جواب الشيخ على الرسالة الثانية الواردة من الشيخ حسين النصراوي

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

الرد على رسالة الشيخ ياسرالحبيب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين أبي القاسم المصطفى وآله الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين آمين رب العالمين.
سماحة الشيخ ياسر الحبيب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بداية أشكر تفضلكم بالرد على الملاحظات التي أرسلناها إليكم، ولتوضيح بعض الملتبسات، ولتتم الفائدة إن شاء الله رأينا ضرورة التعليق على ماتفضلتم به، راجين من الله تعالى أن يكشف عن أبصارنا، وينور بصائرنا بنور الحق والإيمان إنه هو القادر على ذلك والمستعان.

أولاً: الذي فهمناه مما تفضلتم به في النقطة الأولى عن التبليغ أن التبليغ بالإضافة إلى كونه أمراً مهماً جداً في الدين، وأنه وظيفة الأنبياء والأوصياء، فهو _أي التبليغ_ نوع جهاد (جهاد باللسان)، وبالتالي فتلحقه أحكام الجهاد، وهذا يعني أنّ الضرر الذي قد يترتب عليه مأخوذ في موضوعه (كما في الجهاد) فلا ينفى ب(لاضرر) وأدلة التقية! ومن ثم فإنه لابد من التبليغ ولوترتب عليه ماترتب، من ضرر وعنت وعناء، ولو سالت الدماء في سبيل ذلك.
وبعبارة أوفى: إن أدلة التقية وإن كانت حاكمة على سائر أدلة الأحكام(أي مضيقة لدائرة تلك الأدلة وحاصرة لها بغير صورة الضرر) إلا أن هناك بعض الأحكام، بطبيعتها لاتقبل الحكومة، وذلك لأن الضرر مأخوذ في موضوعها، كالجهاد، أي أن طبيعة الجهاد تقتضي حتماً الوقوع في الأضرار والأخطار وتعريض النفس للتلف، وبالتالي، إذا حكمت أدلة التقية على أدلة هذا النوع من الأحكام لم يبق لها موضوع أصلاً! يعني لا يبقى موضوع للجهاد! أي يرتفع تماماً، ومن ثمّ فلابد من القول بأن أدلة الجهاد واردة على أدلة التقية، (وهذا هو معنى الورود الذي حققوه في الأصول)1 يعني النتيجة أن أدلة التقية حاكمة على أدلة الأحكام بشكل عام، ولكن أدلة بعض الأحكام المأخوذ في موضوعها الضرر_كالجهاد_ واردة على أدلة التقية.
ثم إن ورود الجهاد على أدلة التقية إنما هو إلى الحد الذي لايتسبب باستئصال بيضة الدين، وإلا رجع الأمر إلى حكومة أدلة التقية، ضرورةَ أن الجهاد إنما شرع لحفظ الدين فلو فرض الاختلال في موازين القوى بحد يكون الجهاد فيه خطراً على الدين، وسبباً للقضاء عليه حرم الجهاد ووجب القعود والعمل بالتقية، وهذا الذي فعله مولانا أمير المؤمنين (ع) (مع أصحاب الانقلاب) ومولانا الإمام الحسن(ع) (في قضية الصلح) وكذا أغلب الأئمة(ع).
ثم إن التبليغ مادام مصداقاً للجهاد (جهاد اللسان) فتنطبق عليه الأحكام المذكورة، ومن ثمّ فإن النبي عرّض نفسه وأصحابه للخطر والتجويع والتعذيب والموت (ياسر وسمية وعمار وبلال...) في سبيل تبليغ الدين، وكذا فعل الأنبياء من قبله، فإذن نفس الكلام الذي ذكرناه في الجهاد يأتي هنا وهو أن الصورة الوحيدة من صور التبليغ المتيقن حكومة أدلة التقية عليها هي صورة ماإذا أدى التبليغ إلى تعريض أصل الدين للخطر، فهنا تأتي التقية وتوقفه، أما ماعدا هذه الصورة فمهما بلغ الأمر من أضرار، ومهما سفكت من دماء فذلك يهون في سبيل أداء هذه الوظيفة المقدسة، لافرق سواء كان الضرر والخطر على الفرد أو على الجماعة المؤمنة(هذا مع فرض عدم تعرض نفس الدين للخطر بتعرض الجماعة.. وذلك لكثرتها، وانتشارها وقوتها..)
قلنا: إنا نسلم بالمذكور، ولكن الحلقة الأخيرة في الاستدلال قابلة للنقاش جداً، فإنه يقال لكم: إن كون التبليغ جهاداً باللسان لايستلزم ترتب أحكام جهاد الحرب عليه! فنعم، التبليغ جهاد باللسان، لكن بأي دليل تطبقون أحكام جهاد الحرب عليه؟! وبتعبير آخر: إن عندنا جهاداً بالمعنى الأعم، وهو يشمل: أ-جهاد الحرب ب-جهاد اللسان(التبليغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ج-جهاد القلب(ويراد به مجاهدة النفس وتوطينها على فعل الطاعات وترك المحرمات). وعندنا جهاداً بالمعنى الأخص: والمراد به جهاد الحرب، ومن الواضح أن أحكام جهاد الحرب(ومنها أخذ الضرر في موضوعه) لاتترتب بالضرورة على غيره.
ثم لوقيل: نقول في التبليغ ماقلناه في الجهاد من أن الضرر مأخوذ في موضوعه أيضاً، لأن من طبيعة التبليغ أنه يجلب شيئاً من الضرر فيقال: أي مقدار من الضرر مأخوذ في موضوع التبليغ؟!
المقدار المتيقن هو ذلك الضرر الذي لولاه لما أمكن التبليغ أصلاً، أو قل: هو الضررالمتعارف بالنسبة للتبليغ، الضرر الذي يتعرض له المبلغ عادة، من قبيل العناء والمعارضة والمشاكل البسيطة.. وليس الضرر الذي يصل إلى القتل وما أشبه. والفرق أنه في جهاد الحرب يجب أخذ هذا المقدار من الضرر(القتل وماأشبه) في موضوعه، لأن هذا الضرر من الآثار المتعارفة له التي لاتنفك عنه عادة، بخلاف التبليغ، كماهو واضح! ولتقريب الفكرة أكثر خذوا مثالاً الصيام، فإن هناك مقداراً من الضرر مأخوذاً في موضوعه قطعاً، وهو التعب المتعارف والعطش والعناء الذي يجلبه الصيام عادة، أما لو وصل ضرر الصيام إلى حد الموت وما أشبه، فلا يسعنا القول: إن طبيعة الصوم أنه يجلب الضرر وبالتالي، فأدلة الصوم واردة على(لاضرر)، ومن ثمّ عليه أن يستمر بالصيام ولو مات! لأنه يقال: إن طبيعة الصوم تقتضي مقداراً معيناً من الضرر، هذا المقدار فقط يكون وارداً على أدلة (لاضرر) دون مازاد عليه! وهكذا الكلام في التبليغ.
ولو قيل: فما بال النبي(ص) تحمّل حتى قتل أصحابه في سبيل التبليغ، قلنا: تحمل ذلك وأجازه وسمح به لأنه بصدد إقامة الدين! أي لولا ذلك لما أقيم الدين، وهذا هو المقدار المتيقن أنه يهون عنده كل شيء الأرواح والدماء، وهو(وجود الدين أو عدم وجوده)، فلايصح القياس عليه، وكذا بالنسبة إلى سائر الأنبياء في بداية دعواتهم، وأما بعد استقرار الدين وصيرورته قوياً، فيعود التبليغ إلى موقعه الطبيعي في الدين وهو وجوبه مع المقدار المتعارف من الضرر دون مازاد.
ثم إن التبليغ هو مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبإجماع الفقهاء تقييد وجوبههما بصورة عدم الضرر. قال في الجواهر: ((الرابع أن لا يكون في الإنكار مفسدة ، فلو ) علم أو ( ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله ) أو إلى عرضه ( أو إلى أحد من المسلمين ) في الحال أو المآل ( سقط الوجوب ) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم ، لنفي الضرر والضرار والحرج في الدين ، وسهولة الملة وسماحتها ، وإرادة الله اليسر دون العسر وقول الرضا عليه السلام في الخبر المروي عن العيون : " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه " كقول الصادق عليه السلام في حديث شرائع الدين مع زيادة " ولا على أصحابه " وقوله عليه السلام أيضا في خبر مسعدة السابق " وليس ذلك في هذه الهدنة إذا كان لا قوة له ولا مال ولا عدد ولا طاعة " بل وقوله عليه السلام في خبر يحيى الطويل السابق ، بل وقوله عليه السلام أيضا في خبر مفضل بن زيد: " من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها " وغير ذلك من النصوص السابقة وغيرها).
وقال: (وقول الباقر عليه السلام في الخبر السابق : " يكون في آخر الزمان قوم مراؤون يتقرؤون - إلى أن قال - : لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر ، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير " محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات ، أو على إرادة فوات النفع مع الضرر ، بل في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير ، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم ، وإن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان والسيوري ، وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها)2.
ثم لو سلّم بورود أدلة التبليغ على أدلة التقية، أمكن الادعاء بأن درجة بسيطة من درجات التقية تبقى لازمة، وهي الدرجة التي تستفز المخالفين جداً، وتستثيرهم كثيراً وتدفعهم إلى ردات فعل، ونعني الجهر بالسب واللعن بشكل رسمي، على بعض رموزهم، مما يعد مخاطرة ومغامرة، كما شرحنا في الرسالة الأولى، فهنا تدخل المسألة في باب الأهم والمهم، وسيأتي مزيد توضيح3 أيضاً هنا.
ثم لو تُنزّل عن كل ذلك، ووافقنا على أولوية التبليغ وأهميته مهما كانت النتائج، قلنا حسناً التبليغ واجب ولو ترتب عليه ماترتب (مالم يشكل خطراً على أصل الدين)
ولكن كلامنا لم يكن في أصل التبليغ وإنما الكلام كل الكلام_ولاحظوا هنا جيداً_ هو في أسلوب التبليغ، أنه ماهو الأسلوب الذي ينبغي اتباعه، (وإذا كان لدينا أسلوبان، أسلوب يترتب عليه سفك دماء وأضرار وأسلوب لايترتب، أو الأضرار أقل، فلماذا اللجوء إلى ذاك مع وجود المندوحة)4 فنحن متفقون على ما تفضلتم به من وجوب إبلاغ الحق، والصدع به، لكن خلافنا معكم في الأسلوب والطريقة، وسيأتي توضيح ذلك قريباً.
ومن هنا يظهر عدم تمامية اتهامكم لـ(أهل العالم الثاني) بأنهم كأهل الكتاب، وأن هذا الاتهام إجحاف بحقهم5، فهم يبلغون ويغزون الآخر، كالأنبياء والأوصياء، لكن الفرق أنهم لا يبدؤون من الأخير كما تفعلون أنتم، يعني أنتم تبدؤون بأبي بكر وعمر وعائشة لتنتهوا إلى علي ع، تبدؤون بالبراءة لتنتهوا للولاية وهم بالعكس. (وذلك أنهم يرون أن الظروف التي يعيشها الشيعة وعاشوها عبر الأزمان يناسبها هذه الطريقة).
فمن الإجحاف بحقهم إذن القول إنه ليس لديهم همّ تشييع المخالف، وأنهم يعملون فقط في دائرة التشيع، كم تشيّعَ من الناس بسبب كتاب المراجعات مثلاً؟! وسائر الكتب الهادئة للمتشيعين التي تناولت البحوث الخلافية دون سب ولعن ووصلت إلى مرادها.
فأهل(العالم الثاني) يعملون على غزو العالم، ويصرّحون بكل عقائدهم، لكن يتبعون (المرحلية) في الطرح عند البحث مع المخالفين، وشعارهم ومنهجهم القاعدة العقلائية المنطقية الشرعية إن لكل مقام مقالاً6، وأنه (ما كل مايعلم يُقال)، ويلاحظون الظروف والإمكانات. وإن شئت قلت: إنهم يغزون غزواً ناعماً لأن موازين القوى لاتسمح.
ومنهجهم في ذلك هو منهج الوصي(ع)، ومنهج السبط الأكبر (ع)ومنهج أغلب الأئمة(ع)، فإنهم حيث وجدوا أن الظروف لاتسمح لهم بالاصطدام المباشر، اتبعوا سياسة التبليغ الهادئ، والعمل لحفظ الحق من دون مغامرة وإعلان للحرب على الآخرين(طبعاً كلامنا بالنسبة إلى التعامل مع المدرسة المخالفة ورموزها). ولكنهم في الوقت نفسه لم يتنازلوا مطلقاً، إن الوصي(ع) اتبع مع رموز الضلالة طريقة العمل الهادئ لا الصدامي، لأنهم أقوى منه، ولم يصرّح بالطعن عليهم وهتكهم عادة إلا أمام شيعته، أو في موارد خاصة، لكي لايخفى الحق، كما هو الحال في رواية سليم التي تقول أنه ذلك اليوم رفع التقية، (التي تستشهدون بها) فهذا بحد ذاته دليل على أن عامة سيرته كانت تقية، وفي ذلك اليوم رفعها، أي عمل في ذلك اليوم على خلاف طريقته، وصرّح على الملأ بالطعن على القوم، وإن كان هناك موارد أخرى، طعن فيها(ع) عليهم، لكن عموماً طعنه العلني ماكان يتخذ صورة المباشرة، كقوله مثلاً: (مازلت مظلوماً منذ قُبض رسول الله)
أو قوله: (فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه. فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلي، فجزت قريشا عني الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمي).
لاحظوا كيف يصرح بالحق، ولكن لايطعن في أبي بكر وعمر علناً ولايلعنهما، وإنما يلمح، ويكني كناية هي أبلغ من التصريح، فهو يوجه الطعن المباشر إلى قريش، ولكن تحت الحزام يطعن في أولائك الذين تبوؤا مواقع لم تكن لهم بحق! (وهذا مايصنعه (أهل العالم الثاني) بالضبط، يتبعون طريقة أمير المؤمنين. لايصرحون بأسماء القوم في العلن، فيقولون: إن الأمة ظلمت أمير المؤمنين ع وغصبته حقه.. وإن صرحوا بالأسماء ينتقدونهم، ولايسبونهم. وهذا ماكان يصنعه أمير المؤمنين( ع) غالباً.
ففي الخطبة الشقشقية يصرح بالحق، ويذكر الأسماء، لكن دون أن يسب أو يلعن أمام الملأ: (أما والله لقد تقمصها....) والطعن الصادر منه في عثمان هنا والإهانات، لأن عثمان لم يكن حاله كالأولين عندهم، بل في ذلك الزمان، ماكان حال عثمان يختلف عن حال معاوية عند عامة المسلمين، نعم في زمان لاحق، أعطيت منزلة ومرتبة عليا لعثمان حتى وُضع في مصاف الأولَين، وذلك بجهود كبيرة بذلها معاوية!
إذن بشكل عام كانت هذه طريقة أمير المؤمنين ع وسيرته، وهكذا كانت طريقة الأئمة ع أيضاً، ففي المورد الذي يذكرون الأسماء (علناً) يكتفون بالنقد دون الطعن والسب، وفي المورد الذي يطعنون ويسبون ويتبرؤون لايذكرون الأسماء.
نقل السيد ابن طاووس في كتاب الطرائف: علي بن أسباط رفعه إلى الرضا عليه السلام أن رجلاً من أولاد البرامكة عرض لعلي بن موسى الرضا عليه السلام فقال له: (ما تقول في أبي بكر ؟ قال له : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فألح السائل عليه في كشف الجواب ، فقال عليه السلام : كانت لنا أم صالحة ماتت وهي عليهما ساخطة ولم يأتنا بعد موتها خبر أنها رضيت عنهما).
فهنا نلاحظ أن الإمام لم يتنازل، ولكنه اكتفى بالانتقاد دون الطعن واللعن، وهذه الطريقة التي يتبعها (أهل العالم الثاني) تماماً.
ومن الملاحظ هنا أن الإمام لم يكن في مورد تقية، لأنه لو كان، لماوسعه انتقادهما، بل لقال: (إمامان عادلان قاسطان كانا على الحق وماتا عليه فرحمة الله عليهما)!.
وفي المقابل عندما يطعنون ويلعنون ويتبرؤون عادة علناً، أو لما هو مقول ليعلن عنه ويُذاع، لايذكرون الأسماء، كما في زيارة عاشوراء.
والآن مالذي عدا مما بدا، هل موازين القوى اختلفت بيننا وبينهم، لنعلن الحرب بهذه الطريقة التي تتبنونها؟!
هل صار الشيعة أكثرية في العالم الإسلامي، ليفرضوا أجندتهم، ولا يحسبوا حساباً لأي نتائج كارثية يمكن أن ترتد عليهم؟!

ثانياً: لا كلام أن مصلحة الدين هي الأساس وهي مقدمة على مصلحة الفرد والجماعة، ولكن قد يقال لكم: إن أدلة التقية بينت أنّ التقية ليست فقط عندما يتعرض الدين للخطر، التقية ليس دائماً لحفظ الدين، بل التقية أقسام:
1-التقية لحفظ الدين: وهي التقية التي بتركها يتعرض الدين للخطر، وذلك من خلال استئصال الجماعة المؤمنة التي تحمله.
2-التقية لحفظ النفس: كما ورد عن الصادق ع:التقية ترس المؤمن
3- التقية لحفظ الإخوان المؤمنين ولو لم يتعرض الدين للخطر، بل مجرد حفظ دماء المؤمنين.
فعن أمير المؤمنين ع (في كلام له مع بعض اليونان (المسلمين)):
(وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال ، ومذل لهم في أيدي أعداء دين الله ، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا). الاحتجاج
في تاج العروس: (أشاط بدمه ، إذا عمل في هلاكه ، أو أشاطه ، وأشاط بدمه ، وأشاط دمه ، إذا عرضه للقتل ، وهذا نقله الجوهري . وقال ابن الأنباري : شاط فلان بدم فلان : معناه عرضه للهلاك).
ومن الواضح أن هذا اليوناني لاخطر في تركه التقية على الدين، بل الخطر منحصر بنفسه وجماعته7وعن الإمام الحسن العسكري : وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : التقية من أفضل أعمال المؤمن ، يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين
وعنه ( عليه السلام ) : إن التقية يصلح الله بها أمة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم ،وإن تركها تارك ربما أهلك أمة، وتاركها شريك من أهلكهم، وإن معرفة حقوق الإخوان يحبب إلى الرحمن ، وتعظم الزلفى لدى الملك الديان ، وإن ترك قضائها يمقت إلى الرحمن ويصغر الرتبة عند الكريم المنان). كلاهما في تفسيره ع .
وعن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : (يغفر الله للمؤمن كل ذنب ، ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين : ترك التقية ، وتضييع حقوق الإخوان).
وعن جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : (استعمال التقية بصيانة الإخوان).
فهذا الحديث دليل واضح على أن التقية ليست فقط في الخوف على الدين، بل عند الخوف على الإخوة أيضاً، كما هو الحال اليوم في بلاد الحجاز أو مصر وأمثالها.
وفي الكافي عن الصادق ع: (خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية).
وبناء على هذه الروايات فإما أن نقول بحصر أدلة التبليغ بغير هذه الصورة (صورة ضرر الإخوان) ، أو لو فرضنا قوة أدلة التبليغ ووارديتها، فنجمع قدر الإمكان يعني نستخدم أسلوب التبليغ الذي لا يتسبب بسفك دماء الإخوان، أو الأسلوب الذي تكون أضراره على الإخوان أقل جمعاً.
وعلى الأقل أن الاحتياط يقتضي ذلك.
ونتيجة الأخذ بهذه الروايات هي أنه لاحق لكم باستخدام المنهج الذي يُسبب ضرراً على إخوة مؤمنين في بلدان أخرى، أو على الأقل ينحصر حقكم في منطقتكم، وليس لكم حق في تصدير منهجكم إلى منطقة أخرى، لأن وجود جماعة تتبناه في تلك المنطقة سيعرض إخوانهم للخطر، ومن ثمّ يصدق: (شائط بدمك ودم إخوانك)!

ثالثاً: (الفوبيا)
إنا قد سمعنا منكم أن الجميع لو أخذوا طريق الصراحة وأعلنوا الحرب على أئمة المخالفين _على طريقتكم_ لكان له أثر خطير على الشيعة! بل لا بد من تقاسم الأدوارـ حمائم وصقور، سلمان وأبوذر، بل سمعت منكم أنه لو صار الكل في هذا الطرف ربما نحن ننتقل إلى دور (أهل العالم الثاني)! فأنتم تعترفون إذن بخطورة هذا المنهج، وتشعرون في قرارة أنفسكم، بل تقرون بلسانكم بأن الآخرين -لو انتشر هذا المنهج وعم أغلب الشيعة- فسيتهدفون الشيعة، وسيتعرض الوجود الشيعي للخطر !! هذا كلامكم، فهل انتقلت عدوى (الفوبيا) إليكم ياشيخنا الحبيب!!
إذن فالتخوف من هذه الأمور ليس مجرد (فوبيا)، وليس ناشئاً من (قصور في التفكير) أو أنه (خيال).. ولذا فللطرف الآخر أن: يقول لكم: نتيجة كلامكم أن هذا المنهج جيد ويخدم لكن بشرط أن يكون بحدود معينة (رأس حربة)، فتمدده ليشمل عامة الشيعة(كما أنتم تسعون عملياً) هو خطر حسب كلامكم!
وهذه نقطة محورية في البحث وفي غاية الأهمية. بل هنا نكون قد وضعنا اليد على موضع الداء بالضبط.
إذن أولاً أنتم فعلاً هنا تعترفون بالمخاوف والخطورة التي تنطوي على هذا المنهج، وليست مسألة (فوبيا)، وثانياً: بناءً على تشخيصكم يلزمكم تحديد تياركم والسعي لعدم تمدده، ويلزم عليكم أن لا تلوموا من يمنع تمددكم إليه يعني جماعة(الحمائم)!
ومما سنذكره لاحقاً إن شاء الله من أدلة على منهج عامة الشيعة (المسمون بأهل العالم الثاني عندكم) سيتبين أنّ المسألة ليست مسألة (فوبيا) بمقدار ماهي مسألة احتياط للدين، ومحاولة التزام بتعاليم الأئمة(ع)_على الأقل من وجهة نظرهم_ نعم قد بعض الأحيان تتحول المسألة إلى فوبيا لدى البعض، فيُفـرِط في هذا الجانب، فيخاف حتى من الريح التي يمكن أن تهب، لاتؤذي شعور المخالفين! بل ليس فقط يسكت عما يجب بيانه، ويتحفظ جداً معهم، وإنما يبادر بالتنازل لهم، حتى من دون طلب منهم! يعني (ينبطح)، فيترضى على أئمتهم، ويمدحهم! ومن الواضح أنه ليس بحثنا عن هؤلاء.

رابعاً: النقض بإحياء مجالس الحسين عليه السلام وشعائره وعدم التقية في ذلك، وأن موازيننا مختلة، فللخصم8 أن يقول: ما هذا النقض العجيب، والمقارنة: إنه ليس عندنا في هذا المجال مولانا إلا الروايات التي تأمر وتحفز على إقامة المجالس، والسعي إلى الزيارة، حتى لو كان هناك خوف القتل، إذن الروايات قالت لنا: لا تتقوا في قضية الحسين ع، في حين أن مصداق التقية الأبرز في الروايات هو أبو بكر وعمر وعائشة! وعلى الأقل هناك جزء من الروايات الواردة في حق هؤلاء تتقي! فهنا مجال للشبهة على الأقل، بخلاف قضية الإمام الحسين ع، فإنا ماسمعنا إماماً يدعو إلى التقية فيها، وإني لأعجب كيف خفي عليكم مثل هذا وأشكلتم بهذا الإشكال.

خامساً: (إن قتل الشيعة عادة هو لأسباب سياسية لادينية):
ماتفضلتم به من أن المشاريع السياسية هي التي تلقي بظلالها بالدرجة الأولى على الساحة، وأن ما يحدث من قتل واستهداف للشيعة، النسبة الأكبر منه ترتبط بالسياسة والمسؤول عنه هم السياسيون، والشيعة الأبرياء يدفعون ثمن تلك المشاريع_ هو أمر صحيح، ونحن نقول به، ولكن هذا لايعني أنه ليس للمنهج الديني المتشدد أثر في هذا الجانب، يعني بالنتيجة هناك قسم من شباب المخالفين يُعبؤون بسبب عائشة أو أبي بكر وعمر فقط، نعم قد تقول لي: وراءهم أجندات! صحيح، لكن بالنتيجة، ماالدافع والمجيّش لهم؟! لكم أن تقولوا: لو لم تكن الأجندات، لما كان لهؤلاء مجال للإجرام بحق الشيعة، هذا صحيح، ولكن بالنتيجة هذا لايُعفي المُعبِّئ من المسؤولية.
وبعبارة واضحة نقول: إن نتيجة تصارع الأجندات السياسية هو إيجاد بيئة من الفوضى، يعني الأجندات تُوجِد المناخ والبيئة والحاضنة، وهنا يأتي دور أصحاب الغايات، فكل واحد يستثمر الفوضى لتحقيق غايته! (ومنهم المُجيَّش والمُعبأ عقدياً)! صحيح أنه لولا السياسة لما كانت هذه البيئة والفوضى، ولانضبط هؤلاء لعدم وجود المجال والفرصة لهم، لكن حيث وجدت الفرصة مالذي دفعهم وحفزهم وحمسّهم، أليس ذلك الحنق وتلك التعبئة؟!
فكون السياسيين هم المسؤولون عن خلق هذا الواقع الذي يتمكن من خلاله كلّ أن (يغني موّاله) كما يُقال، هذا لايعفي المتسببين! وخذوا مثالاً على ذلك السرّاق واللصوص، الذين يستغلون أوضاع الفوضى ليطبقوا أجنداتهم ويملؤوا جيوبهم، أفهل يصح أن نقول: إن كل الذنب يقع على السياسيين الذين أوجدوا الفوضى، وليس هناك أية مسؤولية على آباء هؤلاء اللصوص ومربيهم ممن قصّروا في تربيتهم، وعلى من علّمهم اللصوصية أو دفعهم إليها دفعاً ودعّهم إليها دعّاً!!
ومنه يتضح الرد على قولكم أنه أحضروا لنا مثالاً واحداً لمخالف خرج عن حالته العادية وقتل جاراً له شيعياً؟! الجواب: إنه لا يفعل (لا لعدم كونه مستعداً لذلك ومعتقداً به ومعبّأ له)، بل لوجود النظام والقبضة الحاكمة القوية، ولكن حيث يحل زمن الفوضى، فعند ذلك يُخرج كلّ مكنون نفسه! وهذا ما يجعلنا نلقي باللائمة ليس على الفوضى ومسببيها فقط، بل على المتسببين بخلق تلك الدوافع أيضاً! فهم مسؤولون كذلك كما أوضحنا.
نحن لسنا سُذّجاً، ونعرف ونفهم أن أصل كل ما يجري هو السياسة، لكن هذا لا ينفي المسؤولية عن غير السياسيين.
أما قولكم: إن هؤلاء إرهابيون مجرمون يريدون مبرراً وذريعة للقتل، إذا كانت قضية سب عائشة فبها، وإن لم تكن اخترعوا أي شيء (كالعمالة لأمريكا..أو أي شيء). المهم أن ينفذوا أجنداتهم الإجرامية وأن يقضوا أوطارهم الدنيئة ويشبعوا شهواتهم الخبيثة.. قلنا: لانسلم، فليس كل الشباب الذين يُجنَّدون هم كذلك، (على الأقل في البداية، ربما فيما بعد عندما يتمرسون على القتل والإجرام يصبحون هكذا). لكن في البداية الذي يدفعهم إلى الانخراط في أتون تلك الصراعات المجنونة هو دافع عقدي غالباً، نعم هذا الدافع قد يختلف من بعضهم إلى البعض الآخر، فقد يكون دافع البعض (قتال الكفار وأمريكا وعملائهم)، ولكن قطعاً أن دافع بعض آخر هو العداء للشيعة الذين يسبون الصحابة ويهتكون عائشة ...).

سادساً: نحن متفقون حول السب، وما قلنا أن السب غير جائز أو لا سب في القرآن، بل الكلام كان عن جزئية محددة: أنه هل سب النبي أصنامهم؟! وآية (يذكر آلهتكم) يعني يعيبها، كما تفضلتم، والعيب غير السب، والعرف يرى ذلك أن قولنا: عاب فلان فلاناً، غير سبّ فلان فلاناً!
ومعنى عاب فلان فلاناً، أي ذكر معايبه ومساوئه. في لسان العرب: (وعبته أنا ، وعابه عيبا وعابا، وعيبه وتعيبه : نسبه إلى العيب ، وجعله ذا عيب). والسب شيء آخر!
والذي استظهره الأعلام في باب السب أمران: أولاً: أن السب أمر عرفي، فما رآه العرف سباً فهو كذلك، ومالم يره فليس سباً. ثانياً: إن من شروط تحققه عرفاً ولغة قصد التعيير والإهانة.
قال الشيخ الأعظم في المكاسب: (ثم إن المرجع في السب هو العرف)
وقال في بيان العلاقة بين السب والغيبة: (والتحقيق ان النسبة بينهما (السب والغيبة) هي العموم من وجه ، فإنه قد يتحقق السب ولا يتصف بعنوان الغيبة ، كأن يخاطب المسبوب بصفة مشهورة مع قصد الإهانة والإذلال ، فان ذلك ليس إظهارا لما ستره الله ، وقد تتحقق الغيبة حيث لا يتحقق السب ، كأن يتكلم بكلام يظهر به ما ستره الله من غير قصد للتنقيص والإهانة ، وقد يجتمعان ، ويتعدد العقاب في مورد الاجتماع ، لكون كل من العنوانين موضوعا للعقاب ، فلا وجه للتداخل).
وفي موضع آخر: (ثم الظاهر أنه لا يعتبر في صدق السب مواجهة المسبوب . نعم ، يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص ، فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه).
وفي مصباح الفقاهة للسيد الخوئي: (الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتعيير في مفهوم السب وكونه تنقيصاً وإزراءً على المسبوب وأنه متحد مع الشتم... وعليه فلا يتحقق مفهومه إلا بقصد الهتك)
وفي فقه الصادق (ع): (ثم إن المرجع في السب إلى العرف ، والظاهر من العرف واللغة ، ولا أقل من كون ذلك هو المتيقن لو سلم إجمال مفهومه ، كون السب متحدا مع الشتم ، وأنه يعتبر فيه كونه تنقيصا وازراءً واعتبار الإهانة والتعيير في مفهومه ، وعليه فيعتبر في مفهومه قصد الهتك).
ومادام الأمر كذلك أن السبّ مفهوم عرفي، وأن العرف يشترط في السب قصد التعيير والإهانة، فيتضح عدم معلومية كون: (أنتم وأصنامكم حجارة جهنم)، سباً أو لا، لأنه يحتمل أنه تعالى هنا يصف الواقع فقط، ولايقصد أن يُنشئ إهانة لهم! ولا أقل من الشك، والأصل العدم.
يعني العرف هنا لا يرى انطباق مفهوم السب إلا إذا فرض قصد الهتك والإهانة، وهنا نحن لاندري، هل قصد القرآن ذلك أم لا؟
يعني هل كان يوصف واقعاً فقط، أم كان ينشئ إهانة في الوقت نفسه؟!
المتيقن هو الأول: ولعل السياق يساعده: قال تعالى:
(واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين، إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون).
فالسياق سياق وصف وقائع لاسياق سب وشتم:
عندما يقترب الوعد تشخص أبصار الكفار، ويعترفون على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين، فيأتيهم الخطاب الإلهي: إنكم وأصنامكم معاً ستكونون حجارة لجهنم، ثم يقول الله تعالى مخاطباً أصحاب العقول: (لو كان هؤلاء آلهة ماوردوها).
أما استدلالكم على أنه ص سب الأصنام بأنهم لما قالوا لأبي طالب ع أن ابن أخيك سب آلهتنا لم ينف ذلك النبي ولا أبو طالب، فلعله نفى ولم يبلغنا، ولعله لم ينفِ لئلا يُتوهم احترامه للأصنام، وهي عنده غير محترمة ولاقيمة لها، ولعله لسبب آخر.
بالنتيجة أن قولكم أن سب النبي للأصنام تلك (دعوى القرآن) لا دعواهم تبين عدم تماميته، فآية (يذكر آلهتكم) أجنبية عن البحث، وكذا(حصب جهنم) بالبيان الذي ذكرناه.
ولا يكاد ينقضي تعجبي من اعتباركم التفريق بين السب واللعن هو من طرح (صغار المتعلمين!) فهذا المرجع السيد صادق الروحاني يفرق بين السب واللعن ويرى السب منهياً عنه واللعن جائزاً وربما واجباً، (وربما اتصف بحكم آخر) ففي ضمن جوابه على استفتاء وجّه إليه حول آية(ولاتسبوا) قال:
(هناك فرق بين السب واللعن موضوعاً وحكماً، فقد ورد النهي عن السب في القرآن الكريم وفي الروايات على قاعدة قوله تعالى « وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» وأما اللعن فقد صرح القرآن الكريم باللعن، وورد لعن صريح من الأئمة (عليهم السلام) بلعن أقوام، وبالتالي فإن حكم اللعن يختلف باختلاف موضوعاته فتنطبق عليه الأحكام التكليفية الخمسة).
. ولا أخالكم تعدون مثل المرجع الروحاني من(صغار المتعلمين)!
وهذا من المآخذ على جنابكم أنه أحياناً تأخذون مقالة تصدر من رجل دين عادي فتسخِّفونها، وتستهزئون بقائلها وتصورونه أجهل الجهلاء، ولايفقه من الفقه شيئاً، في الوقت الذي تجد عند البحث، أن عين تلك المقالة قال بها مراجع تقليد وعلماء كبار!
هذا مع أنا نوافقكم أن اللعن قد يكون في أحيانٍ سباً.
ثم العجيب منكم أن تشنعوا وتستهزئوا هنا بمن يقول أن السب غير اللعن، وأن السب غير النيل والعيب والتنقيص، مع أن جنابكم قد ذكرتم إمكانية هذا القول في آخر المحاضرة التي ناقشتم فيها آية(ولا تسبوا) ضمن سلسلة بحوث(تحرير الإنسان الشيعي) حيث قلتم مانصه(حسب المحاضرة المكتوبة):
(الأمر الثالث : أنه على التخلّي عن القول بالقيود والقول بالحكم الأول، والقول بالقضية الخارجية يمكن أن يُقال أيضاً إنّ مطلق اللعن والثلب والنيل ليس سباً بالخصوص حتى يدخل في منطوق تحريم الآية، يمكن أن يسار بالنحو الذي سار فيه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) من النكير على آلهة المشركين و على عبادتهم اياها رغم نزول الآية.. إنه (صلوات الله عليه و آله و سلم) لم يسب بعد نزول هذه الآية، ولكنه سار في إبطال هذه الأصنام بضرب من التوهين، لا أقل من بيان هذه الأصنام من المنكر والباطل، فليكن عمل العاملين من المؤمنين على هذا النحو حينما يتصدون للدعوة والتبليغ كأن يكثفوا جهودهم في بيان أنّ مولاة ابي بكر وعمر وعائشة (لعنة الله عليهم) هو من المنكر والباطل وهذا ليس من السب والمنكر في شيء)).

ثم قد يُقال لكم: عندنا آية صريحة في المقام يُستفاد منها النهي عن سب رموز الآخرين، حيث يرتد السب على رموزنا قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..)
وفي الكافي عن الصادق ع:(وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم ، فيسبوا الله عدوا بغير علم ، وقد ينبغي لكم ان تعلموا حد سبهم لله ، كيف هو ؟ انه سب أولياء الله ، فقد انتهك سب الله ، ومن أظلم عند الله ممن استسب لله ولأوليائه، فمهلاً مهلاً، فاتبعوا أمر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وروى العياشي في تفسيره : عن عمر الطيالسي ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سألته عن قول الله : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ). قال : فقال : " يا عمر، رأيت أحداً سب الله ! " قال : فقلت : جعلني الله فداك ، فكيف ؟ قال : " من سب ولي الله فقد سب الله "
وفي أمالي المفيد مسنداً: عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)، قال : " إن في التوراة مكتوبا فيما ناجى الله تعالى به موسى عليه السلام ، قال له : يا موسى.. إلى أن قال: واكتم مكنون سري في سريرتك ، وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي ، ولا تستسب لي عندهم بإظهارك مكنون سري ، فتشرك عدوي وعدوك في سبي ".
تقولون: المفهوم من الآية والروايات:
أ: المحرم هو السب الذي يستتبع أن يسبوا هم لا مطلقاً، يعني أن نسب رموزهم فيسبوا رموزنا، وهذا يعني لو لم يسبوا رموزنا فلاحرمة.
ب: أن سبهم يجب أن يكون عدواً يعني خروجاً عن حالة أصلية هي عدم السب، حيث إنهم لايسبون، لكن بسبب سبنا يُثارون فيسبون. وهذا يعني لو كانوا في الأصل يسبون سببنا نحن أم لا فلا حرمة.
ج: أن يكون سبهم عن جهل فلو سبوا عن علم وعناد. فلاحرمة حتى لو علمنا بارتداد السب منهم9.
نقول: إن الرواية تقول: (من استسب لله ولأوليائه) والأولياء أعم من المعصومين، فيشمل العلماء الأتقياء، وأصحاب الأئمة وأمثالهم. وبناء عليه: فإننا حيث نسب أولياءهم، يسبون أولياءنا ليس بالضرورة الأئمة بل غيرهم، ممن لاحرمة لهم عندهم، كالشيخ المفيد والصدوق والحلي وزرارة وأبي بصير ومحمد بن مسلم و.. فكما لا يجوز الاستسباب للأئمة ع، كذا لايجوز الاستسباب لهؤلاء(أي جلب السب لهم) بل قد يقال إنه بتنقيح المناط(جلب السب لكل المقدسات هو أمر محرم) دققوا، فلو كان سبي، يوجب أن يسبّ هو دين الشيعة مثلاً، كأن يقول: (كذا من دينكم..) فقد سب الدين وهو يشمل كل المعتقدات الحقة، ولو قال مثلاً:(أولاد الكذا..) فقد سب الكل وفيهم العلماء والصلحاء والأولياء. ومن يقول ذلك، في كثير من الأحيان (إن لم يكن في أكثرها)، يكون جاهلاً، ويقول ذلك رداً، ويفعله عدواً لا ابتداءً. فدقق هنا جيداً رحم الله أباك!
وأما لو قلتم حتى مع انطباق القيود يبقى السب جائزاً إن ترتبت عليه مصلحة أهم، كإرشاد الغافل، والتحصين من الاغترار بالشخصيات المنحرفة، قلنا: لانسلم بترتب المصلحة الأهم في المقام، والقول بالقضية الخارجية هو خلاف الأصل.
قد تقولون: ماذا تصنعون باستسباب أمير المؤمنين عليه السلام نفسه من معاوية، حيث بدأ بسبه، أي الأمير بدأ بسب معاوية، فبلغ معاوية ذلك فرد بسب علي ع.
قلنا: يقال لكم:
أ- إن أمير المؤمنين ع، لعن معاوية ولم يسبه، واللعن قد يكون مجرد دعاء بالطرد من رحمة الله وإعلاناً للبراءة منه فلا يصدق عليه السب، وقد يراد به التنقيص والإهانة للآخر فيصدق عليه السب، ولا دليل على الثاني.
ب- لو تنزلنا وقلنا هو سب، فلقائل أن يقول: إن الأمير (ع) لم يسب معاوية، حيث يسمعه_ودققوا هنا جيداً_ الرواية تقول: (حيث يسمعوكم)، ومعنى ذلك أنه لو سببتم حيث لايسمعوكم، ولكن وصل سبكم إليهم، فسبوا (أي هم سبّوا)، فلاإشكال، وإلا لزم القول بتحريم السب مطلقاً، لأنه لو كان المطلوب عدم وصول سبنا إليهم، لحرم حتى السب فيما بيننا إذ قد يصل إليهم فيسبوا!
ج-إن سب أمير المؤمنين (ع) لمعاوية كان في موقف خاص، وفي ظرف خاص كان في حالة حرب بين الطرفين، وانفصام تام بين العسكرين، لم تكن هناك آثار اجتماعية ستترتب على ذلك، فكل من كان حول أمير المؤمنين ع، المفروض أنه عدو لمعاوية (ولو في الظاهر).
قال الصدوق في الاعتقادات:
قيل للصادق - عليه السلام - : يا ابن رسول الله ، إنا نرى في المسجد رجلاً يعلن بسب أعدائكم ويسميهم. فقال : (ما له - لعنه الله - يعرض بنا) . وقال الله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ). قال الصادق - عليه السلام - في تفسير هذه الآية : ( لا تسبوهم فإنهم يسبون عليكم ).
قد تقولون: حتى لو لم يثبت سب النبي (ص) للأصنام (الرموز) إلا أنه مع ذلك توجد لدينا رواية صحيحة تطلب ذلك بشكل صريح:(فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم).
هناك أربعة أجوبة يمكن أن تذكر هنا: 1-ما ذكرناه سابقاً من أن هذا الحديث يعبر عن الحكم الأولي، فلو فرضنا أن السب وإظهار البراءة يتولد من ورائه مشاكل وتبعات أكثر من الفوائد التي يجلبها فينقلب الحكم.
2-نحن نسأل: هل إظهار البراءة وسب هؤلاء، أمام من يتبعهم، أو أمام بقية الناس ممن لايعتقد بهم، خشية أن يتبعهم، ويتأثر بهم؟! قد يُقال: إن المراد هو الثاني وهو المقدار المتيقن.
3-قد يقال: أن المفهوم من السياق واللحن: (إذا رأيتم أهل الريب والبدع...كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام.. ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم). أنه هذا الموقف إنما يكون في صورة قوة الإسلام، وظهور تيارات تسبح خلاف التيار، فلا بد من إسقاطها فوراً لئلا تتوسع، ويتبعها الناس، والمفهوم منه، لو كان العكس بأن كان أهل البدع هم المسيطرون والناس أغلبهم معهم، وكان الإسلام ضعيفاً، فالحكم ليس كذلك! أو على الأقل مسكوت عنه. ولا أقل من الشك لشموله لمثل حالنا، فيسقط الاستدلال به!
4- هناك أحاديث عديدة في أمثال مجال هذا الحديث لايمكن حملها على إطلاقها، مثلاً: في الكافي بالسند المعتبر عن أمير المؤمنين ع:(أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة) من يعمل بهذا الحديث اليوم على إطلاقه؟! وإلا حرم على الشيخ التبسم في وجه كل حليق اللحية!! أفهل الشيخ ملتزم بذلك؟!
وفي الكافي عن الصادق ع:قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (شارب الخمر لا يعاد إذا مرض ولا يشهد له جنازة ولا تزكوه إذا شهد ولا تزوجوه إذا خطب ولا تأتمنوه على أمانة).
فهل أحد من الفقهاء يلتزم بحرمة عيادة شارب الخمر؟!
إذن هذه الأحاديث ينبغي أن تُحمل على فرض ماإذا كانت الظروف الاجتماعية مواتية لمثل هكذا أساليب، يعني مع غلبة أهل الدين، وظهور هذه المظاهر الشاذة، فهنا لابد من التصدي لها بحزم لمحاصرتها والقضاء عليها فوراً، وهكذا مسألة أهل الريب والبدع.
على أن استشهادكم بالفاضل الذي كان يرى أنه لا سب في القرآن أوحى كأننا كذلك، خصوصاً مع إرداف ذلك بقولكم: (إن على طالب العلم أن لا يتسرع، بالنفي والإثبات...) مع أن الأمر ليس هكذا، فوجود السب في القرآن أمر ليس ببعيد، وأما في السنة فهو موجود بلاشك، نعم قد يُفرق بين نوعين من السب: (سب عادي وسب فاحش، (وهو مايتسبب بإسقاط شخصية صاحبه) فقد يُقال بتنزه المعصوم عنه)، إذن لم يكن كلامنا عن أصل السب، بل كان عن جزئية بسيطة أنه هل سب النبي ص الأصنام أم لا.

سابعاً: أما كلامكم عن أنه إذا بنينا على كشف الحقائق، فإنه ليس هناك فرق كبير لدى المخالف _مع فرض إرادة الكشف_ سواء سببنا ولعنّا أم لا. الجواب: بل هناك فرق، فإن البحث العلمي مجرداً لايحدث في نفس الطرف المقابل الاستفزاز الذي يحدثه البحث المترافق باللعن والسب، خصوصاً مع التأكيد على علمية البحث وأنه نحن لاهدف شخصياً لنا في إسقاط هؤلاء، فأنا أطرح الأدلة والمعطيات، الدامغة والحجج القاطعة، ثم أتركه هو يسب ويلعن، لا أني في طور البناء ومع ذلك أرمي الناس بالأحجار، فلأنتظر كمال البناء أولاً! ومع أن بعض الناس يصدمون فيتابعون فيهتدون أو على الأقل يُروَّضون، فإن قسماً كبيراً آخر من الناس بمجرد أن يسمع كلمة سب أو إهانة لرموزه، لايكون مستعداً بعد ذلك لأن يسمع كلمة واحدة، بل يغلق التلفاز أو يغير القناة فوراً، وهذا ينفره من التشيع، وخذوا مثالاً، لو أنا نحن سمعنا شخصاً يسب فاطمة( ع) نعوذ بالله أو أمير المؤمنين( ع)، هل ننتظر حتى يتم بحثه العلمي!! أرجوكم شيخنا تأملوا في هذه النقطة. فإذن نحن بهذا ننفر الناس فنكون قد وقعنا فيما فررنا منه. وهناك مثال لطيف يضربه الأخ يقول: حال الذي يستخدم هذا الأسلوب (السب واللعن) ضمن الحوار هو حال من يرمي حجارة على شباك الآخر فيكسره، فيخرج الآخر مستعداً للعراك، فيقول له: فقط أردت أن نتحاور!!
وأما لو استدللتم بالنبي ص وإبراهيم(ع)، وأنهما أهانا آلهة قومهما، فمع أنه هناك فرق، فإن هذين النبيين ما كانا يقومان ويقعدان مع الناس ويقولان: هبل لعنة الله عليه، (اللات نعالي أحسن منه) العزى كذا، وإنما قد يوجهون بعض الإهانات بحسب ما يقتضيه الموقف. وما كان عندهما قناة فضائية موجهة لعامة الناس وكل أصنافهم يتكلمون فيها بلهجة واحدة للجميع.
وهذه نقطة في غاية الأهمية هي مفتاح في المقام لحل الإشكالية، فإن هذين النبيين كانا يعرفان أن الناس أصناف، منهم من تنفعه الصدمة فيصدمونه، ومنهم من لا تنفعه بل تنفره، (يعني ليس خطاب واحد موجه للجميع)، ولذا فإن النبي في بعض المواقف كان يتحدث بهدوء.. أو على الأقل كان (يسب) الأصنام في مرحلة، ثم نزل قوله تعالى (لاتسبوا) فتوقف..وكذا إبراهيم ع، كان هناك بعض المواقف تقتضي أو مسألة مرحلة، ولايخفى عليكم أنهما كانا في طور التأسيس، وإلا فالأصل هو: (قولا له قولاً ليناً).
ثم ما لكم تركّزون كثيراً على الاستشهاد بإبراهيم ع ونبينا ص(وقد أوضحت الحال في شأنهما)، ولا تنظرون إلى يوسف (ع):(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فتلاحظون الأسلوب اللطيف الهادئ، ليس هناك لا إهانات ولا سب، ولكن في الوقت نفسه بيان تام للعقيدة الحقة كماهي وبدون تنازل. وكذا بقية الأنبياء...فلنستمع معاً إلى هذه الآيات المباركة وهي تحكي لنا طريقتهم وأسلوبهم في الدعوة:
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ...وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين).
ولئن كان هناك كلام حاد أحياناً فلمقتضياتٍ، ولم يكن ديدنهم الحدية في مواجهة عموم الناس، وفي دعوتهم إياهم إلى الله، وأما (أشداء على الكفار)، فنعم في ساحة الحرب والمواجهة.
ثم مالكم تنظرون إلى آيات(يذكر آلهتكم) و(أف لكم ولماتعبدون) و(حصب جهنم). وتتركون آيات: (فقولا له قولاً ليناً) و(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة..) (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)! بالله عليكم لو سألتم أي عاقل، أنه إذا استخدمتُ في الحوار مع شخص أسلوب لعن وسب مقدساته، أهذا يصدق عليه أنه قول لين؟! أو يصدق عليه أنه حكمة وموعظة حسنة؟!
الحكمة وضع الشيء في موضعه، وموضع الحوار ليس هو موضع اللعن والسب،(السب واللعن لهما محل آخر)، وطبيعة الناس وجبلة الناس أنهم لايأتون بالشدة والعنف، لاينقادون بذلك، بل يتمردون، وينفرون، أغلب الناس هكذا، يعني أنت (تدوس في بطنه) وتقول: أنا أريد أن أهديك!! يا سيدي أليس هناك طريقة للهداية غير هذه؟! وكما أنتم لديكم شواهد على من ينفعه هذا المنهج، لدينا شواهد أكثر على من يضره هذا المنهج، بل قد بلغنا عن بعض المتشيعين قولهم: لو كنا نسمع هذه الطريقة من الطعن في عائشة قبل تشيعنا ما كنا تشيعنا!
لك أن تتصور مقدار الإثارة التي تحدث في نفس المخالف عندما تتعدى على عائشة، نعم لا تجامل ولاتتنازل قيد أنملة، ولكن ليس بالضرورة أن تتجاوز.
وكما ذكرنا في رسالتنا الأولى: إن مثل هذا الأمر يعد مخاطرة ومغامرة، يعني مثل من يرمي الحجارة في البئر يتحرش بالعفريت النائم!
ولئن قلتم هنا: إن الله نفسه في قرآنه قد استخدم الأساليب الحادة أحياناً فقال: (كمثل الحمار) (وكمثل الكلب) و(كالأنعام بل أضل). قلنا: قد تستدعي الضرورة أحياناً استخدام أسلوب حاد لكشف حقيقة واقع سيئ ودفع الناس للتنفر منه، ولكن ليس هذا هو الأصل أبداً، وليس هذا هو الديدن والقاعدة في الدعوة والحوار. ثم نقول: إن الله قال هو ذلك، ولكن بماذا أمرنا؟! الله يقول مايشاء ويتكلم بمايشاء، (لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون)! لكن بماذا أمرنا؟! هل أمرنا بهذه الطريقة أم قال لنا: (قولاً ليناً) (وقولوا للناس حسناً) (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث :.. رفيقا بما يأمر به ، رفيقا بما ينهى عنه.
وعن الصادق عليه السلام : فلا تخرقوا بهم أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وان أمارتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد ، فرغبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه).
قد تقولون: لكن لازم كلامك أن هذا الأسلوب خلاف الحكمة، فهل الله يتكلم خلاف الحكمة! قلنا: إنه في بعض الأحيان تقتضي الضرورة ذلك لما أشرنا إليه!
في استفتاء وجه إلى السيد صادق الروحاني: (ورد السؤال عن لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فهل هو عمل مفضل وجيد في المحافل التي يكون فيها السنة والشيعة، خصوصاً إذا كان اللعن بالاسم لا بالعموم فما هو حكم ذلك شرعاً وماحكمه أخلاقياً وكأدب من آدب الحوار؟)
الجواب : باسمه جلت أسماؤه لا شك في أن لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) هو من مصاديق قوله تعالى: « أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ »، واللعن يختلف عن السب والشتم، وهو مما تنطبق عليه الأحكام التكليفية حسب توفر الشروط لذلك.
وأما الحوار فهو موضوع آخر لا يدخل فيه موضوع اللعن، إذ لكل حوار أهدافه وأسسه وأساليبه الموصلة لغايته وليس المطلوب إثارة الحساسيات في الأماكن المشتركة، بل المطلوب هو بيان جانب الأحقية مع أهل البيت (عليهم السلام) وجانب الانحراف والظلم في أعدائهم). موقع السيد المذكور.
(كشف الحقائق)
وأما توقفكم عند قولنا أننا نعتقد ب(منهج كشف الحقائق)، ومحاولة النقض علينا ببعض الأمثلة، فنقول: في باب كشف الحقائق هناك نمطان: نمط مباشر ونمط غير مباشر، يعني نحن نريد أن نثبت أن الرجلين في النار، فيكفي(مرحلياً، وفي الخطاب الفضائي أمام الملأ). أن نكشف الأدلة القاطعة التي تدل على أن أهل البيت ع هم أصحاب الحق، وهؤلاء قد أبعدوهم. وبالتالي كل ما حدث ويحدث من انحراف وضلال ومصائب وكل ما سفك من دماء هو في عنقهما. وهذا يكفي لجعلهما في موضع الإدانة والحكم عليهما بالهلاك.. وأيضاً سيتولد شعور بالكره تجاههما.
ويمكن أن نقول كذلك: مالذي يجب تبليغه فيما يتعلق بالرجلين؟!
المقدار الواجب: هو مايجعل الإنسان يتبرأ منهما ويعتقد أنهما عدوان لله والرسول. وهذا المقدار يكفي في تحقيقه إثبات أن هذين غصبا حق حجج الله، ومنعاهم من أداء وظائفهم، من غير عذر ومع تمام الحجة عليهما! (يعني من خلال إثبات قضية الغدير ومايرتبط بها)، وبالتالي صدا عن سبيل الله تعالى! إذن هما عدوان لله والرسول لابد من معاداتهما! كما أن كونهما في النار هو تحصيل حاصل للمذكور. ثم إذا أردت فضحهما وذكر مثالبهما ومساوئهما بالتفصيل، فليكن بهدوء تبعاً للمنهج العلمي (فقط) بدون سب ولعن... ليكن ذبحك لهما بالقطنة(كما يعبر العراقيون) وبدون ضجة وصخب. مثلاً: إثبات جهل الثاني: يمكنني أن أنقل روايات وأدلة بدون أن أستخدم توصيفات وإهانات ثم أنقل ما ثبت في علم المولى أمير المؤمنين (ع)، ثم أقول ماقال الله: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبع أمن لايهدّي إلا أن يُهدى مالكم كيف تحكمون)؟!
مثال آخر مادلّ على جبن الثاني10، أنقل الأدلة والمعطيات، ثم أنقل ما يتعلق بقاتل الأقران وأترك الناس لتحكم!
قد تقولون: هذا المنهج أيضاً مثير، أقول: لامقارنة، هنا أنت تجلب أدلة وتخاطب ضمائر الناس بكل لطف وهدوء ومحبة، فالمفروض أن الإنسان العاقل يتفهمك، وحتى المتشدد سوف يشكرك ويكون ممتناً لك أنك مع كل هذه الأدلة والبحث العلمي لكن تقديراً لمشاعره، وأنك تخاطبه لم تلعن ولم تسب!
حساسية موضوع الرجلين والمرأة:
قد تقولون: لماذا تهاجمون معاوية وابن العاص ومروان والمغيرة وأشباههم، ولا تهاجمون الأول والثاني والكل رموز. ألا يجب احترام الرموز أليس ذكر الرموز بسوء يولد الفتن؟! الجواب: نحن لسنا ممن نقول إنه يجب احترام رموز الضلال، بل رموز الضلالة لا حرمة لها ولا كرامة، وحقها أن تهان وتدان، وإنما الكلام في المصلحة والمفسدة، وبلغة العصر في الآثار الإيجابية والسلبية، فهذه الرموز هناك تفاوت في أثر النيل منها عند المخالفين، مثلاً شخص مثل مروان، النيل منه لا يؤثر كثيراً ولايتسبب بردات فعل..ابن العاص..وحتى معاوية، بخلاف الرجلين والمرأة.
وهذه الحساسية كانت منذ الأيام الأولى، فلم يكن أحد يقبل بمخالفة طريقة الشيخين حتى في مسألة فقهية بسيطة، كما هو الحال في صلاة التراويح، وأمثالها، فكيف يقبلون بالطعن فيهما وسبهما! ويتضح من استقراء التاريخ أن الشيخين قد تحولا في فترة مبكرة جداً إلى رمزين إسلاميين مقدسين ليس بوسع أحد مسهما، بل مخالفتهما، ويتضح ذلك من اشتراط عبد الرحمن بن عوف على أمير المؤمنين(ع) لدى عرضه الخلافة عليه العمل ب(سيرة الشيخين)!! وكما أشرنا أن أمير المؤمنين ع نفسه وهو من هو، وموقعه في الإسلام هو ذلك الموقع الشامخ لم يكن بوسعه أن يفرض الحق، ويخالف الرجلين! وهناك خطبة معروفة له ع رواها ثقة الإسلام في الروضة من الكافي، خطبها (في ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته)يعبر فيها الإمام عن ذلك الواقع المرير، وأن الكثير من المخالفات والبدع قد عملها هؤلاء وأدخلوها في الدين إلا أنه لم يكن بوسعه أن يغير شيئاً!:
(قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم ( عليه السلام ) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ( عليها السلام ) و رددت صاع رسول ( صلى الله عليه وآله ) كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ .... وحرمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ وأمرت باحلال المتعتين وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وأخرجت من أدخل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مسجده ممن كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخرجه ، وأدخلت من اخرج بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ممن كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أدخله وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها.... إذن لتفرقوا عني.
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار).
إذن هذا يؤكد قضية الحساسية الخاصة وغير العادية عند التعرض لهذين الرجلين بالذات عند الأمة المخدوعة، منذ اليوم الأول!
ومما يؤكد تلك الحساسية الشديدة سؤال زيد الشهيد عن رأيه في الشيخين، لدى جمعه الناس للثورة على بني أمية، أملاً بأن يُصرح برأيه فيتفرق الناس عنه! وممايؤكد ذلك كل الروايات التي يُسأل فيها الأئمة(ع) عن الشيخين بالذات، فيتقون أو يستعملون عبارات محسوبة، (حين يكون الكلام بمحضر أهل الخلاف أو من لايُؤتمن).
ثم ألحق في فترة متأخرة بالشيخين (الشيخ الثالث) بجهود مضنية غير عادية من معاوية، كما أشرنا سابقاً.
والكلام الذي قلناه في الرجلين أيضاً نفسه يُقال في المرأة، فإن الحساسية الشديدة في شأنها كانت منذ اليوم الأول، خصوصاً وأن تلك المرأة كانت زوجة النبي (ص) والأعم الأغلب من المسلمين (السذج) كانوا يرون أن لهذا المقام بحد ذاته شأواً وشأناً، ولا أعتقد أني بحاجة لإيراد شواهد على الحساسية الشديدة التي كانت ومازالت في شأن هذه المرأة.
التقية المداراتية:
ثم نحن عندنا شيء يسمى التقية المداراتية، يعني أن نعاملهم بالمداراة، ولو فرضنا عدم كون الضرر من تركها مباشراً، فيلزم مداراتهم.
ومن أبرز مصاديق المداراة، عدم التعرض لما يستفزهم ويثيرهم (قدر الإمكان) ولا شك أن سب رموزهم الكبرى يتنافى مع مداراتهم. فإن قلتم أدلة التبليغ واردة على أدلة المداراة قلنا: قد بينّا سابقاً أن التبليغ لايتوقف على الأساليب الخشنة والحادة، بل يمكننا اختيار التبليغ بدون السب واللعن والطعن، وهذا هو مقتضى الأخذ بأدلة مداراة العامة، وإلا لزم طرحها، فليتأمل في هذه النقطة.
ومما دل على هذا النوع من التقية خبر هشام الكندي عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ( إياكم أن تعملوا عملا نعير به ! فإن ولد السوء يعير والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولا تكونوا علينا شينا ! صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير ، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء ) قلت: وما الخباء ؟ قال عليه السلام: ( التقية ). وخبر معاوية بن وهب ، قال قلت له : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا مما ليسوا على أمرنا ؟ فقال : ( تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون ، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدون الأمانة إليهم ). وخبر الخثعمي عن أبي عبد الله عليه السلام : ( عليكم بالورع والاجتهاد ، واشهدوا الجنائز ، وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدكم ، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم ، أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره) وغيرها من الأخبار التي ادعى بعض الفقهاء تواترها.
الوحدة الإسلامية:
وهذه الأخبار تشير أيضاً إلى عنوان مطلوب لدى الشارع، وهو التوحد ضمن الدائرة الإسلامية لحفظ الوجود الإسلامي العام.
قال السيد صادق الروحاني:
(وفي بعض خطب نهج البلاغة أشير إلى ذلك ، بل في الصحيفة السجادية الدعاء دعاؤه لأهل الثغور، فإنه يدعو عليه السلام في ذلك الدعاء لأهل الثغور للملكة الإسلامية التي كان الحاكم عليها من بني أمية ، حفظا للوحدة وإعلاءً للكلمة، يدعو لهم بأبلغ دعاء مشحون بالحقائق ، وهو يبين وظيفتهم ووظيفة الحكام معهم بصورة الدعاء . وعلى الجملة ، فالمستفاد من الآيات الشريفة والسنة المتواترة وعمل المعصومين عليهم السلام الاهتمام بالوحدة الإسلامية، والحذر من التشتت والتفرق..) فقه الصادق ع ج3ص422-423.
واستشهد أيضاً بعمل الأئمة (ع) ومن ذلك مشاركة الأمير لهم فيما يرتبط بمصلحة المسلمين وعزة الإسلام، ومن ذلك إشاراته عليهم في الحروب وتوجيهه (ومحاولة تصويبه تلك الأمور)، ويمكن أن يُضاف إلى ماذكره عدم تأييده لقتل الثالث بتلك الطريقة، مع أن الثالث كان مستحقاً للقتل مهدور الدم بما أجرم، ولكنه خشي على تمزق الأمة.
وقال السيد محمد الشيرازي(قده) في كتاب الشيعة والتشيع: (فالمسلمون بنعمة الله إخوة، والقرآن الكريم دعاهم إلى الألفة والاتحاد، قال سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، وقال: (إن هذه أمتكم أمة واحدة)). وقال: (الإسلام ينص على وجوب وحدة المسلمين...فابتعاد المسلمين بعضهم عن بعض خلاف ما أمر به الإسلام).
وقال: (إن علماء الإسلام ومفكري الأمة قد تنبهوا إلى هذا الخطر، وشعروا بهذه الحقيقة، فانبروا لإقامة المؤتمرات الإسلامية وعقد اللقاءات المتواصلة لإزالة الصدع، ولمّ الشعث، وسعوا في التقريب بين المسلمين، ولا أدل على ذلك من جهود زعيمي المسلمين: الإمام البروجردي..الشيخ الأكبر شلتوت..). وقال: (وإنني اليوم أكرّر ندائي إلى جميع المسلمين بتوحيد أمرهم وإزالة سوء التفاهم بينهم وعدم نبذ بعضهم بعضاً وعدم التراشق بالتهم).
هذا المتكلم ليس هو (البتري الأول) ولا(عميد...) وإنما هو السيد محمد الشيرازي.
وقد كتب هذا السيد الجليل كثيراً عن الوحدة ونظّر لها في كتب عديدة كالسبيل والصياغة وممارسة التغيير وغيرها، وفي كتاب السبيل اعتبر الوحدة ركيزة أساسية، بل الركيزة الأولى لنهضة المسلمين.
إذن الوحدة مطلوبة، وهي من أهم الواجبات الإسلامية، نعم الوحدة إذا استلزمت التنازل عن العقائد فلانقول بها، وأمير المؤمنين ع قبل بالخلافة والوحدة، حتى يصحح من خلالها، والنبي أقام الدين، وكان الكثير ممن معه منافقون، ولكنه لم يتخذ مواقف منهم، أو اتخذ مواقف محسوبة حفاظاً على الوحدة.
ولذا لأجل الوحدة كان لا بد من عدم فتح جبهة الحرب عليهم بسب مقدساتهم.
في استفتاء وجه إلى السيد صادق الروحاني(موجود على موقعه) سُئل عن لعن الغاصبين للخلافة باعتبار منافاته للوحدة، ولزوم حذف اللعن الوارد في زيارة عاشوراء لأجل ذلك، فأجاب:
باسمه جلت أسماؤه، المنافي للوحدة بين المسلمين هو التظاهر في المجامع العامة التي يتواجد فيها فرق المسلمين بلعن غاصبي الخلافة، و أما لعن من اعتدى على سيدة النساء، واللعن في الخلوة على الغاصبين، ووجود اللعن في الزيارة وما شاكل فلا يضر بالوحدة).

ثامناً: (دعهم لا يتشيعوا). إني لأعجب كيف اقتطع شيخنا هذه الكلمة من سياقها وبنى عليها (البنايات) وأنه (ما كان يدور في خلده أن أحداً منا يتفوه بمثل ذلك!) و(أن طالب العلم عليه..إلخ) مع أن المقصود واضح بمتابعة الكلام، أنه حيث شخّصنا مفسدة تترتب على منهج الصدمة أكبر من المنفعة، وفرضنا أن هؤلاء لن يتشيعوا إلا بذلك، فلنتركهم، فهم المدانون، حيث إن سبل الوصول إلى الحق متاحة، والحجة تامة لكن هم لم يقبلوها. وهذا أصل ثابت، أن الله تعالى غير ملزم بأن يأتي بالحجة حسب الطلب! المطلوب هو إقامة الحجة البالغة وكفى، ولذا فإن الأنبياء ماكانوا يجيبون المعجزات المقترحة.
(وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين). (العنكبوت 50 ).
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (الأنعام 109 ).
فلم يكن واجباً على الله أن يحتج عليهم بالطريقة التي تعجبهم والتي يشتهونها! والمراد من (دعهم لايتشيعوا) أنه أنت لست مسؤولاً عن عدم تشيعهم، إن سعيت واتبعت الطرق المتعارفة في الدعوة ثم هم لم يقبلوا ولم يؤمنوا(فرضاً)! فأنت أديت ماعليك. فالمراد هنا هو المراد من قوله تعالى: (لعلك باخع نفسك أن لايكونوا مؤمنين)! ومعنى باخع أي: مهلك.
وهذه المناقشة من شيخنا ذكرتني بمأخذ آخذه على جنابكم _عفواً_ ومن يسير في هذا المسلك، وهو التسرع في الحكم على كلمات الآخرين، وعدم التريث أو وضع الاحتمالات، ولو سلمنا بهذا المنهج مع بعض من يرى الشيخ انحرافهم من استقراء مجموع كلامهم، فإنا لنعجب من اتباعه مع أناس مؤمنين مستقيمي العقيدة! قال كلمة، مثلاً، يمكن أن تحمل وتحمل، مباشرة نتاوله ونسقطه، أهكذا أمرنا أئمتنا؟!
قد تقولون الدين أهم من الرجال، ولا يمكن التهاون في هذا الأمر نقول: الجمع ممكن، فحين أعلم أن هذا الشخص مؤمن وصدر منه كلام على خلاف سيرته وطريقته، أنقد هذا الكلام وأنفيه ولا أتعرض للقائل، جمعاً، لأننا نقول: ألا ينبغي التورع أيضاً في شأن المؤمن أليس للمؤمن حرمة وكرامة عظيمة عند الله؟! أليس حرمته أعظم من الكعبة؟! أهكذا نستهين به وبسمعته ونجرحه ونهينه ونهزأ به بحجة أننا ندافع عن الدين. أنا أرى عند أتباع هذا المنهج استسهالاً في هذا الجانب، ما أسهل أن يهاجموا الإنسان ويقذفوه ويهزؤوا به لمجرد أنه يختلف معه في الرأي بتعبير العراقيين: (على الريحة) فقط يشم منه رائحة. شخص قال بـأنه: (الصلاة أهم من الزيارة لأنها واجبة والزيارة مستحبة) يا لها من كفرية، نتناول هذه الكلمة وننسى تاريخه وولاءه.. ومانعلمه من استقامة في العقيدة!
(ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً).
(من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس فهو بريء مما ينتحل).
(أيها الناس ، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال . أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع وشهيد)
وانطلاقاً من هذا فنحن ننظر إلى الشيخ ياسر الحبيب من نفس المنظار (يعني من منظار الإخوة الإيمانية، أنه أخ ليس لنا جرحه مادمنا نجد له في الخير محملاً!)، نحن لو شئنا معاملة الشيخ بهذه الطريقة لاتهمناه بالانحراف والعمالة للاستعمار، وخدمة أجندات أعداء الإسلام(كما يصنع البعض)، لكننا لانفعل، بل نحسن الظن به ونفترض حسن النية، وأنه رجل باحث له فضل، قاده بحثه العلمي إلى النتائج التي وصل إليها، ونرجو أن يكون معذوراً عند الله لو كان مخطئاً!11 هكذا نتعامل نحن مع الشيخ، ونتورع عن أن نتهمه أو نبهته أو نظن به سوءاً فيوقفنا الله يوم القيامة ويسألنا، وشخصياً لامني بعض الإخوة على مجرد إرسال رسالة إلى الشيخ وقال: إن هذا الشخص لا يستحق أن تخاطبه! فهو إما جاهل وإما عميل وإما طالب دنيا ورئاسة وزعامة! وبعيد أن يكون جاهلاً مادام له فهم وعلم، فتحتم أن يكون عميلاً أو طالب جاه ودنيا! فرددته بشدة وقلت له: إن احتمالاتك تثبت فيما لو كان الموضوع محل الخلاف هو من ضروريات الدين، بحيث لا مجال لشخص أنه يخالفه، فإن خالفه فيثبت أنه إما طالب دنيا وإما عميل لوضوح المسألة! أما وأن المسألة اجتهادية ولا أقل من مخالفة الكركي العاملي ومن وجود روايات وأدلة تدعم هذه المنهج فتبقى المسألة اجتهادية! هكذا نحن نتحدث تورعاً لديننا وحفاظاً على سمعة إخواننا ورعاية لسمعة المؤمن! لكنا عفواً لانرى الشيخ يعامل من يخالفهم بهذه الطريقة ولو في بعض الموارد.
فالتسرع في هذا الجانب أخشى أنه ينطبق عليه قوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). ولم أستشهد ببداية الآية خشية من جرح مشاعركم الكريمة، وقلت: أخشى تخفيفاً (علماً بأني لا أقصد سوى تطبيق هذا الجزء من الآية دون ماقبله)، وهذا يقودني إلى ملاحظة أخرى، وهي أني عندما أنقد أخاً مؤمناً ألتفت إلى عباراتي فلا أستخدم ما قد يجرح الآخر، ولا أستخدم كلمات الاستصغار والتحقير، كما أفعل مع من ثبت لي انحرافه! وأيضاً لا أستخدم أسلوب التعالي معه وأنني فوق وهو تحت، فما دام البحث في ضمن دائرة المؤمنين والمسألة خلافية واجتهادية، فلا موجب لأي من ذلك، إذ قد أكون مخطئاً! أليس هذا وارداً؟!

تاسعاً:أما قولكم بأن (أهل العالم الثاني) مدينون ل(أهل العالم الأول)، بل إن نعمة هؤلاء تجري على أولائك، فإننا نقول نقضاً: وقد يُقال لكم أنتم أيضاً: إن نعمة الملكة (الزابيث)، ونعمة بريطانيا (العظمى) ونعمة الغرب والديمقراطية الغربية تجري عليكم، إذ لولاهم، لما قدرتم تستمروا بقناتكم وخطاباتكم وبلاغاتكم ليوم واحد، أفهل هذه النعمة تستلزم منكم السكوت عن مساوئ هؤلاء، وكفرهم، وبعدهم عن جادة الحق والهدى؟!
وحلاً يقال لكم: إن كل جهة أو جماعة أو توجه أو تيار، أو منهج له إيجابيات وسلبيات، فوجود الإيجابيات وحده، ليس مبرراً للسكوت عن السلبيات، ولا أعتقد أنكم تخالفوننا في هذا!

عاشراً: لا أدعو إلى اتباع هذا المنهج ولا أحاربه وأخذّل الناس عنه، لا أدعو ولا أنهى، فلنقل أني شخصياً من المتوقفين في هذه القضية. عندنا شهرة تقف ضد منهجكم، الاستدلال بالكتب وبنقل الروايات استدلال بما هو أعم من المطلوب، إذ قد يكون حفظاً للحق خشية ضياعه، فليس لكم إلا سيرة الكركي في هذا المجال، هذا المثال الوحيد الذي لا مناقشة فيه، وإن وجدتم غيره فستجدون أفراد قلائل، لكن مشهور الفقهاء على خلاف هذه الطريقة والسيرة فلو فرضنا تمامية أدلتكم كسرتها الشهرة12، وكما قال السيد الخوئي في مسألة: حلول المغرب بسقوط القرص. أن الأدلة على كفاية السقوط، لكن الشهرة العظيمة حتى صار من شعارات المذهب أن الغروب يتحقق بزوال الحمرة المشرقية جعله يحتاط وجوباً في المسألة، فغاية ما يمكن أن نقوله في هذه المسألة نظير ما قال هو في تلك. أن نتوقف.
وقد سمعنا منكم أنه إذا دار الأمر بين رأيي ورأي المرجع، فالاحتياط للدين هو في اتباع المرجع، وهذا مانقوله نحن للناس عندما نُسأل عنكم، كل ينظر إلى المرجع (العدل) الذي يقلده ماذا يقول في هذا الشأن فيتبعه.
أسأل الله أن يجمعنا وإياكم على الهدى ويوفقنا لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم: حسين النصراوي13
السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1436 هجرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالورود هو نوع من التخصص (الخروج الموضوعي)، ولكن هذا التخصص ليس وجدانياً، وإنما بتوسط تعبد الشارع، يعني مثلاً لوقال الشارع: كل مكلف يجب عليه الصلاة، فخروج الطفل هو خروج موضوعي وجداني(تخصص) ولكن لو قال: (لاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فخروج المجاهد، هو خروج موضوعي أيضاً ولكنه حصل لابالوجدان بل ببركة تعبد الشارع، أي لأن الشارع تعبدنا بالجهاد، فنفهم خروج المجاهد موضوعاً، أو: فنفهم خروج موضوع المجاهد عن (ولاتلقوا).

2 هذا ولايخفى أننا نناقش في بعض الأحيان جدلاً، وليس بالضرورة أننا نتبنى كل المناقشات.

3 وبهذا تنحل إشكالية تذكرونها عادة، وهي أنه لو كان اللازم والواجب استخدام التقية في هذا الزمان لحرم إظهار كل مايدل على أننا شيعة، يعني حتى ذكرنا لأحقية الأمير ع بالخلافة، بل مجرد ذكرنا لفضائله! حيث إن الأئمة كانوا ينهون في أزمنة التقية حتى عن التحديث بفضائل علي وفاطمة(ع)! وجوابه: حيث إن التقية مرتبطة بالضرر فيمنع إظهار مايجلب الضرر والخطر( من العقيدة)، وبالتالي تكون التقية مراتب ودرجات لامرتبة واحدة، وحيث إن ذكر مثل هذه الأمور في هذه الأزمنة لايجلب عادة ضرراً (معتداً به) لا عاماً ولا خاصاً، فإنه لامانع في إظهاره، نعم لوفرض حصول الضرر في ظرف أو مكان، لزمت التقية حتى في أمثال هذه الأمور أيضاً.

4 قد تقولون: فماذا تصنعون مع أسلوب النبي ص والنبي إبراهيم (ع) الحاد ، وبحديث: (فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم) أقول: سيـأتي جواب ذلك كله.

5 طبعاً لايخفى أنه قد تجد بعض رجال الدين ممن ينتسبون إلى هذا (العالم) ليس من همومهم التبليغ، بل همهم دنياهم، وتحصيل قوتهم، ومثل هؤلاء أساساً يدخلون هذا السلك ليعيشوا! لكي يقتاتوا من خلاله، يعني مصدر رزق ليس إلا، هؤلاء موجودون دائماً عندنا وعند غيرنا(أعني الطوائف والأديان الأخرى)، فليس كلامنا عن هذه الطبقة، بل كلامنا عن رجال الدين الحقيقيين (المخلصين) الذين نذروا حياتهم لله ولإعلاء كلمته.

6 في الحديث: (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم). وروي: (لاتحدثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموها).


7 ومنه يتضح أن حديث (يترك أحدكم التقية في الكوفة فيقتل بسببه قوم بالحجاز) الذي شنعتم به على أحد الخطباء، وإن لم يكن موجوداً بهذا اللفظ، لكن مضمونه يُفهم من الحديث المذكور وأمثاله!

8 طبعاً مرادنا بالخصم (الخصم العلمي) وإلا فلاخصومة بيننا إن شاء الله، بل كلنا إخوة في الدين.

9 قد يُقال: إننا في الجملة نعلم بان هناك من يسب رموزنا، كالمهدي ع، 1-بسبب سبنا، 2- عدواً، يعني لم يكن ديدنه السب قبل سبنا، 3- وهو جاهل غافل. ولكن لكم أن تقولوا: إن هؤلاء قلة، إذ غالبيتهم يحترمون المهدي(ع)، ولايجسرون عليه، والحكم لا يترتب على الموارد النادرة.

10 ملاحظة: قد يتندر الشيخ ويضحك! من استعمالنا مصطلح الثاني، والرجلين، كما سمعته ذات مرة يهزأ بهؤلاء الذين يفعلون ذلك، ولا أدري كيف خفي على شيخنا حكمة ذلك وسره، أولاً: إن هذه هي طريقة الأئمة ع، أنهم ماكانوا عادة يذكرون الأسماء بل كانوا يكنون، كما في زيارة عاشوراء وغيرها، وقد أقررتم جنابكم_في كلام سمعته لكم_ أن قولهم: (الأول والثاني..) لم يكن تقية منهم بدليل أن معاوية (الرابع) ذكر سابقاً، ولكن لحكمة أخرى، فإذن _بناء على هذا_ ليس لكم أن تشنعوا علينا بأنه لماذا نتقي، والقوم يعرفون مانقصد؟! فلنقل: إننا لانتقي، وإنما نعبر بذلك (أحياناً) تأسياً بأئمتنا(ع)! يعني نتبع طريقة أئمتنا!
ثانياً: إن من الحكم المهمة في هذه التعابير أنه في الوقت الذي هي مفهومة للجميع (تقريباً) اليوم، إلا أنك لايمكن أن تؤخذ بها (على الأقل قانونياً)، فأنت لم تُصرح بالأسماء وتستطيع أن تدعي أني أقصد آخرين، كما في قصة شهيرة منقولة عن الشيخ الطوسي، خلاصتها أنه وشي به إلى الخليفة العباسي أنه هو وأصحابه يسبون الصحابة وذلك أنه أورد في كتابه (المصباح) لعن هؤلاء، (اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني وابدأ به أولاً ثم العن الثاني والثالث والرابع). فاستدعى الخليفة الشيخ وأحضر الكتاب، فقال(قده): (المراد بالأول قابيل قاتل هابيل وهو أول من سن القتل والظلم . وبالثاني : قيدار - عاقر ناقة صالح - وبالثالث : قاتل يحيى بن زكريا - ع - قتله لأجل بغي من بغايا بني إسرائيل ، وبالرابع : عبد الرحمان بن ملجم - قاتل علي بن أبي طالب - عليه السلام). فلما سمع الخليفة من الشيخ تأويله وبيانه قبل منه ورفع شانه ، وانتقم من الساعي وأهانه.

11 طبعاً هذا فيما يرتبط بمنهجه في مسألة البراءة، وإن كان في النفس شيء من مواقفه من بعض الشخصيات الشيعية التي أحياناً أجد من الصعب التماس المحامل له، ولكن مع ذلك أقول لعل له محملاً!

12 هذا بالإضافة إلى ما ذكرنا من أدلة ونقوض تضعف هذا المسلك.

13 ملاحظة: إنما أردفت اسمي في الرسالة الأولى بكلمة (الشيخ) ليعلم أن المتحدث طالب علم، حتى تؤخذ رسالته موضع العناية، إذ ربما كنتم لا تعرفونني، أو قد تتصورون أن المرسل شخص آخر يحمل هذا الاسم، أما وقد عرف ذلك الآن، فلاحاجة لإرداف الاسم بشيء.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



جواب الشيخ:



بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

إن مواصلتكم التحرّي وإقبالكم علينا بالتقصّي لهما مما نسعد به كلما عاودتم الكرّة، إذ بهذا تُشحذ الذاكرة وينتعش الفكر ويتبلور التحقيق ويستحكم المنهج، وهو بعدُ فرصة للتلاقي مع أخ كريم، فلكم الشكر مجددا.



● جواب أولاً: تسليمكم لما ذكرناه بادرة تفصح عن نفس منقادة للدليل، بيد أنها تأبّهت عن فهمه، فكم بين ضيق ما نسبتموه إلينا من القول بأن «ورود الجهاد على أدلة التقية إنما هو إلى الحد الذي لا يتسبب باستئصال بيضة الدين، وإلا رجع الأمر إلى حكومة أدلة التقية» وأن «الصورة الوحيدة من صور التبليغ المتيقن حكومة أدلة التقية عليها هي صورة ما إذا أدى التبليغ إلى تعريض أصل الدين للخطر، فهنا تأتي التقية وتوقفه، أما ما عدا هذه الصورة فمهما بلغ الأمر من أضرار، ومهما سفكت من دماء، فذلك يهون في سبيل أداء هذه الوظيفة المقدسة»؛ كم بين ضيق هذا وبين سعة ما قلناه من أن التبليغ «لا يجوز تركه مطلقاً وإن أفضى إلى خسائر إلا حين إحراز انقلاب الغلبة كما تقدّم» وهي «غلبة التبليغ من حيث قوة المطلوبية على التقية» المعتمدة موضوعاً على «رجحان المصلحة الدينية معه على المفسدة».



ويظهر الفرق بين العبارتيْن بقصر الأولى المنع من التبليغ إذا تعرّض أصل الدين معه للخطر، فيما توسِّعُ الأخرى هذا المنع ليشمل كل ما تكون المفسدة الدينية معه أعظم من المصلحة حيث تنقلب الغلبة، وإذ ذاك فتكون ههنا أكثر من صورة، لا صورة واحدة. منها على سبيل المثال لا الحصر؛ ما لو قُدِّرَ أن يتحقق بالتبليغ هداية ألف، إلا أنه يُقَدَّر أيضاً إفضاؤه إلى مقتل ألفين من حمَلة الدين كرد فعل، وليس بين الطائفتيْن فارق نوعي كأن يكون الألف المهتدون من صنف العلماء أو النقباء أو الأكابر الذين يتقوّى الدين بهم أو يعز وينتشر، فإنه حينئذ يتعطّل التبليغ إذ المفسدة أعظم بخسارة ألف كمحصّلة، إلا أن تكون هنالك مصلحة دينية جابرة من جهة أخرى. وهكذا، دون إغفال أن المسألة ليست دقّية حسابية، بل عرفية تقديرية.



وإن من العجيب أن يسبقكم الوهم إلى ذلك مع صراحة قولنا: «نعم قد تتوقف هذه المصلحة على فرد أو جماعة كأن يكون ببقائه أو بقائهم بقاء الدين أو عزته، وبذهابه أو ذهابهم ذهاب الدين أو انكساره»، وقولنا: «نعم إذا توقفت هذه المصلحة على حفظ مصلحة فرد أو جماعة، كأن يكون فناؤهم أو تضررهم مفضيا إلى فناء الدين أو تضرره؛ آل الأمر إلى الترك والتقية». فلم نقصر الفرض في جنبة المفسدة على تعريض أصل الدين للخطر أو فنائه وذهابه؛ بل ذكرنا انكساره وتضرره. كما لم نقصر الفرض في جنبة المصلحة على بقاء الدين ببقاء الفرد أو الجماعة؛ بل ذكرنا حفظ مصالحهم. وكلاهما أعمّ وأوسع. نعم؛ قد ذكرنا أن هذا «الفرض نادر اليوم» للذي شرحناه، ولذا نمضي على هذه المنهجية لعدم إحراز انقلاب الغلبة.



أما الإيراد بأنه بأي دليل نطبق أحكام الجهاد بالحرب على الجهاد باللسان؟ فإنّا لم نطبّق ذاك على هذا ولا زعمناه، كيف وهما قسيمان؟ وإنما الذي قلناه هو تسرّي حكم المقسم وهو الجهاد بما هو هو على أقسامه، ومنها الجهاد باللسان، ضرورة أن ثمة جامعاً حكمياً لكل مندرج تحت عنوان شرعي إلا ما خرج بدليل يميط عنه الإطلاق الحقيقي ليظهر المجازي، على أن فائدة ظهور المجازي في بعض الحالات تمنع سلب ذلك الجامع الحكمي بالكلية عن الفرد لتذره في مرتبة أضعف حكماً. مثاله: الصلاة على الميت، هي مندرجة تحت عنوان الصلاة، فيتسرّى إليها ما للصلاة من الأحكام وإن لم ترد نصّاً، كستر العورة وعدم الكلام والضحك وإباحة اللباس ونحو ذلك، إما على نحو الوجوب أو الاستحباب، فمن ذهب إلى الإطلاق الحقيقي حكم بالوجوب كالشهيد رحمه الله، ومن ذهب إلى المجازي حكم بالاستحباب لقوله عليه السلام: «وإنما هي دعاء ومسألة، وقد يجوز أن تدعو الله وتسأله على أي حال كنت». فترى أن الجامع الحكمي على حاله إلا أنه تراوح شدةً وضعفاً.



وما نحن فيه هو من هذا القبيل، إذ (الجهاد) عنوان يشمل التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن جوامع حكمه تحمّل الضرر والمشقة والأذى، وإلا لما سُمِّيَ جهاداً! فالمناقشة في آخذية موضوع التبليغ للضرر ليست سوى وسوسة، ولا سيما مع ما نوّهت به الآيات والروايات، كقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ المفسَّر في رواية أمير المؤمنين عليه السلام بالصبر على المشقة والأذى من الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمستنبَط منه الدلالة «على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فيه بعض المشقة» كما يقول شيخ الطائفة رضوان الله تعالى عليه. بل إن القطب الراوندي رضوان الله تعالى عليه بعدما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أن المراد بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ﴾ هو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؛ أردف ذلك موضحاً معنى شري النفس هنا بقوله: «يشري نفسه يبيعها، أي يبذلها في الجهاد ويأمر وينهى حتى يُقتل». ومن ذلك كله تعلم شمول عنوان الجهاد للأمر والنهي، وإمكان بلوغ الضرر مبلغ القتل فيه.



والتنزّل إلى التعلّل بمناسبة الحكم للموضوع لتحديد مقدار الضرر المسموح بالتعرّض له في التبليغ؛ كان صحيحاً لولا إطلاق الحكم على موضوع التبليغ كموضوع الصوم، ذلك أن التبليغ - بخلاف الصوم - متشعِّب ينحلّ إلى أكثر من موضوع لكلٍّ منها ما يناسبه، فتقييد جواز التعرّض للضرر فيها مجتمعة بما يكون «ضرراً متعارفاً من قبيل العناء والمعارضة والمشاكل البسيطة» وحصر جواز التعرض فيها لخطر القتل وما أشبه بما يعود على «وجود الدين أو عدم وجوده».. هذا التقييد وهذا الحصر ما هما إلا غفلة عن ذلك التشعُّب والانحلال، فههنا فروض متعددة يجب أو يستحب في بعضها التعرّض للضرر بلغ ما بلغ دون عودتها بالضرورة إلى «وجود الدين أو عدم وجوده»، ودون أن يكون لـ (لا ضرر) حاكمية عليها، كإعزاز الدين وتقويته، وتوحيد الأمة على الحق ودفع الباطل عنها، وإماتة البدعة الظاهرة، وإحياء السنة المهجورة، والدفاع عن المظلومين، والمطالبة بالحريات والحقوق الإسلامية، إلى غير ذلك. سواءً كان الضرر واقعاً على شخص القائم بالوظيفة أو غيره، ما دام الضرر مستهلَكاً في المصلحة، كما سبق وبيّنا في جوابنا الأول.



قال السيد المرجع الروحاني دام ظله في فقه الصادق في مبحث اشتراط أن لا يكون في الإنكار ضرر: «إن حديث لا ضرر إنما هو من الأحكام الاجتماعية الإسلامية، فلا محالة يكون الملحوظ فيه عامة المسلمين، فإن كان حكم ضررياً بلحاظ النوع يكون مرتفعاً، وأما إذا كان حكم نافعاً للأمة الإسلامية وضررياً على شخص واحد فلا يرتفع بالحديث، فإن الفرد مستهلَك في المجتمع، ولا يلاحظ ضرره في مقابل نفع المجتمع، ولذلك أوجب الله الجهاد والخمس والزكاة، ولا سبيل إلى القول بأن هذه الأحكام ضررية، فإنه لا يُطلق الضرر على شيء يترتّب عليه منافع مهمة، فهل يتوهم أحد أن من يصرف مالاً قليلاً لتحصيل منافع مهمة أن يقال: إنه تضرّر في هذه المعاملة؟! وقد مرّ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجبان سوق المجتمع إلى الصلاح والعزة، وبالقيام بهذه الفريضة يلوح للأمة آيات السعادة، ويذوقون حلاوة النعم. وعلى الجملة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ للوحدة، وسياج دون الفرقة، والوحدة معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات المواثبين، وبهما يستقرّ أمر الخير والمعروف، ويمتنع إفشاء الشر والمنكر فيهم. وبديهي أن الضرر المتوجه إلى شخص واحد في المقام لا يعد ضرراً على الأمة في مقابل هذه المصلحة العظيمة. أضف إليه كون المأمور والمنهي غالباً من الأشرار، فبالطبع يكون الأمر والنهي موجباً لضرر أو حرج أو مشقة في غالب الموارد» إلى أن يقول: «ويستنتج مما حققناه في هذا الشرط مسائل نشير إلى طرف منها:



1- لا يعتبر الأمن من الضرر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ما يرجع إلى المجتمع الإسلامي، وحفظ أحكام الله تعالى من التغيير والتبديل، والظلم بالمسلمين، والتعدي على حقوقهم، وسلب الحرية من المسلمين، وما شاكل، بل هما واجبان - إذن - بلغ ما بلغ. وعمل الأنبياء صلوات الله عليهم والأئمة المعصومين عليهم السلام وأولياء الله المقرّبين كأبي ذر مع ما أصابهم من المكاره وهلاكة النفس أقوى شاهد عليه. نعم إذا فرضنا أنه في مورد خاص وقع التزاحم بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموجبيْن لهلاكة نفس، مع بقاء ذلك الشخص وقيامه بهذه الفريضة في ما هو أهم منه، فللفقيه مراعاة الأهم فالأهم.



2- لا يعتبر الأمن من الضرر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ما يرجع إلى شخص أو أشخاص غير ماسين بالمجتمع ولا موجبين لتغيير الحكم الشرعي، إلا إذا كان الضرر هلاكة النفس، أو وقع التزاحم بينه وبين ما هو أهم منه.



3- إذا ظهرت البدعة فعلى العالم أن يُظهر علمه بلا اشتراط الأمن من الضرر بلغ ما بلغ».



لا يقال: ليس هذا الكلام بناقضٍ لقولنا بالتقييد والحصر إذ هذه الأمور التي أجاز فيها التعرض للضرر «بلغ ما بلغ» إنما تعود في حقيقتها إلى «وجود الدين أو عدم وجوده». إذ يقال: بلى هو ناقض، ولا سيما مع تعداده مسوّغات من قبيل طلب العزة والحريات والحقوق والوحدة ومدافعة الظلم وغيرها مما لا كلام في أن تركها بمجردها لا يهدد وجود الدين بالضرورة، فكم من ظالم متجبّر أذلّ المؤمنين وصادر حرياتهم وسلب حقوقهم ونكّل بهم وظلمهم على مدى عقود - كصدام - مع أن ذلك كله - على خطورته - لم يمحُ أثر الدين ولا هدّد وجوده واستمراره، بل على العكس ما زاد المؤمنين إلا تمسّكاً به وإصراراً عليه. وكم من صاحب بدعة أظهر بدعته ولم يُخَف على أصل وجود الدين منها بل خيف على قسم - ولو ضئيل - من الناس أن يضلّوا بسببها، ومع ذلك كانت سيرة العلماء الصالحين ولا تزال على مجابهة صاحب البدعة وإن كان تأثيرها ضئيلاً فراراً من شمولهم بلعن مَن لا يُظهر علمه حين ظهور البدعة، وحرصاً على أن لا تتيه نفس أو تضلّ فإنها وإن كانت واحدة كانت عظيمة عند الله يؤاخذ بها العلماء إنْ قصّروا. وإن أبيْتَ إلا أن ترك هذه الأمور يؤدي إلى زوال الدين ولو على المدى الطويل؛ فلأهل العالم الأول الحجة عليك بذلك أيضاً، إذ غني عن القول أنه ما من بدعة ظاهرة اليوم عند المسلمين تهدد دينهم بالزوال أعظم من موالاة أبي بكر وعمر وعائشة، فقيامنا بإظهار علمنا فيهم أنهم من أهل الكفر والنفاق والطغيان؛ يمكن أن يكون واجباً «بلغ ما بلغ» من الضرر، بل هو آكد في الوجوب من التصدي لبدعة وُلدَت اليوم، لأن تلك بدعة قد استحكمت منذ قرون وتحتاج إلى جهود مضاعفة لإزالتها، فالوجوب على هذا مستقرّ إذن مهما بلغ الضرر. لا يقال: لا يكون واجباً لحاكمية التقية. إذ يقال: هذا أجنبي عن المقام، إذ الكلام في جواز التعرض للضرر البليغ جرّاء التبليغ في نفسه.



وأيّاً يكن؛ ترى بهذا وهن دعوى تقييد وجوب التبليغ والأمر والنهي بعدم الضرر مطلقاً إلا اليسير في ما لا يعود على «وجود الدين أو عدم وجوده» والبليغ - كالقتل - في ما يعود عليه. وأوهن منها دعوى الإجماع عليها اعتماداً على عبارة الجواهر، ذلك لأنك إنْ تتبَّعتَ أقوال الفقهاء لعلمتَ أنها عبارة مدخولة قد ذهب أكثر من فقيه إلى خلافها.



منهم السيد المرجع القمي دام ظله في مباني المنهاج إذ ردّ على صاحب الجواهر رحمه الله بنفي حجية هذا الإجماع المدّعى لكونه محتمل المدرك غير كاشف عن حكم المعصوم، وبعدم ورود قاعدة نفي الضرر، وبأن دليل سهولة الملة وسماحتها أخصّ من المدّعى، وبضعف روايات «.. ولم يخف على نفسه.. ومن تعرض لسلطان جائر.. إلخ» وعدم وفائها بإثبات المدّعى على الإطلاق، إلى أن قال: «فلا دليل على كون الضرر مقتضياً لارتفاع الوجوب بل يُستفاد من بعض النصوص ضده».



ومنهم السيد المرجع الروحاني دام ظله إذ ردّ حمل صاحب الجواهر رواية الباقر عليه السلام «لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر» على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات أو على إرادة فوات النفع مع الضرر.. إلخ؛ ردّ ذلك بقوله: «وهذه الوجوه كلها بيّنة الضعف»، منبّهاً إلى ضعف سند طائفة الروايات المشترطة لعدم الضرر وأقليّتها في قبال الطائفة الأولى الناصّة على التعرّض له وأصحيّتها وأكثريّتها، منتهياً إلى القول: «فلا إشكال في تقديم الطائفة الأولى؛ للأصحية، والأكثرية، والموافقة للكتاب، وغير ذلك من المرجّحات، فالأظهر عدم اعتبار الأمن من الضرر إلا في القسم الفردي منهما، مع كون الضرر من قبيل هلاكة النفس» ويقصد بالقسم الفردي ما ذكره في المسألة الثانية المزبورة، من نهي الفرد المقيم على المنكر، ففيه يشترط الأمن من الضرر على أن يكون من قبيل هلاك نفس الآمر لا سائر الأضرار، أما الأمر والنهي اللذيْن يُتوجَّه بهما إلى الأمة كما في المسألة الأولى والثالثة؛ فإنه ينفي اعتبار الضرر فيهما وإن «بلغ ما بلغ» وسال الدم لأجله. وما نحن نتصدّى له إنما هو من هذا القبيل «كما هو واضح»!



أما المجدد الثاني قدس سره فإنه بعدما عرض أن مما يؤيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «حتى مع الضرر أعمال الأنبياء والأئمة عليهم السلام وأصحابهم الذين كانوا يلاقون في سبيل الأمر والنهي أنواع القتل والسجن والأذى» وبعدما ردّ تقييد الجواز بعدم الضرر بأن «أدلة (لا ضرر) و(لا حرج) لا تشمل المقام، لأن الأمر والنهي كالجهاد والزكاة ضرريّان، وقد تقرّر في الأصول أن ما كان ضررياً بنفسه يرد على أدلة (لا ضرر). والروايات الخاصة بعد تعارضها بالروايات الخاصة هنا تتساقطان، فالمرجع عمومات الأمر والنهي، أو نقول بترجيح أدلة القول الثاني [وهو الوجوب مع الضرر] حيث يعضدها العمل، فإن عمل النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام مبيّن لأقوالهم، فاللازم رد علم ما يقول بعدم الوجوب إلى أهله» ومع اختياره الوجوب مع الضرر اليسير مطلقاً والبليغ في صورة الخطر على كيان الإسلام؛ إلا أنه عاد وأخرج (التبليغ) بقصد إتمام الحجة ونشر الدين خروجاً تخصصياً من كونه مشروطاً بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهباً إلى وجوبه مهما كلف الأمر، قائلاً: «فرقٌ بين مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين مبحث إتمام الحجة، فالفرق بين المبحثين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالشروط المقررة التي تقدمت الإشارة إليها، بينما أن إتمام الحجة لا يشترط بكل تلك الشروط، بل اللازم على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، وأن ينشروا الدين حتى ينطبق قوله سبحانه: ﴿قُلْ فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ إذ بدون ذلك لا يتم الاحتجاج. وهذا هو سر وجوب التبليغ على الأنبياء عليهم السلام مهما كلّف الأمر، إذ إتمام الحجة لا دليل على أنه مشروط بشروط الأمر بالمعروف، بل دليل الأسوة وإطلاقات الأدلة يدلاّن على عدم الاشتراط، وذلك مقدّم على الأصل كما لا يخفى».



وسواءً اتفقنا مع ما أفاده الأعلام أم كان للمناقشة متسع ومجال؛ فإنه لا محيص من التوفيق بين الأدلة إمّا بما ذهبوا إليه، أو بما ذهب إليه من قبلهم الشيخ الأكبر الحر العاملي رضوان الله عليه إذ قال أنه يُستفاد من أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «أنه مع الخوف من الضرر يسقط الوجوب دون أصل المشروعية والاستحباب، وكذا يُفهم من جملة أحاديث الجهاد» تلك التي استنكرتم من قبل تطبيقها على ما نحن فيه مع أنه قد طبّقها مثل الشيخ الحر! وعلى أية حال؛ فقد ظهر بطلان دعوى «إجماع الفقهاء على تقييد وجوب التبليغ كونه مصداقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة عدم الضرر» على هذا الإطلاق، ولا سيما إذا كان المراد من ذلك التبليغ وذينك الأمر والنهي نشر الدين وإتمام الحجة. وإن من الحسن أن لا يتسرّع الواحد منا بمجرّد أن يظفر بعبارة في إحدى المتون تحكي إجماعاً أو نفياً للخلاف فيبني عليها ويرسل الكلام عنها قبل البحث والتتبّع والتحقيق، فما «إجماعات الشيخ» عنا بغائبة! على أن ترجمة عبارة الجواهر في نفي الخلاف إلى الإجماع ليس دقيقا، لما حُقِّق في الأصول من الفرق بين العبارتين دلالةً، وأن الأولى أضعف من الأخرى حجةً، إذ الأولى تسلب وجود الخلاف وقد يكون لعلة السكوت أو عدم الالتفات أو التحقيق، أما الأخرى فتوجب وجود الاتفاق وذلك لا يكون إلا بعد التفات وتحقيق، والسلب أضعف من الإيجاب، فراجع المطولات. كما أنه لا حاجة لأن «نناقش في بعض الأحيان جدلاً، وليس بالضرورة أننا نتبنّى كل المناقشات» فالوقت أثمن من صرفه - في مثل هذا المقام - في غير ما نتبنّاه.



وإن إعادة تدوير الكلام توقع في اللغو أو الخطل، فلا مدعاة لتكرار أن الجهر بالسب واللعن لرموز النفاق «موجب لاستفزاز المخالفين مما يعد مخاطرة ومغامرة»، إذ يضطرنا هذا إلى تكرار ما أوضحناه في الجواب الأول من أنه ليس كذلك، إذ الاستفزاز أو الاضطراب لا يقع إلا في بادئ الأمر، فسرعان ما تتروَّض نفسية المخالف لتتقبل وجود اللغة النقدية الشيعية لرموزه كأمر واقع لا بد من التعايش والتكيّف معه، مما يصب في محصلة الأمر في صالح حفظ نفوس الشيعة. وقلنا: أن واقع التجربة الحية المعاصرة صادَقَ على صوابية هذه النظرة، والنتائج ماثلة أمام الأعين بحمد الله تعالى، فلا شيء اليوم من (النتائج الكارثية) يقع بسبب هذا المنهج المبارك إلا في المخيّلات التي ليس لها واقع. فإن كان لديكم ما ينقض هذه التجربة بتجربة واقعية أخرى فقدّموها؛ وإلا فلا محل لإعادة تدوير الكلام اعتماداً على المخيّلة.



على أن «الادعاء بأن درجة بسيطة من درجات التقية تبقى لازمة، وهي الدرجة التي تستفز المخالفين جداً وتستثيرهم كثيراً وتدفعهم إلى ردات فعل» تحكم لا وجه له بعد إذ كان مناط الجواز من عدمه إحراز غلبة المصلحة على المفسدة، فإذا أُحرزت ارتفع موضوع التقية وزال على نحو الورود، وإبقاء شيء منه باسم «الدرجة البسيطة» مفتقر حينئذ للدليل أو لمزيد مؤونة في الفقه، وإذ لا وجود لهما في الفرض كان الادعاء تحكماً لا وجه له، إلا أن يُدّعى انقلاب الغلبة، والفرض عدمه تسليماً منكم بقولكم: «ثم لو سُلّم بورود أدلة التبليغ على أدلة التقية». ودخول المسألة في باب (الأهم والمهم) أو (التزاحم) غير منكور، غير أنه ناقض للفرض، فإما أن يقال بالورود والغلبة فيكون الأهم هو التبليغ، وإما أن يقال بالعدم أو الانقلاب فيكون الأهم هو التقية، أما التسليم بالورود والغلبة مع الادعاء ببقاء شيء من التقية كـ «درجة بسيطة لازمة» فمناقضة وتحكم ظاهر.



أما إشارتكم إلى أنه بهذا تنحل إشكالية عادة ما نذكرها حول التقية؛ فالظاهر أنه التبس عليكم أنّا نأتي بهذا المثال الحديثي الناهي عن ذكر علي وفاطمة عليهما السلام علانية إلزاماً لمن يحتج علينا بأحاديث النهي عن قدح رموز النفاق علانية، فغلط هؤلاء أنهم يحتجون علينا بهذه الطائفة من الأحاديث وكأن لها إطلاقاً حقيقياً أحوالياً دونما التفات أو إلفات إلى أنها صدرت للقضية الخارجية حيث عاقبة الضرر، فإلزاماً لهم نقول: قد جاءت طائفة أخرى من الأحاديث تنهى حتى عن إعلان الولاية وذكر الفضائل بل والتختم باليمين، فكفّوا عنها إذن! فإن قلتم: ليس في هذه ضرر اليوم؛ قلنا: وليس في تلك ضرر اليوم! وعليكم بدلاً من استلال الأحاديث والتذرع بها وكأننا لا نعرفها؛ أن تناقشوا في ارتفاع القضية الخارجية من عدمه، فليس النزاع في ورود النهي من عدمه، وإنما النزاع في بقاء علته من عدمه، فالعودة إلى تعداد النواهي وجعلها دروعاً أمامنا ليست إلا غفلةً لعدم الالتفات، أو عجزاً لعدم الإلفات. وكلاهما فشل تنكسر معه الدروع بسيوف التحقيق وحرابه.



هذا الذي قلناه وما زلنا نقوله، فلسنا ندري كيف جعلتموه «إشكالية» تحتاج لأن تتكلفوا عناء «حلها» في هامش رسالتكم وكأنها استعصت علينا ولم يسبق جوابنا فيها! ألا تفضّلتم بملاحظة ما قلناه في توطئة الفاحشة: «أن النهي في الخبر لقضية خارجية وهو مقيّد بظروف ذلك الزمان لا أنه مطلق يشمل كل حين، ونظيره صدور النهي آنذاك حتى عن ذكر فضائلهم بل ذكر أسمائهم المباركة، كما في رواية عنبسة عن أبي عبد الله الصادق صلوات الله عليه: (إياكم وذكر علي وفاطمة عليهما السلام فإن الناس ليس شيءٌ أبغض إليهم من ذكر علي وفاطمة عليهما السلام) فهل يُعقل أن يمتنع أحد الآن عن ذكر علي وفاطمة عليهما السلام باعتبار صدور النهي عن ذلك؟! بالقطع لا، فإن النهي مؤقت ومتعلق بظروف الاضطهاد والتقية الشديدة التي يكون فيها ذكرهما صلوات الله عليهما معرّضا الإنسان المؤمن لخطر القتل أو الضرر الشديد، أما في عصرنا حيث لا يتهدد الإنسان مثل هذا الخطر فلا إشكال في قيامه بواجب ذكرهما وإحياء أمرهما صلوات الله عليهما. وكذلك فإنه لا يجب في عصرنا الامتناع عن ثلب أعداء علي وفاطمة عليهما السلام وذكر مساوئهم وجرائمهم ومخازيهم، ودفع الناس إلى البراءة منهم ولعنهم وسبهم، فإن النهي عن ذلك إنما كان مؤقتاً ومتعلقاً بظروف الاضطهاد والتقية الشديدة، وقد ولّت تلك الظروف مع حصول التقدم العالمي الذي نشهده باتجاه الحريات وحقوق الإنسان والمعلوماتية بحيث يمكن للإنسان المؤمن أن يصرّح بجرائم أعداء الله - ولو عبر شبكة الإنترنت مثلا - دون أن يتهدده أدنى خطر».



وأما تساؤلكم عن علة اللجوء إلى أسلوب تبليغي تترتب عليه دماء وأضرار مع وجود المندوحة حيث أسلوب آخر لا يترتب عليه شيء أو أضراره أقل؛ فقد سبق منّا - بالتحليل الواقعي - نفي ترتّب شيء ذي بال على هذا الأسلوب الذي نلتزمه، إذ لم نتحقق وقوع أضرار معتد بها ليُعدَل عنه، ولا عبرة بالأوهام والتخيّلات، ولا بمثل «الإكثار من تسمية الإناث بعائشة»!



ولك أن تقول: أن هذا المنهج بهذا الأسلوب قد أثبت - بالوقائع - نجاحه في اختراق المجتمعات المخالفة بما لم يسبق له مثيل في عصرنا حتى تشيّعت أفواج بفضله تعالى ومنّه وعناية حججه عليهم السلام، وهذه مصلحة حسيّة مقطوعة. وما يُزعم من أنه أدّى إلى سفك دماء المؤمنين مقولة متقلقلة؛ لا أقلّ لعدم الوقوف على حادثة واحدة سال فيها الدم لأجل هذا المنهج صِرفاً، بل كلها حوادث ممزوجة بالعوامل السياسية والاحترابات الإقليمية، فليس للمدعي نصيباً لهذا المنهج في وقوعها إلا البناء على التحليلات والقراءات والتعليلات، وهذه إنْ لم تكن أوهاماً وتخيّلات فهي على أحسن الفروض ظنّيات وحدسيّات، إذ لا يسع امرئاً متورّعاً يخاف الله تعالى أن يدّعي القطع في ذلك، كيف وخطأ التحليل والتعليل وارد، وتقابله تحليلات وتعليلات أخرى - حتى ممن لا يوافقون هذا المنهج - تنتهي إلى براءته من وقوع هذه الحوادث، فالنتيجة أن هذه مفسدة مظنونة. ولا تقاوم المفسدة المظنونة المصلحة المقطوعة، كما لا يقاوم الحدس الحس.



على أنه قد تبيّن أن الإقدام أو الإحجام في هذا المقام ليس معتمداً على تراوح الضرر بين الأقل والأكثر؛ بل على المصلحة والمفسدة، وغلبة الأولى الأخرى ورجحانها عليها، على أن تكون المصلحة دينية أو تعود إليها. وعليه؛ فلرُبَّ سبيلٍ كانت فيه المصلحة للدين مع أن الأضرار أكثر، ولرُبَّ سبيلٍ كانت فيه المفسدة للدين مع أن الأضرار أقل. فالمقدَّم هو الأول.



هذا، وما زال العجب يأبى أن يزول من قولكم بظهور عدم تمامية اتهامنا لأهل العالم الثاني بأنهم كأهل الكتاب، ثم اعتباركم ما قلناه إجحافاً بحقهم لأنهم «يبلّغون ويغزون الآخر كالأنبياء والأوصياء لكن الفرق أنهم لا يبدأون من الأخير كما تفعلون أنتم، يعني أنتم تبدأون بأبي بكر وعمر لتنتهوا إلى علي عليه السلام، تبدأون بالبراءة لتنتهوا للولاية وهم بالعكس..» إلى آخر ما تفضلتم به مما أركز القناعة بعدم انعتاق النفس عن الالتباس والتبهّم.



ذلك لأنّا لم نقل أن أهل العالم الثاني لا يبلّغون أو يدعون، بل قلنا أنهم يبلّغون ويدعون كما كان يفعل أهل الكتاب في الجاهلية وعلى طريقتهم حين ينادون بالتوحيد، وذلك صريح قولنا في جوابنا الأول: «رغم رفضهم لعبادة الأوثان ودعوتهم للتوحيد بحسب مفهومهم». ثم لمّا عطفنا القول على أهل العالم الثاني لبيان ما يفرقهم عن أهل العالم الأول قلنا أنهم يسلكون سبيل أهل الكتاب إذ «لا يحملون مشروعاً دعوياً سوى ما تعورف بينهم من مطالب تقليدية تُقال على المنابر وتدوَّن في الكراسات، ليس فيها تصعيد ولا تجاوز، ولا تحدٍّ لمعتقدات الآخر، ولا تحطيم لها، ولا سعي لإحداث تغيير جذري في واقع هذه الأمة. أما نحن؛ فنريد سلوك سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله! سلوك سبيل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، لا نقبل بواقعنا، ولا نكتفي بأنفسنا وبمن معنا، ولا نرضى إلا أن نرى دخول الناس في التشيع أفواجاً، ولا نهدأ إلا أن نحرز - على الأقل - أن أكثرية هذه الأمة قد أصبحت شيعية. وبكلمة: نحن أصحاب مشروع (القضاء) على الجاهلية الثانية التي تمخّض عنها تقديس أئمة النفاق أبي بكر وعمر وعائشة! أما أهل العالم الثاني فلا يحملون همّا كهذا، ولا هدفاً من هذا القبيل، وليس (القضاء) أو (التحطيم) بحاضر في أجندتهم مطلقاً». فأين هذا مما نسبتموه إلينا من القول بأنهم «ليس لديهم همّ تشييع المخالف، وأنهم يعملون فقط في دائرة التشيع»؟!



إنّا لسنا نقول أن أهل العالم الثاني لا يحملون مشروعاً دعوياً، إنما نقول أن مشروعهم مشروع تقليدي متعارَف ليس فيه «تصعيد ولا تجاوز ولا تحدٍّ لمعتقدات الآخر ولا تحطيم لها» كما هو مشروع أهل العالم الأول.



إنّا لسنا نقول أن أهل العالم الثاني لا يستحبون أن يتشيّع المخالف ولا يفكر بعضهم بهذا، بل الذي نقول أنهم لا يستحبون «مشاريع القضاء والتحطيم والتدمير والتصعيد والتجاوز» ولا يجعلونها همّاً وهدفاً كما هو حال أهل العالم الأول.



وإن الذي سمّيتموه «غزواً ناعماً» هو بعينه أسلوب أهل الكتاب! فلقد كان أولئك يكتفون بالقول: «الإله واحد» ليكون مفهومه نفي الأنداد بلا تصريح ولا طعن علني مباشر، وأنتم تكتفون بالقول: «الأمة ظلمت أمير المؤمنين عليه السلام وغصبته حقه» ليكون متضمَّنه ظلم أبي بكر وعمر بلا تصريح ولا طعن علني مباشر. أما النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فلقد كانت كلمته: «لا إله إلا الله» نفياً صريحاً للأنداد، وطعونات قرآنه العظيم وأحاديثه علنية مباشرة في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وكذلك أهل العالم الأول يفعلون فيقولون: «أبو بكر وعمر ظالمان غاصبان» على التصريح لا التلميح، وعلى الطعن العلني المباشر لا ما كان «تحت الحزام» ولا من فوقه ولا عن يمينه ولا عن شماله!



وأهل الكتاب بدعوتهم للتوحيد كانوا قد بدأوا بالولاية تاركين لمن يسمعهم أن ينتهي إلى البراءة من كل طاغوت يُعبَد من دون الله، وأنتم كذلك بدعوتكم لأمير المؤمنين عليه السلام قد بدأتم بالولاية تاركين لمن يسمعكم أن ينتهي إلى البراءة من كل مَن غصبه مقامه. أما النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فلقد بدأ بالبراءة أولاً فقال: «لا إله» ثم أردفها بقوله: «إلا الله» حيث الولاية. وهكذا نطق قرآنه المجيد في قوله: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا﴾ فقدّم البراءة أولاً بالدعوة للكفر بالطاغوت ثم ألحق بها الدعوة إلى الولاية بالإيمان بالله. وهكذا يحرص أهل العالم الأول على أن يفعلوا، فيبدأون بالبراءة لينتهوا بالناس إلى الولاية.



وأهل الكتاب كانوا يتحاشون الاصطدام المباشر بالمشركين، مكتفين بقولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا﴾ وأنتم على آثارهم تحرصون كذلك على تلافي الاصطدام بالمخالفين مكتفين بالدعوة للتشيع. أما النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فلقد اصطدم بمن ليس على دينه اصطداماً بلغ الحروب إذ لم يكتف بالدعوة إلى دينه، بل تعدّى على أديان الآخرين بأن سفّه معتقداتهم ونال من آلهتهم ودعاهم إلى البراءة منها واصماً إياهم بوصمات الكفر والجاهلية والضلالة والظلم والفسق مع وابلٍ من القوادح واللعنات. وكذلك يفعل أهل العالم الأول.



ولئن سألتَ عن علة ذلك كله؛ أُجبتَ بأنه لا يتحقق قود الناس إلى دين الله على أكمل وجه وأصحّه وأثبَتِه دون هدم ما سواه من أديان مخترعة بشكل مباشر وعلى الأولوية والمقدَّمية، وذلك يتطلب التعدي عليها قدحاً وتسفيهاً وتحقيراً حتى نسفها تماماً وإحلال الدين الحق محلها، لا الاكتفاء بالإعراض عنها والدعوة إلى الدين اتكالاً على استنتاج المتلقي للازم، وهو أن غير المدعو إليه من الدين باطل. وبعبارة أخرى: لا يصح الاكتفاء بالعمل الإيجابي، بل لا بد أيضاً من العمل السلبي. قال المجدد الثاني قدس سره: «يلزم أن تكون الدعاية إلى الإسلام ذات حدين، حد سلبي هو نسف الأمور غير الإسلامية، وحد إيجابي هو تركيز وتوطيد كل ما هو إسلامي، وكلمة (لا إله إلا الله) تفيد ذلك للمسلمين، حيث نسفت أولاً الآلهة الباطلة في الجانب السلبي، وأثبتت ألوهية الله سبحانه في الجانب الإيجابي».



ثم إنه لا يمكن نسف الأديان الباطلة وإبادتها بغير التركيز على مَن تتشخَّص به من الشخصيات المبجلة ومَن تترمّز به من الرموز المقدسة، التي تُعَدّ بمثابة الرؤوس والمحاور والأقطاب. قال المجدد الثاني قدس سره: «وفي ذكرها عليها السلام: (يكسر الأصنام وينكث الهام) نكتة لطيفة وهي أن القضاء على الأديان والمذاهب الباطلة يتم بركنين: أحدهما؛ القضاء على (الرمز المقدس) و(المحور القطب) الذي تدور عليه رحى معتقداتهم وأفكارهم. والثاني؛ القضاء على حَمَلة تلك الراية وعلى الدعاة إليها».



ثم إن التركيز على نسف الرموز والمحاور والرؤوس والأقطاب لا بد أن يتخذ شكلاً مباشراً يضرب على (الوتر الحساس) لا أن يتلهّى بالهامشيات والضرب (تحت الحزام)! قال المجدد الثاني قدس سره: «بناءً على التأسي به صلى الله عليه وآله فالأصل في المعارك الدائرة على جبهات الكفر والإيمان أن يركز الضربات على (أئمة الكفر) ورؤوس الضلال، وهو أمر عقلي قبل أن يكون نقليا، إذ أن دعائم الكفر لو تقوّضت تقوّض ما يقوم بها دون العكس عادة، وعليه أيضاً أن يضرب على الوتر الحساس ويأخذ بخناقهم ويصيبهم في مقاتلهم دون أن يشغل نفسه بالهامشيات وبما لا يبلغ منهم مقتلا».



والحاصل؛ أنّا لم نظلم أهل العالم الثاني ولم نجحف بحقهم، فإنهم - كما تقرّون - لا يسيرون وفق هذه الرؤية التي تقدّمت، بل يحبون السير (الهادئ) و(الناعم) حتى إذا فكروا بالضرب ضربوا (تحت الحزام)! أما أهل العالم الأول فحالهم مختلف، فهم مع رفقهم بعامة الخلق المستضعفين المضلَّلين؛ تراهم على رموز الباطل التي أضلّت الخلق أشداء غلاظ صرحاء، سِلاط اللسان، ذوو لهجة حادة، وخشونة ظاهرة، لهم في ذلك كله الحجج الباهرة. أما شدّتهم وغلظتهم فمن قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وقوله: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾. وأما حدّة لهجتهم وسلاطة لسانهم فمن وصف أمير المؤمنين عليه السلام لنفسه بقوله: «وأذربكم لسانا» ومدحه للأنصار بقوله: «وألسنتهم السلاط» وقول الصادق عليه السلام: «من علامة المؤمن أن تكون فيه حدة». وأما خشونتهم الظاهرة فمن مدح النبي صلى الله عليه وآله للوصي عليه السلام بقوله: «إنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه» وقول الوصي عن نفسه: «إني لو قُتلتُ في ذات الله وحييتُ، ثم قُتلت وحييتُ، سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله».



وأيّاً كان؛ فأهل العالم الثاني دون أهل العالم الأول في ماهية المشروع الدعوي، ولهجته وأسلوبه، وشدته وحدته. والفروقات بينهما غير يسيرة ولا هيّنة. فأولئك يدعون إلى (التشيع) أي يركزون على الولاية يبدأون بها، أما هؤلاء فيدعون إلى (الرفض) أي يركزون على البراءة يبدأون بها. وأولئك يتبعون (سياسة التبليغ الهادئ) أو الخجول، أما هؤلاء فيتبعون (سياسة التبليغ الصادع) أو المدوّي التزاماً بأمر الله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾. وأولئك يروق لهم أن يضربوا (تحت الحزام)، أما هؤلاء فلا يرون عذراً لهم عند الله إلا أن يضربوا على (الوتر الحساس)! وأولئك يحرصون على (النعومة) في طرحهم كما تحرص النساء على نعومة أبشارهن، أما هؤلاء فقد سَرَتْ إليهم (الخشونة) التي تُعرف في الرجال!



وبعد هذا لا ندري كيف رميتمونا بالإجحاف مع ظهور أن أهل العالم الثاني لم يبتعدوا عن سيرة أهل الكتاب في دعوتهم! تلك السيرة التي نفيتموها ثم ما لبثتم أن أكدتموها بعنوان (التبليغ الهادئ والغزو الناعم)! فكان تفسير الماء - بعد الجهد - بالماء!



كما لا ندري كيف صار أهل العالم الثاني «يبلّغون ويغزون الآخر كالأنبياء والأوصياء» مع أن أهل العالم الأول أولى منهم وأقرب إلى المعهود من تبليغ وغزو الأنبياء والأوصياء عليهم السلام بأدنى تأمل، غايته أنكم حملتم ذلك كله على (ضرورة إقامة الدين) تارة، و(الموارد الخاصة) أخرى! فإن تمّ ما قلتم فليكن ما عليه أهل العالم الأول من ذاك، فهم على كل حال أقرب! إلا أن يُجعل الأصل عارضاً والعارض أصلاً، فيغدو الصدع بالحق هو العارض لا الأصل في سيرة الأنبياء والأوصياء والأصحاب، وتغدو التقية هي الأصل لا العارض في هذه السيرة المتصلة، وهو كما ترى، ذلك لأن الأمر في سيرة الأنبياء عليهم السلام ظاهر، وأما الأوصياء عليهم السلام فقد مرّ عليك في جوابنا الأول ما نقلناه من قول الحر العاملي قدس سره من أنهم كانوا كثيراً ما يتركون التقية في «ذم أئمة الضلال ولعنهم» وقوله في الإثنا عشرية: «ومن تتبّع طريقة أهل العصمة عليهم السلام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وجهادهم للأعداء ومناقشتهم لبيان الحق مع تيقّن الضرر»، وأما الأصحاب فما بين أيدينا من أحاديثهم ومصنّفاتهم أكبر شاهد على عدم عملهم بالتقية إلا قليلا. قال السيد المرجع السيستاني دام ظله في بحثه في تعارض الأدلة: «الملاحظ أن كتب الأحاديث التي بأيدينا تشتمل بكثرة على روايات تبيّن لنا فضائل الأئمة عليهم السلام ومقاماتهم المعنوية، وكذلك الروايات التي تبيّن مثالب أعدائهم ومطاعنهم، وغير ذلك من النصوص التي هي من أسس الفكر الشيعي المختصة بهم، مع اعتراف العلماء أنها نُقلت واضحة بيّنة بلا تقية، مع أنه لو كان للتقية تأثيرها لكانت تؤثر هنا في عدم تدوين أمثال هذه الأحاديث في هذه الموضوعات الحساسة المخالفة لمعتقدات العامة»، منتهياً إلى القول بأنه قد تبيّن «أن الأحاديث المدوّنة التي صدرت تقية قليلة».



هذا ويبدو لنا أن قلمكم الشريف قد خانكم حين استرسلتم في الحمية عن أهل العالم الثاني، فأثبتّم الشيء ونقيضه في غير مورد! ففي حين قلتم أن أهل العالم الثاني «يصرّحون بكل عقائدهم» عدتم وقلتم أن شعارهم ومنهجم «ما كل ما يُعرف يقال»! ثم استلحظتم أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يصرح بالحق ولكنه - على دعواكم - كان في أبي بكر وعمر «يلمح ويكني كناية أبلغ من التصريح»! ثم بعد كلام ضربتم المثل بأنكم إذا أردتم إثبات «أن الرجلين في النار» فستتخذون «النمط غير المباشر» ببيان الغدير وأن أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب الحق، وبالتالي يكون كونهما في النار «تحصيل حاصل للمذكور»! ومن قبل قلتم أنكم «لا تصرحون بأسماء القوم في العلن» وإن صرّحتم «تنتقدونهم ولا تسبونهم»!



أقول: إنه قد ألجأتنا الأحوال إلى أن نعيش في لندن عاصمة الضباب، غير أنّا جهدنا أن لا تؤثر أجواؤها الضبابية على الفكر فيتشوّش. فليت شعري؛ كيف آل أمر سماحتكم إلى مثل هذه الضبابية والتشوّش مع أنكم تعيشون بحمد الله في جو صحو وهو بعدُ مفعم بعبق الإيمان حيث العتبات المقدسة؟!



هل أن منهجية أهل العالم الثاني قائمة على (التصريح) أم على (الكناية والتلميح)؟ وكيف يجتمع (التصريح) مع (النمط غير المباشر) و(تحصيل الحاصل)؟



إن لك أن تعتمد النمط غير المباشر، والتلميح الذي هو أبلغ من التصريح، وتحصيل الحاصل، والضرب تحت الحزام، والغزو الناعم الرقيق، وغير ذلك مما تسمّي وتشتهي، ولكن ليس يصح لك مع هذا كله أن تقول: إني أصرّح! وأن أهل العالم الثاني «يصرحون بكل عقائدهم»! فذاك لا يجتمع مع التصريح! ولا ينفع في مقام التفصّي ذكر (المرحلية) إذ مورد النزاع أنه في هذه (المرحلة) التي نعيشها؛ هل الأولى هو التصريح أم التلميح؟ فليس شأننا ما يريده أهل العالم الثاني في زمان مستقبلي ومرحلة لاحقة. على أن الوصول لتلك المرحلة المنشودة يتطلب انتهاج منهاج أهل العالم الأول لكي تنكسر القيود ويرتفع سقف حرية التعبير، لا البقاء على منهجية أهل العالم الثاني والمراوحة في المكان!



وهل أن منهجية أهل العالم الثاني قائمة على أن (كل ما يُعلم يُقال) من العقائد أم على (ما كل ما يُعلم يُقال)؟ وكيف يجتمع مع هذا الأخير الذي أطلقتم عليه «القاعدة العقلائية المنطقية الشرعية» أنهم «يصرحون بكل عقائدهم»؟! فإن معنى التزامهم هنا بأن (ما كل ما يُعلم يُقال) هو حجبهم لبعض ما يعرفون من العقائد وعدم تصريحهم به! فكيف يُدّعى بعد هذا أنهم يصرّحون به كله؟! ولا ينفع في مقام التفصي الفرز بين عدم ذكر الأسماء فالتصريح؛ وذكرها فالتلميح أو (الانتقاد الهادئ)! فإن هذا خلف (ما كل ما يُعلم يُقال) إذ التلميح قول أيضاً! ثم النزاع ههنا ليس في أسلوب صوغ وسبك العبارة ليُتعلَّل بذكر الأسماء وعدمه؛ وإنما هو في التصريح بـ (كل) العقائد، ومنها البراءة والحكم على أبي بكر وعمر وعائشة بأنهم في النار، مع قطع النظر عن ذكر الأسماء أو أسلوب العبارة، إذ التصريح ههنا أعم، ويتضح هذا من المثال التالي.



إن من عقائدنا جميعاً أن أبا بكر وعمر وعثمان مخلدون في النار، تجب البراءة منهم. فإذا كان أهل العالم الثاني «يصرّحون بكل عقائدهم» كما تقول؛ فلا بد من أن يصرّحوا بهذه حين يتصدّون لبيان العقائد، كأن يقولوها هكذا كما قالها العلامة المجلسي عليه الرحمة والرضوان في رسالة الاعتقادات: «ومن ضروريات دين الإمامية البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان». أو أن يقولوها هكذا كما قالها الشيخ المفيد عليه الرحمة والرضوان في أوائل المقالات الذي ألّفه «ليكون أصلاً معتمداً فيما يُمتحن للاعتقاد»؛ قال: «اتفقت الإمامية وكثير من الزيدية على أن المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه السلام ضُلّالٌ فاسقون، وأنهم بتأخيرهم أمير المؤمنين عليه السلام عن مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عصاةٌ ظالمون، وفي النار بظلمهم مخلدون».



هكذا يكون (التصريح) بهذه العقيدة، سواءً ذُكِرت الأسماء كما فعل المجلسي، أو لم تُذكر كما فعل المفيد، فإن المتلقي لا يشتبه عليه أن المقصود بـ «المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام» هم أبو بكر وعمر وعثمان، ويراه تصريحاً بكونهم من أهل النار، ولا سيّما أن المفيد أردف ذلك بذكر بعض أسمائهم في معرض بيان الفرق بين عقيدة الإمامية وعقيدة غيرهم، كقوله بعد بضع كلمات: «والجميعة من الزيدية فإنهم تبرءوا من عثمان خاصة، وزعموا أنه مخلَّد في الجحيم بإحداثه في الدين لا بتقدّمه على أمير المؤمنين عليه السلام». فهل أن أهل العالم الثاني حين يتصدّون لبيان العقائد الحقّة يتحدثون بمثل هذه الصراحة والجرأة كما فعل المفيد والمجلسي وغيرهما من أعلام الرافضة الأبرار حين تصدّوا لبيان العقائد؟ إنْ قلتَ: لا لأنهم يعتمدون «النمط غير المباشر»؛ نقضتَ قولك بأنهم «يصرّحون بكل عقائدهم»، إذ هذه من عقائدنا التي لا (يصرّحون) بها وإنما يذكرون عوضاً عنها الغدير ليكون «كونهما في النار تحصيل حاصل للمذكور»! وإنْ قلتَ: نعم؛ صرتَ من أهل العالم الأول، فمرحباً بك!



هذا؛ وفي اعتماد (الانتقاد الهادئ) لرموز الكفر والنفاق والضلالة والعداء إشكالاً شرعياً ليس ههنا متسع لبيانه تفصيلا، وإيجازه عدم جواز التسوية في غير الفرض الثانوي بين لهجة مخاطبة هؤلاء ولهجة مخاطبة غيرهم، أو بين التعبير عن هؤلاء والتعبير عن غيرهم، فـ (الانتقاد الهادئ) إنما يكون لمثل العلماء والمؤمنين الصالحين من المحترمين شرعاً حين يؤخذ عليهم شيء أو يُرى لهم خطأ، كما أنت تنتقدني وكما أنا أنتقدك وكما ننتقد غيرنا من أهل العلم. أما أولئك من رموز الكفر والضلال الذين أهدر الشارع احترامهم فلا بد من أن تكون اللهجة تجاههم تفوق في حديّتها (الانتقاد الهادئ) لتصل إلى درجة (القدح الصارخ) وإلا توهّم السامع أنهم كالعلماء الصالحين مثلاً، غايته أن لهم بعض الأخطاء التي يُنتقدون عليها بأدب وهدوء! وساعتئذ ينقطع طريق (البراءة) ويُنحرف عنه إلى طريق (التخطئة)، وفي ذلك أعظم الإثم إذ يضخّ الدم في عروق البترية الوثنية. ولعل لهذا شدّد الشارع على الإكثار من سب أولئك ولعنهم وهجائهم والوقيعة فيهم جهراً وعلانية، لئلا يُتوهَّم أن لهم شيئاً من القبول في ميزان الشرع، ولئلا يُتوهَّم أن ما أقدموا عليه كان مجرد (أخطاء)، إذ هي في الحقيقة (جرائم وجنايات وآثام عظام).



ثم إن من الغريب سوْق هذين الحديثيْن في سياق الانتصار لديدن أهل العالم الثاني، أعني بهما حديث «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» وحديث «لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموها»، ذلك لأن الأول لا يسلب فعل الكلام ولا يعطّله حتى يُقال بـ (المرحلية) المدّعاة وأن لكل مقام مقالا! بل غايته أن الكلام يكون على صياغة تلائم عقل المتلقي واستيعابه، بقرينة صدر الحديث إذ فيه: «ما كلّم رسول الله صلى الله عليه وآله العباد بكنه عقله قط»، فمثله كمثل عالم مجتهد متكلم يصل مبلِّغاً إلى قرويّين بسطاء، أفهل تراه يخاطبهم بكنه عقله بأن يقول لهم مثلاً: «الله واجب الوجود، بسيط الحقيقة» أم يكتفي من بيان التوحيد والتنزيه بما تستوعبه عقولهم؟! وأما الثاني فلا ينهى إلا عن نقض الحكمة بتمكين الجهّال والقاصرين منها أو بحرمان الأكفاء والمؤهلين منها، إذ لفظ الحديث: «لا تحدثوا بالحكمة الجهّال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»، وحيث أن الحكمة هي وضع الشيء موضعه، كان ناقضاً لها أن توضع عند غير أهلها أو تُمنع أهلها. فليت شعري؛ أين هذان الحديثان من التنظير لعدم الجهر والتصريح بعقيدة البراءة؟! وهل هذا القول إلا كقول القائل إنه كان ينبغي على الأنبياء عليهم السلام أن لا يجهروا بعقيدة التوحيد ولا يصرّحوا بالبراءة من الأصنام لأن أقوامهم كانوا من الجهّال فلا يصح تحديثهم بالحكمة ولا مكالمتهم إلا على قدر عقولهم!



إن البراءة من أعداء الله والمنافقين الكبار حالها كحال سائر العقائد التي يتوقف على الالتزام بها من عدمه أمر الجنة والنار، وليست هي من قبيل (الحكمة) التي إنْ حُجبت عن أحد فلم يدركها ما كان ذلك ليمنعه دخول الجنة ولا ليورده مورد النار ما دام ملتزماً بالعقيدة الحقة. وأيّاً يكن؛ فإن الحديثيْن أجنبيّان عن مورد النزاع، وهو الجهر والتصريح بأصول العقيدة ومنها البراءة.



ولا بد هنا من انعطافة إلى الأسلوب والصياغة، ليُعلم الوجه في هذيْن الحديثيْن ونظائرهما مما يمكن أن يكون له تماس مع الأسلوب والصياغة، ولكيلا تتكرر الاتهامات المعهودة لأهل العالم الأول من أن أسلوبهم خلاف الحكمة، تلك الاتهامات التي ما نشأت إلا من سوء الفهم وضعف الاستيعاب. ولعل خير ما يمكن أن يبدّد سوء الفهم هذا إيراد بعض الأمثلة من القرآن الحكيم، ولنكتفِ بثلاثة، وبعدها سترون أن هذين الحديثين ونظائرهما؛ إنما هي لنا لا علينا.



● المثال الأول: كان الذين يحبون أن يتعاملوا بالربا قد طرحوا شبهة تقول: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ فلا فرق بينهما، إذ الأول بيع ما قيمته درهم بدرهمين مثلاً بقصد الربح، والثاني بيع درهم بدرهميْن كذلك بقصد الربح، فإذا جاز بيع ما قيمته درهم بدرهميْن فلماذا لا يجوز بيع الدرهم نفسه بدرهميْن؟ وأي فرقٍ بينهما؟



بدلاً من أن يجيب القرآن الحكيم على شبهتهم هذه ويقنعهم بتبيان الفرق، وهو حيازة المشتري للمبيع في البيع وخلو يده منه في الربا فيكون ذلك خسارة؛ وبدلاً من أن يواجه أصحاب هذه الشبهة باللين والرفق و(النعومة) و(الأسلوب الهادئ) بالتي هي أحسن، خاصة أن كلامهم لم يشتمل على تجاوز أو رعونة.. بدلاً من كل ذلك؛ تجد القرآن يكتفي بالرد على هؤلاء بأن هذا هو أمر الله، هو الذي أحلّ البيع وحرّم الربا، دون ردّ الشبهة نفسها ببيان الفرق. ثم تجد القرآن يتخذ في الرد عليهم أسلوباً هجومياً شرساً بلغ حد التهديد بالحرب! وذلك بعدما حقّرهم واعتبرهم مجانين أشبه بمن مسّته الشياطين! متوعداً إياهم بالنار خالدين فيها! مكفّراً إياهم ومؤثِّما! فأنصت لقول ربك: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّـهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ».



(إعلان حرب) و(تكفير) و(تحقير) و(تأثيم) و(توعّد بالنار) لمجرد (شبهة)! بلى؛ لأنها وإن كانت شبهة إلا أنها تنطوي على الرد لأمر الله، وليس ذلك لأحد من العباد سواءً كان مسلماً أم لا، أما المسلم فمعلومٌ وجوب التسليم عليه، وأما غيره فالواجب عليه أن يسلِمَ فيسلِّمَ، وليس عذراً له عدم إيمانه بورود التحريم من الله لأنه لم يُسلم، إذ الحجة قائمة عليه في أصل وجوب الإسلام، علاوة على أن الصحيح هو أن الكفار مكلفون بالفروع أيضاً. وأما عدول القرآن عن تفصيل رد الشبهة وإقناعهم بالفرق بين البيع والربا، فلعله من باب المخاطبة على أدنى العