حتى ينظر للأمور كما هي في الواقع، بلا تضخيم أو تهويل، حينئذ سيكتشف أن الكلام عن أن «هذا المنهج يفتح الباب لحرب طائفية طاحنة تأتي على الأخضر واليابس وتهدد الكيان الشيعي بالإضعاف والاضمحلال والتقهقر ويجعل على الأقل نفوساً كثيرة في معرض التلف.. إلخ» هو كلام لا محل له إلا في عالم الخيال، فلا المخالف العقدي بتلك القوة، ولا يده بتلك الطلاقة.
والذي يقع فيه بعضنا هو خلط حوادث القتل علينا، فيحسبها من أثر هذا المنهج المبارك أو من تداعياته، ويتوهّم أنه لولاه لما وقعت تلك الحوادث أو لقلّت إذ المنهج يزيدها. والحال ليس كذلك؛ إذ لا بد من التحليل والتفكيك، وبعدهما يتضح أن هذا المنهج بمجرده لا يشكل عند المخالف العقدي محفزّاً لقتل الشيعة اليوم، وذلك لأسباب عديدة تحول دون ذلك، منها: ضعف هذا المخالف العقدي في نفسه، وظروف عالمية أو إقليمية تقيّده وتروّض نفسه على تقبّل الآخر كما هو، مضافاً إلى اكتفائه بما يبديه خصوم هذا المنهج من الداخل الشيعي من إدانة له وأنه «لا يمثل الشيعة وهم منه بريئون» وهو مما يُشعر المخالف في نفسه رضاً وارتياحاً يحجزه عن ارتكاب أي فعل إجرامي خارجٍ عن الأطوار في حقهم.
هذه هي القاعدة العامة في السواد الأعظم من المخالفين، أما الشُذّاذ منهم فهم الإرهابيون، وهؤلاء ماضون في أجندتهم التي تقتضي تعبئة جماهيرهم بما يسمح بتجنيدهم لقتل الشيعة وغيرهم، فسواءً كان هذا المنهج موجوداً أم لا؛ إنهم ماضون، غايته أنهم إذا فقدوا هذا المنهج كذريعة للتعبئة والتحريض علينا؛ اتخذوا ذريعة أخرى واستلّوها من أي مكان، ولو من الواقع السياسي، ففي الأعوام التي تلت سقوط النظام الصدامي احتدم قتلهم لنا في العراق بما لم يسبق له مثيل، حتى بلغ الذروة في عام 2007، هذا رغم عدم انتشار وجود هذا المنهج المبارك آنذاك، فما كانت ذريعتهم وقتئذ؟ سب «الصحابة»؟! كلا.. بل «مجيء الشيعة على ظهور الدبابات الصليبية»! ثم ما لبث أن خرج (الزرقاوي) وأضرابه يعلنون ارتداد الشيعة الذي يبيح قتلهم لأنهم مشركون عبّاد للقبور يقولون: «يا علي.. يا حسين»!
وكما هو معلوم؛ كانت انطلاقة هذا المنهج الرافضي المبارك على المستوى العالمي في سنة 2010 مع الاحتفال الأول بمناسبة ذكرى هلاك عدوة الله عائشة وبدء بث القناة الفضائية، يومئذ احتُبست الأنفاس وبلغت القلوب الحناجر وظن الشيعة «بالمخالفين» الظنونا! ظنوا أنهم سيعلنون الجهاد على الشيعة وأن المجازر ستقع علينا في كل مكان ولا سيما في العراق وباكستان والجزيرة المحمدية، وخرج مَن خرج حينها من خطبائنا يصرخون ويولولون ويحذرون وينذرون من كوارث ستقع وبلايا ستعم! فإذا بالأيام تمضي لتثبت ما قلناه منذ الأيام الأولى من أن ضجة أهل الخلاف ما هي إلا «ظاهرة صوتية وفرقعة إعلامية لن تُسفك فيها قطرة دم شيعية واحدة، وسرعان ما ستندثر ويطويها الزمن»! فمضت السنة الأولى، وتبعتها الثانية فالثالثة فالرابعة، واحتفالاتنا تتوالى، وأصواتنا تتعالى، ولا يُرى من أهل الخلاف ثأر دموي لعائشة ولا يُسمع لهم إلا النحيب. حتى إذا جاءت سنة 2014 واستفرخ تنظيم إرهابي جديد نفسه باسم (داعش) نتيجة ظروف سياسية مضطربة وقعت في سورية، ثم تمدد إلى داخل العراق فسيطر على الموصل، فكان من إجرامه أن أخذ مئات من متطوعي الحشد الشعبي من قاعدة (سبايكر) ليقتلهم، وحين بُثّ المقطع المرئي لذلك وُجد أن أحد هؤلاء القتلة صوّب المسدّس على رأس أحد هؤلاء المتطوعين قبل أن يرميه في النهر وهو يقول: «هذه لأمنا عائشة»! فإذا ببعض السذج المناوئين لنا من خطبائنا يرون أنهم قد وجدوا ضالّتهم، فهاجوا وصاحوا قائلين: «أرأيتم ما سبّبه هذا المنهج من سفك الدماء! ألم نقل لكم»؟!
ولم يسأل هؤلاء السذج أنفسهم أن كيف لم يقع هذا في السنوات الأربع التي خلت حين استحرّ أهل الخلاف نقمةً علينا وغضباً؟! أوليس ذلك لأن «الثأر لعائشة» ليس هو السبب الحقيقي لهذه المجزرة المتأخرة؟! وإنما السبب الحقيقي هو رغبة ذلك التنظيم الإرهابي بالتمدد بأي عنوان وتحت أية ذريعة، فإذا وجدها في «الثأر لعائشة» أخذها، وإذا لم يجدها أخذ غيرها، كما كان يحصل في اللطيفية من قبل - والمقاطع المرئية موجودة ومنتشرة كذلك - حين كان يؤخذ الشيعة ويُدعون للبصق على ما بحوزتهم من صور تخيلية للإمام أمير المؤمنين عليه السلام فإذا لم يفعلوا قُتلوا! أفهل سمعتَ قائلاً يقول: «أرأيتم ما سبّبته هذه الصور من سفك الدماء! ألم نقل لكم»؟! فتكون هذه الصور والرسومات هي السبب الجوهري لقتل الشيعة! ويكون أولئك الرسّامون المساكين الذين رسموها قد ارتكبوا أعظم الجرائم حين عرّضوا أرواح الشيعة للخطر! فويلاً لهم!
إنك إذا سمعتَ قائلاً يقول هذا لشككتَ في سلامة عقله! لأنك تعلم أن المشكلة عند الإرهابيين ليست في الصور والرسومات، ولا في أن يروا مشاهد زيارة الأربعين فيغتاظون ويقتلون الزوار، ولا في غير ذلك من مظاهر التشيع بما فيها مظاهر البراءة.. المشكلة الحقيقية عندهم هي في أنهم دمويون يريدون التمدد والسيطرة على كل حال، فلا يسعهم إلا تكفير من يقف بوجوههم لأي سبب يجدونه، شيعياً كان هذا المكفَّر أم غير شيعي، بل ولو كان سلفياً وهابياً. ألا ترى كيف كفّروا بعضهم بعضاً وخاضت فصائلهم قتالاً في ما بينها كالذي وقع ويقع بين (داعش) و(جبهة النصرة)؟!
إنّا لو افترضنا أنّا لم ننطلق بهذا المنهج البتة؛ لما رأينا أي تغيّر في مسار الأحداث الميدانية. كان أحدهم سيشعل النار في نفسه في تونس، فيتطور الأمر إلى ثورة شعبية هناك تطيح بالحاكم، تتشجع على إثرها شعوب أخرى في مصر وليبيا واليمن، فتثور من جانبها وتطيح بحكامها، ويتشجع ضمن هذا الخط شعب سورية، فيثور، فيضطرب الوضع، فتتشكل فصائل مقاتلة، بعضها من القاعدة التكفيرية الإرهابية، تدخل هذه الفصائل على الخط، وتستقطب مقاتلين من الخارج، ويختلط الحابل بالنابل على الأرض السورية، ثم تتوالى الأحداث إلى أن يقوى منهم فصيل سمّى نفسه بالدولة الإسلامية. تمدّد هذا الفصيل شيئاً فشيئاً إلى الأراضي العراقية، حتى سيطر على الموصل وما حولها. أدّى ذلك لأن يصدر المرجع الأعلى للشيعة فتوى بوجوب الجهاد الكفائي، فانبرى مئات الألوف من هذا الشعب الصابر للتطوع في حشد شعبي، أُخذ بعضهم إلى قاعدة (سبايكر) وإذا بهم يقعون فريسة للإرهابيين بسبب خيانات القادة العسكريين وضعف إستراتيجياتهم، فأخذ الإرهابيون هؤلاء وبدأوا بإعدامهم ورميهم في النهر.
هذا الذي كنت ستراه حتى ولو لم يكن لنا ولمنهجنا وجود! لأن أسباب هذه التطورات غير مرتبطة بنا لا من قريب ولا من بعيد، إنما هي تطورات سياسية وإقليمية معروفة. غاية ما هنالك أنك ربما كنت سترى المقطع المرئي لجريمة قتل متطوعي (سبايكر) خلواً من عبارة «هذه لأمنا عائشة» إذ تُستبدل بها عبارة أخرى من عباراتهم.
إن عدم تغيّر مسار الأحداث الميدانية في ما لو لم يكن هذا المنهج موجوداً كاشفٌ عن بطلان دعوى أنه ضاعف من حوادث قتل الشيعة. ولا يمكن أن تثبت هذه الدعوى إلا بملحوظية أنه يكون سبباً جوهرياً لوقوع تلك الحوادث، لا ذريعةً عارضة، وجودها وعدمها سيّان، لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يزيد ولا يُنقص.
يمكن مثلاً إثبات هذه الدعوى بأن تقع حوادث في غير مناطق الصراع بحيث يكون المحفّز الأساس لوقوعها هو هذا المنهج، بأن أخرج مخالفاً - عادياً لا إرهابياً بالأصل - عن طوره فقتل جيرانه من الشيعة ثأراً لعائشة. إلا أنك لا تجد شيئاً من هذا البتة، لا تجد أن حادثة وقعت في عمان - مثلاً - من هذا القبيل، مع أن أهلها المخالفين يسمعون على الهواء يومياً ذم عائشة ولعنها. إنما تجد الحوادث تقع متوالية في مناطق الصراع في العراق وسورية وباكستان مثلاً، حيث لا ارتباط بين نشوب الصراع وتواليه في تلك المناطق وبين هذا المنهج. نعم؛ من الطبيعي أن يكون حاضراً كذريعة عارضة ليس إلا.
إن أزمة الفوبيا التي يعيشها الشيعة تجاه المخالف العقدي هي التي تفقدهم صوابهم في تحليل الأحداث وتبعدهم عن النظرة الواقعية للأمور، فيتخيّلون أموراً لا واقع لها، ويفترضون افتراضات لا أساس لها، وما نحن فيه إنما هو من هذا القبيل.
ثم إن مما زاد من إبعاد الشيعة عن النظرة الواقعية للأحداث والأمور ضعف وعيهم، وسذاجة السواد الأعظم منهم، لذا تراهم ينظرون للأمور بسطحية يستحقون لأجلها الشفقة. فعلى سبيل المثال؛ ترى بعض الشيعة - خاصة أولئك المغرّر بهم من النظام الخامنئي - يحسبون أن الجريمة التي وقعت في محرم الماضي في الإحساء، حين هجم بضع أفراد إرهابيين على حسينية صغيرة فقتلوا فيها بعض الشيعة عشوائياً ثم لاذوا بالفرار؛ يحسبون أنها من تبعات قناة فدك!
إن الفوبيا التي تكلمنا عنها هي التي تدفع هؤلاء لجلد الذات بدلاً من إلقاء التبعة على أصحابها الحقيقيين، وهم قنوات العدو كوصال وأخواتها، التي ما فتئت تهدد علناً بقتل واستئصال الشيعة وتحرّض المجتمعات البكرية عليهم. وهذه القنوات ظهرت إلى ساحة الوجود بخطابها هذا قبل فدك بسنوات، فكيف صارت التبعة على فدك المسكينة؟! وألا يماثل ذلك إلقاء التبعة على المقاومة - أصل المقاومة - في فلسطين مثلاً في ما جرى ويجري على شعبها من قتل وجرائم حرب من العدو الصهيوني؟! من الذي بدأ؟!
هنا يأتي دور السذاجة، فتجد السُذَّج منّا يظنون أن قنوات العدو إنما تقتات على ما نقدّمه لهم من مادة يستغلونها للتحريض علينا، ولو أن هذه المادة اختفت لاختفت تلك القنوات ولانتهى قتل الشيعة!
بهذه السذاجة المثيرة للشفقة ينظر بسطاء الشيعة والمغرر بهم للواقع فلا يدركونه، أما أهل الوعي والحصافة منهم فيدركون. يدركون أن هذه القنوات لا تختفي إلا في حالة واحدة، هي أن يتصالح النظام السعودي مع النظام الخامنئي! فوصال وأخواتها إنما تأسست بدعم سعودي ورعاية كاملة، ولا أدل على ذلك من أن وزير الإعلام السعودي السابق أصدر قراراً بإغلاق قناة وصال بعد جريمة الإحساء سالفة الذكر لأنه رأى أن لها ضلعاً بالحادث الإرهابي بشكل واضح، ولم يكن المسكين يعلم بأن هذه القناة وأخواتها محمية من رأس النظام، فإذا بالملك الهالك عبد الله بن سعود يصدر قراره في اليوم التالي مباشرة بإقالة هذا الوزيرعقاباً له على «التحرّش» بقناة الشر والإرهاب!
إن هذا التصرف من النظام السعودي ليس له سوى تفسير واحد؛ أنه هو من يقف وراء هذه القنوات. فيأتي هنا دور السؤال: أية مصلحة لهذا النظام في تأسيس ودعم وحماية هذه القنوات؟ والجواب: هو أن هذا النظام يخوض صراعاً إقليمياً معروفاً مع النظام الخامنئي على مستويات وجبهات متعددة، وهو يخشى من أن ينهض الشيعة في المنطقة الشرقية مع هذا النظام الخامنئي فيختلّ توازن القوى بالكلية، فلا بد له - والحال هذه - من أن يعبّئ شعبه ضد الشيعة بطريق غير مباشر، حتى يكون هذا الشعب المعبّأ على أهبة الاستعداد لأي طارئ في مواجهة الشيعة إذا ما نهضوا مع النظام الخامنئي.
إن كلا الطرفين - نظام آل سعود ونظام خامنئي - يتوسلان هنا بالتعبئة الشعبية الطائفية بنحو ما لزيادة رصيد القوة الاستراتيجية، ولولا هذا الصراع الإقليمي لما كنت ترى نظام خامنئي - في المقابل - يُفرد في إعلامه برامج يعطي بعضها للبالون وأمثاله لنقد ومهاجمة عقائد أهل الخلاف، فلقد كان هذا بالأمس القريب من أكبر المحرّمات في الأجندة الإيرانية إذ كان يعدّ ضرباً من ضروب إثارة الطائفية والشقاق بين المسلمين! وكان الإعلام الإيراني وأذياله يحرص على تقديم «الخطاب الوحدوي العام الشامل لكل المسلمين» والابتعاد عن أي طرح مذهبي حتى ولو كان في بث الأذان بالشهادة الثالثة في قناة المنار! فما عدا مما بدا؟ وكيف تحوّل الأمر إلى أن تسمع من التلفزيون الرسمي الإيراني أن «عائشة في النار» حين قالها البالون ذات مرة؟! ولماذا فجأة هبط على خامنئي الاهتمام بتغذية الروح الشيعية فيمن يتولّاه من العرب خارج إيران حتى اندفعوا إلى التشيع - كزعيم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الذي تشيّع سراً - بينما كان يكتفي سابقاً منهم بالولاء السياسي فحسب وإن بقوا على مذاهبهم؟!
إنه الصراع الإقليمي بين هذين القطبين ليس إلا، تلك هي القضية، كلٌ فيها يلعب لعبته باسم الدين والمذهب لأنه يمثل الضمانة الحقيقية للنجاح في الصراع إذ يغدو صراعاً دينياً مقدساً لا سياسياً كما هو في واقعه الأصلي! ولو أن هذا الصراع اختفى لوجدتَ كل هذه القنوات تختفي فجأة!
فانظر كيف قادت السذاجة ذلك الشيعي المغرّر به من النظام الخامنئي لأن يلقي بالملامة على قناة فدك ويطالبها بالتوقف حتى تتوقف وصال وأخواتها وينتهي قتل الشيعة، والحال أن الملامة واقعة على سيده خامنئي لإصراره على معارضة السياسات الأميركية والسعودية في المنطقة، ولو أنه قَبِلَ بالتوافق معها لتلاشى الصراع بين القطبين الإقليميين وحلّ الصلح والوئام، وحينئذ سيبادر آل سعود بإغلاق تلك القنوات وتتلاشى تبعاتها الإجرامية!
أرجو أن لا يُفهمنّ كلامي خطأً. إني لست مع السياسات الأميركية، ولا السياسات السعودية، ولا السياسات الخامنئية. تباً لهم جميعاً ولسياساتهم! إنما هذا هو واقع الحال والتحليل الدقيق لواقع الصراع ليس إلا.
وعليه فلا نحن ولا قناة فدك ولا أياً من أهل العالم الأول يتحمّلون شيئاً من التبعات كما يتوهّم قاصرو النظر والسذَّج البسطاء والمغرّر بهم، فالصراع أكبر منّا ومنكم، ووجودنا وعدمه لن يغيّر شيئاً من جوهر هذا الصراع وتداعياته.
إن هنالك اليوم عشرات القنوات الفضائية والمواقع النصرانية التي تطعن ليلاً ونهاراً في قدس النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فما بالنا لا نرى أحداً من أهل الخلاف ارتكب جريمة في النصارى الذين يسكنون في ديارهم ثأراً وانتقاماً؟! لماذا طوّعوا أنفسهم وروّضوها على تقبّل وجود الخطاب النصراني كما هو؟!
إن هذا بسبب أنه لا صراع سياسياً إقليمياً بين قطبين: مسلم ونصراني. ولو كان لوجدتَ دخول الدين على خط هذا الصراع السياسي بالنحو الذي أُقحم فيه الدين على خط الصراع السياسي بين القطبين: الشيعي والبكري في المنطقة. فتقع حوادث القتل باسم الدين حينئذ، لكن جوهر أسبابها غير ذلك.
والحاصل؛ أن الحوادث الإجرامية التي تقع هنا وهناك لا تعود إلى منهجية أهل العالم الأول، بل إلى صراعات سياسية وتطورات إقليمية. وليست منهجية أهل العالم الأول إلا شيئاً عارضاً يسيراً على هامش هذه الصراعات والتطورات، لا يغيّر من جوهرها شيئاً. حاولوا أن تنظروا للأمور بعمق.

سابعاً؛ إن من الطبيعي أن تواجَه كل دعوة حق بمزيدٍ من التعصب للباطل من أهله، بل والجنوح منهم إلى ما لم يكن معهوداً من الرعونة والإجرام. ومع ذا لا يمكن اعتبار هذا التعصب والجنوح مفسدة أفضت إليها تلك الدعوة أو أثراً سلبياً.
كانت قريش والعرب قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أقل تمسكاً بآلهتها، حتى لكان بعضهم يأكلها ويُسخر منه ويُتَندَّر، حتى نُظمَت في ذلك الأشعار، كقول الأول:
أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة!
لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة!
فلمّا بُعث النبي صلى الله عليه وآله زاد تمسك قريش والعرب بآلهتها وتعصبها لها وإعلاؤها لشأنها، حتى قاتلت دونها وسالت في ذلك الدماء على نطق به التاريخ.
وكان أبو لهب - لعنه الله - من محبّي النبي صلى الله عليه وآله حتى أنه أعتق مولاته ثويبة يوم بشرته بمولده وأوكل إليها إرضاعه، وظلّ مكرِماً له حتى صاهره في ابنتيه رقية وأم كلثوم عليهما السلام. فلما جهر النبي صلى الله عليه وآله بدعوته انقلب عليه، وتعصّب للّات والعزّى، وأخذ يشتم النبي ويدمي عقبيه برميه بالحجارة، وكان يضع الأوساخ والقاذورات على باب بيته إذ كان جاره، ويتبعه حيثما ذهب يدعو القبائل فيقول: «هذا ابن أخي، يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه»!
وكانت قريش والعرب تحتشم من التمثيل بجثث القتلى وتراه من العار الذي يُتنزّه عنه، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وآله عليها بدعوته ووقعت الحرب بينها وبينه؛ توحَّشت وتطرّفت وجنحت إلى ما لم يكن معهوداً عنها من الرعونة والإجرام، فاستحلّت التمثيل بحمزة والشهداء - سلام الله عليهم - في أحد، ولم يجد أبو سفيان - لعنه الله - ما يمسح به العار عن نفسه إلا التنصّل من أن يكون هو الآمر، فقال للمسلمين: «أما إنكم ستجدون في قتلاكم مُثَلاً، والله ما رضيتُ ولا سخطتُ، ولا نهيتُ ولا أمرتُ»! وهي ذاتها الكلمة التي قالها بعض مشايخ العدو في زماننا حين وقعت مجزرة مقتل الشهيد حسن شحاتة وأصحابه رحمهم الله. قالوا: «ما أمرنا ولا نهينا! ولا رضينا ولا سخطنا»!
وهكذا لك أن تقلّب صفحات التاريخ لترى بيُسرٍ أن كل نبي ووصي وداعي حق؛ قوبل من معظم قومه وأهل زمانه بمزيد من النفور والتعصّب للباطل والغلو فيه، حتى قال الله سبحانه في وصف أثر نبيّه صلى الله عليه وآله: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا»، وقال: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا»! وقال في وصف أثر كتابه: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا»، وقال:«وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا»!
وغني عن البيان أن هذا النفور هو ما ينتهي بصاحبه إلى السطوة والبطش والقسوة كلما رأى تجدد طرح ما لا يحتمله مما يغيظه وإن كان هذا المطروح حقاً، بل أوضح الحق وأضوأه، كالقرآن الحكيم الذي كلما نزلت آية بينة منه وقرأها المؤمنون على الكافرين؛ كلما ازداد أولئك الكافرون حنقاً وغيظاً واندفاعاً إلى الإجرام! وذلك قوله عزّ من قائل: «وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ۖ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا»! وكيف لا يغتاظون ولا يسطون ولا يرتكبون الجرائم في حق المؤمنين وهم يسمعونهم يتلون من هذا الكتاب ما يقصفهم ويقصف آلهتهم المقدسة جميعاً بقوله: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ»؟!
إذا عرفتَ هذا؛ تعرف أن لا قيمة للكلام عن أن منهج أهل العالم الأول أدّى إلى مفسدة تتمثل بتعصّب أهل الخلاف لرموز الباطل حتى أكثروا من تسمية بناتهم باسم عائشة وعقدوا احتفالاً بمناسبة مولدها، فإن هذا التعصّب رد فعل طبيعي ومتوقع لاجتياح دعوة الحق ديارهم وإقبال أبنائهم على البراءة من عائشة، ولا يمكن عدّ مثل هذا التعصّب مفسدة يعتدّ بها لكي يُقعَد عن هذا المنهج المبارك.
إن دعوة الحق يجب أن تسير بخطاها التي منها ما يغيظ مناوئيها كما قال سبحانه: «وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ». وما لم تنقلب الغلبة التي شرحناها آنفا؛ فإنه لا شيء من ردود فعل المناوئ يُحتسَب مانعاً، كما لا شيء من الفتنة والعداوة والبغضاء يُلتفَت إليه كذلك، فإن هذه جميعاً لا تقاوم هيمنة الدعوة وإظهارها وإقامتها وترويجها، فما هي إلا ردود أفعال طبيعية لا محيص عنها.
لقد كان من شأن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بعد الحكومة أنه «إذا صلى الغداة والمغرب وفرغ من الصلاة وسلّم قال: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا موسى وحبيب بن مسلمة وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة. فبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليّاً وحسناً وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر»!
ولقد كان من شأن سيدنا إبراهيم عليه السلام وأصحابه المؤمنين ما حكاه الله تعالى بقوله: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ»!
فإذا كان مثل تعريض أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام للّعن والهتك غير منظور إليه في المقام، وإذا كان مثل إيقاع العداوة والبغضاء بما أفضى إلى تعريض خليل الرحمن عليه السلام لخطر الحرق غير منظور إليه أيضاً؛ كان دفع أهل الخلاف لتسمية بناتهم باسم الحميراء والاحتفال بمولدها أولى بأن لا يُنظر إليه، فما هو إلا شيء سخيف من ردود الفعل بالقياس إلى ذينك.
وأما الزعم بأن المنهج يزيد من نسبة التطرف وخطر القتل؛ فتخيّلٌ تبيّنَ لك بطلانه مما سبق.

ثامنا؛ لم يكن يُلقى في روعنا ولا يخطر ببالنا أن أحداً منّا يمكن أن تحمله نفسه على أن يقول: «دعهم لا يتشيّعوا»!
إن على الحوزوي الذي يتلقى علوم آل محمد الطاهرين صلوات الله عليهم أن يؤدب نفسه على أن يكون شعلة تتّقد، وجمرة لا تهمد، لا يهدأ له بال ولا يكون له قرار إلا أن يرى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ويتولّون العترة الطاهرة ويبرأون من أعدائها زرافاتٍ ووُحدانا، بما لا يبقى معه من الباطل اسم ولا رسم.
يجب أن يكون هذا الهدف العظيم هدفاً لكل الحوزويين، علماء وطلبة علم وخطباء ومبلغين. ليس الهدف مجرد مواصلة العلم والتحصيل والتبليغ التقليدي في الدائرة الشيعية المحلية، بل الهدف هو التمدد والتوسع في الدوائر الأخرى الخارجية. ليس الهدف مجرد استبقاء الحق وحمل لوائه، بل الهدف محو الباطل وتنكيس رايته!
إنك لو دققت النظر في حركات الأنبياء والأوصياء عليهم السلام لأدركتَ أن الذي كان يعرّضهم ويعرّض مَن معهم من المؤمنين لمحن القتل والتعذيب والتشريد؛ لم يكن مجرد دعوتهم إلى الحق، بل سعيهم إلى محو الباطل. هنا كانت الأمم تراهم قد تعدّوا وتجاوزوا، وإلا فإن مجرد انفرادهم عنها بدين ومنهاج آخر لم يكن بالشيء العظيم الذي يستوجب المحاربة.
على سبيل المثال؛ لقد كان في الجاهلية أكثر من شخصية انفردت عن المجتمع بعقيدة التوحيد ورفض الوثنية، منهم أبو ذر رضوان الله تعالى عليه، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وقس بن ساعدة الأيادي، وآخرون يُذكرون في طيّات صفحات التاريخ. ومع ذا لا تجد أن أحداً من هؤلاء تعرّض للمحاربة والاضطهاد أو حتى الإزعاج، وكذا لم يتعرّض للمضايقة أحد من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون بين العرب في يثرب ونجران واليمن بل وحتى في مكة رغم رفضهم لعبادة الأوثان ودعوتهم للتوحيد بحسب مفهومهم.
أما نبينا صلى الله عليه وآله، فإن قريشاً والعرب أضرموا عليه نيرانهم منذ اليوم الأول من دعوته، والسر في ذلك أن نبينا صلى الله عليه وآله لم يكن منفرداً بالتوحيد فحسب ولا حاملاً لراية الحق فقط، بل كان يحمل مشروعاً تدميرياً لما عليه القوم من الوثنية والباطل والضلال والجاهلية، لذا حورب وقوتل، بخلاف أولئك الذين تركتهم قريش والعرب على ما أحبّوا من التوحيد بلا حرج.
ولو أن نبينا صلى الله عليه وآله اكتفى من أمر الدين بما اكتفى به أولئك؛ لما وقع ذلك الصدام العنيف بينه وبين القوم، بيد أنه أصرّ على التصعيد والتجاوز بدعوته إلى البراءة من مقدساتهم. ولقد جاءوه يعرضون عليه أن «يكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه»! إلا أنه رفض، فكان لا بد حينئذ من الحرب.
إن التباين المنهجي ما بين أهل العالميْن؛ الاول والثاني؛ إنما يكمن في هذه النقطة المحورية: هم يريدون سلوك سبيل أهل الكتاب وأولئك المنفردين المكتفين بأنفسهم وبمن معهم، لا يحملون مشروعاً دعوياً سوى ما تعورف بينهم من مطالب تقليدية تُقال على المنابر وتدوَّن في الكراسات، ليس فيها تصعيد ولا تجاوز، ولا تحدٍّ لمعتقدات الآخر، ولا تحطيم لها، ولا سعي لإحداث تغيير جذري في واقع هذه الأمة. أما نحن؛ فنريد سلوك سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله! سلوك سبيل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، لا نقبل بواقعنا، ولا نكتفي بأنفسنا وبمن معنا، ولا نرضى إلا أن نرى دخول الناس في التشيع أفواجاً، ولا نهدأ إلا أن نحرز - على الأقل - أن أكثرية هذه الأمة قد أصبحت شيعية. وبكلمة: نحن أصحاب مشروع «القضاء» على الجاهلية الثانية التي تمخّض عنها تقديس أئمة النفاق أبي بكر وعمر وعائشة! أما أهل العالم الثاني فلا يحملون همّا كهذا، ولا هدفاً من هذا القبيل، وليس «القضاء» أو «التحطيم» بحاضر في أجندتهم مطلقاً، وإلا لسمعته من ألسنتهم ولرأيته في أفعالهم. كلا وربك! لا تجده حتى في أحلامهم! فإذا اتفق أن رآه أحدهم فلتةً استفاق من نومه يتصبّب عرقاً من هول ما رأى! تدور عيناه يميناً وشمالاً ذعراً وتخوّفاً من أن يكون أحدٌ ما سمعه يتكلم في منامه بالسوء من القول في رموز إخواننا بل أنفسنا! حتى إذا اطمئن أن لم يسمعه أحد استعاذ بالله من شر الطائفية وغطّ في فراشه لينام وتنام معه الأمة المخدوعة فلا تفيق إلا في جهنم!
يقولون: إن الدعوة لأهل البيت كافية لكي يُعرف الحق، ولا حاجة للتصعيد بالتجاوز على رموز المخالفين.
ونقول نحن ما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه»!
يقولون: إن مساسنا برموزهم وبمقدساتهم يضرّنا!
ونقول ما قال مولانا الباقر عليه السلام: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون، يتقرّؤون ويتنسّكون، حدثاء سفهاء! لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أَمِنوا الضرر»!
قد أبينا أن نكون من السفهاء!

تاسعا؛ كان أحد الفضلاء قد خطب في الناس خطبة على أثر ما أحدثناه في الكويت من نيل من رموز القوم، والذي انتهى بنا إلى السجن في خاتمة المطاف. كان ذلك الفاضل يؤكد في خطبته نزاهة القرآن الحكيم من السب والشتم، وأن قوله تعالى: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» وقوله: «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» ونحو ذلك؛ ليس من السب والشتم في شيء، وإنما هو بيان واقع.
حين سمعت ذلك كتمت في نفسي ضحكة وقلت: يبدو أن صاحبنا ما نضج علمه بعد. حتى إذا مرّت السنون والأعوام؛ عاد هذا الفاضل ليخطب فإذا به يقرّ ويعترف ويقولها صريحة في إحدى خطبه: «إن القرآن يسب»! فحمدتُ الله على أن أنضجه حتى أدرك خطأه. وهكذا ينبغي على كل طالب علمٍ أن لا يتسرّع في الإثبات والنفي، وأن يجعل التريّث له عادة حتى ولو طال به الزمن، لينغمس في البحث والتتبع والتحقيق، فلا يخرج من ذلك إلا وهو على يقين مما يقول.
إن سب النبي صلى الله عليه وآله لآلهة الكفار ليس «دعواهم» بل دعوى القرآن الحكيم! فإنه يقول مقرّراً: «وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَـٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ هُمْ كَافِرُونَ». وفي تفسيرها قال شيخ الطائفة أعلى الله درجاته: «والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم، تقول العرب: فلان يذكر فلاناً أي يعيبه، قال عنتره:
لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب».
وإن النبي صلى الله عليه وآله ماضٍ على سنة جده الخليل إبراهيم عليه السلام الذي عاب آلهة قومه، وذلك قوله تعالى: «قَالُوا مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ». وفي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: «خالف إبراهيم عليه السلام قومه وعادى آلهتهم حتى أُدخل على نمرود فخاصمه فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. وكان في عيد لهم دخل على آلهتهم قالوا: ما اجترأ عليها إلا الفتى الذي يعيبها ويبرأ منها.. الخبر».
بهذا تعرف أن الدعوى صحيحة، فما الذكر في الآيتيْن المزبورتيْن إلا الذكر بالسوء والعيب والاجتراء، وهي والسب والشتم سواء، جارية جميعاً مجرىً واحداً في الانتقاص، تاركةً الأثر نفسه من الكراهة والغيظ في نفس المسبوب أو حليفه.
وإن الخلل الذي يقع فيه بعضهم، توهّم أن المناط في تحقق السب دِقِّي أو محدد، وهو وصف الشيء بخلاف حقيقته بقصد الانتقاص والإزراء، كأن يقول قائل: «هُبَل خرؤٌ» أو «عمر حمار»، والحال أن المناط عرفي غير محدد، فكل ما اعتبره العرف سبّاً فهو سبّ وإن لم يكن بصيغة بعينها، كأن يقول قائل: «هُبَل حصب جهنم» أو «تبّاً لعمر». وبدهي أن العرف المراد هنا هو عرف أهل اللغة، والملاك هو استعمالهم.
لذا ترى اللغويين على تعدادهم لما يدخل في معنى السب من العيب والتعيير والإزراء والحطّ والانتقاص والتقبيح ونحو ذلك؛ لم يجعلوه منفكّاً عن الشتم حتى صار مرادفاً له، بل وأدخلوا فيه اللعن، مع أن هذه الثلاثة من أصول لغوية مختلفة الوضع التعييني، لكنها تجتمع وتتقارب بلحاظ الوضع التعيّني والاستعمال والأثر.
فالأول - وهو السب - إنما هو القطع أصلاً، فكيف صار شتماً؟ إنما ذلك لأن «لا قطيعة أقطع من الشتم» كما قاله ابن فارس في مقاييس اللغة.
والثاني - وهو الشتم - إنما هو الكراهة أصلاً، فكيف صار سباً؟ إنما ذلك «لأنه كلام كريه» كما ذكره ابن فارس أيضاً.
وأما الثالث - وهو اللعن - فإنما هو الطرد والإبعاد أصلاً، ومع ذا ترى ابن منظور في لسان العرب يزيد في تعريفه فيقول: «اللعن: الإبعاد والطرد من الخير. وقيل: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخَلق السبُّ والدعاء». فصار اللعن سبّاً بهذا اللحاظ، وهو الصحيح، إذ لا نزال نسمع من الخلق في مشاجراتهم لعناً لا يقصدون به طرداً للآخر أو دعاء عليه بل يقصدون به سبّه والإزراء عليه، كما يُسمع مثلاً من الوالد حين يلعن ولده لأتفه ذنب، فإنك إن سألته: أتقصد بذلك الدعاء عليه بأن يطرده الله من كل خير ولا يشم ريح الجنة؟ لأجابك منفعلاً: أأحمق أنت؟! إنما أردتُ تقبيح فعلته وتوبيخه بسبّه! وأصالة عدم النقل هنا محكمة.
وعليه؛ فما يقوله بعض صغار المتعلمين في معرض الجدال مع أهل الخلاف من أننا «لا نسب وإنما نلعن، واللعن دعاء» إنما هو أشبه بملحة من المِلَح! ولولا جهالة من تبقى من دعاة أهل الخلاف لما خصموهم، فإن اللعن قد يأخذ حكم السب أحياناً، بل في غالب الأحيان إذا كان جهرياً وموجهاً، لأنه البراءة، أي القطيعة، وذلكم أصل السب لغة، ناهيك عن الاستعمال والأثر كما تقدّم.
وجامع القول في السب، أنه كل كلمة أو عبارة تُقال بقصد العيب والانتقاص والوقيعة وما إلى ذلك، يعتبرها العرف كلاماً كريهاً دالاً على القطيعة والبراءة بين الساب والمسبوب. قال سيد مفتاح الكرامة أعلى الله مقامه: «والشتم السب، بأن تصف الشيء بما هو إزراءٌ ونقص، فيدخل في السب كل ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد والتعيير بشيء من بلاء الله كالأجذم والأبرص».
وإذ ذاك يكون قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ» ونظائره مما نزل على قلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأجراه على لسانه في مسمعٍ من قريش؛ سبّاً بلا ريب، بل هو من أعظم السب، فما هو إلا ذكرٌ لآلهتهم بالسوء، وعيبٌ وإزراءٌ عليها، وعُرف العرب يراه كلاماً كريهاً دالاً على القطيعة والبراءة، فتكاملت بذلك أركان السب.
ولا أدل على كونه سبّاً من أن قريشاً ظلّت تصيح يملأها الغيظ منذ بدء الدعوة: «محمد يسبّ آلهتنا ويسفّه أحلامنا»! دون أن يرد عليهم أحدٌ مكابراً بدعوى أن هذا الكلام ليس سبّاً ولا شتماً وإنما هو «بيان واقع»! ولو أنه لم يكن سبّاً حقاً، لكنتَ ترى ردّاً على هذه التهمة، والحال أنه مفقود حتى من النبي والوصي عليهما وآلهما السلام، ما يكشف عن تطابق الجميع ما داموا عرباً، مسلمهم وكافرهم؛ على أن هذا الكلام من قبيل السب، وأنه يجري مجراه وفي معناه، وإلا؛ فأي داعٍ لأن يسكت النبي صلى الله عليه وآله عن هذه التهمة التي يواجهونه بها إن كانت باطلة؟! ولماذا سكت أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو مَن نعلم في الذب عنه صلى الله عليه وآله؟! ولماذا سكت أبو طالب عليه السلام وهو الذي دعاه عتاة قريش للتدخل لإيقاف سب آلهتهم على وجه التحديد مقابل أن «يدعوه وإلهه»؟! فعاد إليهم ناقلاً مقولة النبي صلى الله عليه وآله الشهيرة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، فلو كان توصيف قريش لما ينطق به النبي مغلوطاً، أي أنه ليس بسبّ في الحقيقة، لكان لكلام أبي طالب منحى آخر لا محالة، يلقي فيه بالتبعة على القوم إذ هوّلوا الأمر ووصفوه بغير حقيقته.
وعلى هذا؛ يُعلم بطلان دعوى أن التاريخ لم يسجّل مورداً واحداً سبّ النبي صلى الله عليه وآله آلهة قريش، إذ الآيات التي نالت من تلك الآلهة هي بنفسها موارد سبّه صلى الله عليه وآله، فإنما كان يتكلم بالقرآن. وأما الوصي صلوات الله عليه؛ فلم يعدم التاريخ ذكراً له في هذا، ومن ذلك على سبيل المثال ما رواه شيخنا الأقدم القمي رضوان الله تعالى عليه عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، من أن أبا سفيان لعنه الله قال لأمير المؤمنين عليه السلام بعيد معركة أحد: «يا علي؛ إنه قد أُنعم علينا! فقال علي عليه السلام: بل الله أنعم علينا. ثم قال أبو سفيان: يا علي؛ أسألك باللات والعزى هل قُتل محمد؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لعنك الله! ولعن اللات والعزى معك»! هذا وليس بغائبٍ عن الأمير عليه السلام قوله تعالى: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ» فقل للبترية فلتضج ضجيجها!
وإنك لو تتبّعت مصادر الحديث والسيرة والتراث لما وسعك إلا الإقرار بما سبق من أن كل ما يحمل انتقاصاً هو سبٌّ في الجملة على اختلاف الصيغ والعبارات، والمناط في ذلك العرف والأثر، أي توصيف العرف لهذا الكلام بأنه كلام كريه يُراد به الإساءة والذم والقطيعة، وأثر ذلك في نفس المنتقَص.
من ذلك لمّا نزل قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» إلى آخر السورة، اعتبر أبو لهب وأم جميل لعنهما الله ذلك شتماً وهجواً لهما، فكان من ردّ فعلهما أن شتما النبي صلى الله عليه وآله وسمّياه «مذمّماً» حاشاه. وقد ذكر المفسّرون ومنهم صاحب الصافي أن قراءة «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» على النصب - وهي المعتمدة - إنما هي «على الشتم» وإلا لكان حقّها الرفع، غير أنها نُصبت لقطع النعت، والفعل المقدّر «أشتم». ولا حاجة لإطالة الكلام في أن ألفاظ هذه السورة سبٌّ على الحقيقة، وإلا فأي عرفٍ ينفي أن قول قائل لآخر: «تباً لك» ليس من السب والشتم في شيء؟! وقد قال الشيخ الأعظم قدس الله نفسه في المكاسب: «المرجع في السب إلى العرف».
ومن ذلك ما قاله عمار عليه الرضوان بتحريض من أمير المؤمنين عليه السلام تعريضاً بعثمان بن عفان لعنه الله يوم بُني المسجد:
لا يستوي من يعمّر المساجدا يظل فيها راكعاً ساجداً
ومن تراه عانداً معانداً عن الغبار لا يزال حائداً
فقد جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله ساعتها مشتكياً بقوله: «ما أسلمنا لتُسَبّ أعراضنا»! وكان من جواب النبي صلى الله عليه وآله: «قد أقلتك إسلامك فاذهب». والشاهد أن عثمان اعتبر هذين البيتيْن سبّاً له دون إنكار لكونهما كذلك من النبي صلى الله عليه وآله، مع أنهما لا يحملان سوى «بيان واقع»! غير أن المناط ليس هو هذا، وإنما ما مرّ عليك من العرف والأثر، فيعدّان سبّاً حقيقة.
وإنْ أبيتَ النزول على دلالة هذه الأمثلة، وأصررتَ على أنها «دعواهم» ولا عبرة بها، أو أنها من قبيل تهويل العدو مما ناله، ولم تقنع بكاشفية سكوت المعصوم عن صدق تحقق المعنى لغةً وعرفاً؛ فلا أخالك تأبى النزول على هذه، وهي ما رواه الكشي عليه الرحمة، من أن محمد بن بشير لعنه الله سُمع يقول: «إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله» فكان من جواب الإمام الكاظم عليه السلام للسائل: «هذا سابٌّ لله، وسابٌّ لرسول الله، وسابٌّ لآبائي، وسابّي. وأي سب ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول»؟!
فهنا ليس الوصف بالسب من عدو، بل من إمام معصوم! وليس في القول سوى نفي إمامته وحجيّته، أو نفي هذا الشخص الموجود باسم موسى بن جعفر أنه هو موسى بن جعفر الإمام والحجة. وهذا على ميزانك أبعد ما يكون من السب، فكيف صار عند الإمام عليه السلام أعظم السب وأفحشه حتى قال أنه ليس يقصر عنه سب؟! أقول القائل فقط: «فلان ليس إماماً» يتأبّط من الشناعة كل هذا؟!
الجواب هو أن هذا القول من ذلك اللعين، لم يكن صادراً من أهل الخلاف الذين ينكرون الإمامة رأساً، فلا يقصدون بذلك انتقاصاً، وإنما هو من أحد من كان يقرّ بالإمامة لكنه انحرف وابتدع وتشعوذ، وحين يجرّد الإمام من إمامته يكون ذلك في العرف انتقاصاً للإمام، إذ الفرض أنه كان يقرّ بإمامته، ثم هو الآن ينتقصه منها، بخلاف المخالف.
ومن هذا المثال تعرف أن لنوعية القائل أو شخصيته مدخلية أيضاً في تحديد كون مقولته سباً أم لا، فقد تكون عبارة ما صادرة من زيد لا شيء فيها، غير أنها لو صدرت بعينها من عمرو لكانت سبّاً. وعلى هذا فقس، فقد تكون الكلمة الصادرة في موقف ما لا شيء فيها، غير أنها لوصدرت بعينها في موقف آخر لكانت من أعظم السب.
وإذا لاحظت هذه الجهات مجتمعة واستقرّت في ذهنك؛ انتهيتَ بعدها إلى أن نفي سبّ النبي صلى الله عليه وآله لآلهة المشركين، ونفي السب عن قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» وقوله: «أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ» وقوله: «وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» وقوله: «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّـهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ» وغيرها من آيات مباركات؛ هذا النفي ما هو إلا مكابرة، إذ ليس يقتصر السب على وصف الشيء بخلاف حقيقته بقصد الانتقاص، بل يعمّ فروضاً كثيرة وصيغاً متعددة، جامعها ما تقدّم. ولو أننا قصرنا معنى السب على ذاك، لكانت مقولة ابن صهاك لعنه الله: «إن الرجل ليهجر» ليست من السبّ في شيء أيضاً! فأي ذي عقل ووجدان وضمير يقول ذلك إلا تعامياً عن الحقيقة؟! وإنك لو تفقّهت في باب القضاء وسألت الخبراء لأفتوك بأن قول القائل للمؤمن: «إنك حصب جهنم» يوجب عليه التعزير كما يوجبه على كل ساب، فكيف مع هذا يُغفَل عن كون هذه الآية القرآنية جارية مجرى السب؟!
إن أهل الجاهلية حين ثقبت آذانهم آيات رسول الله صلى الله عليه وآله التي تذكر أصنامهم بسوء وتدعو للبراءة منها؛ لم يدر بخلدهم ولا بخلد غيرهم من الناس يومذاك أن أحداً سيخرجها عن معنى السب ومجراه إلى «بيان واقع»! ذلك لأنها تحمل من الانتقاص والإزراء والعيب والحطّ أقوى وأشرس الألفاظ والمعاني البليغة، فكان نفوذها في قلوب أولئك المشركين نفوذ السم أو أشد! ولذا قابلوا الدعوة المحمدية بالحراب والسيوف والهيجان، بعدما تلفت أعصابهم وجُنّ جنونهم. وكيف لا يصيبهم ذلك وهم يستمعون إلى مثل هذه الآية البليغة الصاعقة التي تنكسر أمامها كل صِيَغ وعبارات السب والشتم والتحقير فلا تكون شيئاً عندها! استمع واخشع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»!
اجعل نفسك في موقع أولئك، وتخيّل لو أن كلاماً كهذا قيل في مقدّس أنت تعتقد به. إنك لن تعتبره إلا أشد السبّ وأجرأ التحقير والإهانة. وإنْ شئّت فجرّب، بأن تذهب مثلاً إلى بعض بقايا مَن لهم هوس بمقتدى الصدر، وقل لهم في وصف سيدهم وأتباعه: «ضعف الطالب والمطلوب»! وحاول أن تقنعهم أن ما تفوّهت به لم يكن «سباً» بل هو «بيان واقع»! وانظر أهَل يمهلونك تكتب وصيتك؟!
وعلى أية حال؛ فإنه لا كثير جدوى اليوم في الاحتراز عن استخدام عبارات التنديد الشديدة في سياق البراءة من أئمة الكفر والنفاق، ذلك لأن ردة فعل المخالف تبلغ مداها في كل الأحوال، مهما خفّفتَ من لهجة العبارة، فما دمتَ تطرح حقيقة برائية بوضوح؛ فإن المخالف سيهيج. والتجارب في ذلك نصب الأعين، ولك أن تضيف إليها تجربة أخرى إنْ شئت، كأن تذهب إلى الكويت مثلاً وتعقد مجلساً تحاول أن تثبت فيه «بهدوء وتعقل وروية» أن عائشة في النار لا في الجنة! أو أنها التي قتلت رسول الله صلى الله عليه وآله! ولك أن تستخدم أخفّ العبارات وألينها، شريطة أن لا تحيد عن موضوع المحاضرة وهدفها بوضوح وبلا ألغاز، وهو إثبات أن هذه المرأة القاتلة من أهل النار، فهذا موضوع مهم ينبغي أن تعرفه الأمة، وهو حق داخلٌ في «لزوم اتباع منهج كشف الحقائق» الذي تقولون به، فجرّبوا طرح هذا الموضوع بالأسلوب الذي يروق لكم ولبقية أهل العالم الثاني، وانظروا هل أن ردة فعل المخالفين ستختلف في حجمها ومستواها عن التي قوبلنا بها؟! فإنْ عدلتَ عن طرح هذا الموضوع بحجة أنه يستثير المخالف، كان ذلك خُلفاً لكلامكم، إذ مصبّه لا على منع الطرح من رأس، بل على منع الأسلوب والتحاشي عن «إظهار اللعن والسب المفضييْن إلى الآثار التي لا تُحمد عقباها»!
لئن كان أهل العالم الثاني يقبلون بتعطيل بيان حقيقة مهمة كقصة استشهاد سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وفضح المتواطئين على إزهاق روحه؛ فإنها عند أهل العالم الأول غير قابلة للتعطيل، وهي عندهم مما يستحق التضحية بالأرواح، فحق رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم الحقوق، ولا يمكن القبول بواقعٍ تُحاط فيه قتلة النبي ومخرّبي دينه بهالة من القداسة والتعظيم الزائفيْن. وبصراحة أقول: إن سكوتكم المتوالي هو ما أدّى إلى هذا الواقع المرير المخزي، والذي أدّى أيضاً إلى سفك دمائكم واسترخاصها، فما فرّ أحدٌ عن نصرة النبي وآله صلوات الله عليهم إبقاءً على حياته إلا خسرها تالياً ذليلاً مهيناً. وما انتصر أحدٌ لهم إلا مدّ الله في عمره وعصم بجهاده دمه ودم غيره ممن وراءه ولاذ به حتى إذا أدّى ما عليه ختم الله بالشهادة وفاز فوزاً عظيماً.
إن أهل العالم الأول تجري نعمتهم اليوم على أهل العالم الثاني من حيث لا يشعرون، فلولا جهادهم في رفع سقف الحريات النقدية والكلامية الشيعية لما ظلّت لأهل العالم الثاني هذه المساحة من الحرية في الطرح، إذ المخالف حين يسمع طرح أهل العالم الثاني يراه هيّناً بالقياس إلى ما يسمعه من أهل العالم الأول، فتتروّض نفسه وتتجرّد عن الانفعال، بل قد تراه في كثير من الأحيان يتعاطف مع أهل العالم الثاني ويتقبّلهم ويستضيفهم إذ يصنّفهم بـ «المعتدلين»، فيكون من وراء ذلك لهم منافع دنيوية عديدة! ولولا ذلك لكان طرحهم «الهادئ والعقلاني والرويّ» عند المخالف من أكبر الكبائر وأكفر الكفر كما كان الحال في السابق! ولكانوا كما نحن اليوم؛ مشاريع للتصفية والاغتيال، إلا أن الذي جرى بحمد الله تعالى هو أنْ كفاهم الله ذلك لأن هنالك من يقف بقوة وثبات في الصف الأول من الجبهة فيتشاغل أهل الخلاف به عنهم. وليس يطلب أهل العالم الأول اليوم من أهل العالم الثاني جزاءً ولا شكوراً، بل كل ما يطلبونه أن يتقوا الله فيهم، فلا يشهروا بهم ولا يكونوا عوناً لعدوهم عليهم، وأن لا يطعنوا بهم من وراء ظهورهم، وأن يتركوا مَن أراد الالتحاق بهم والسير على منهاجهم من الحوزويين حراً، فلا يضيّقون عليه ولا يضطهدونه ولا يقطعون رزقه، ولا يرمونه بصنوف التهم، وذلك حتى تُعاد صياغة هذا العالم الإسلامي وتتولّد معادلة جديدة يكون فيها الإنسان الشيعي حراً وسيد نفسه، غير مضطر للتواري مع شيء من عقائده وأفكاره، وفي ذلك الخير للجميع كما لا يخفى.

وفقكم الله وإيانا للتفقه في دينه، والعمل على إظهاره وإعزازه.
والسلام.

ليلة التاسع عشر من ربيع الآخر لسنة ست وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة.
ياسر الحبيب

مكتب الشيخ الحبيب في لندن

ليلة 21 ربيع الآخرة 1436 هجرية


شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp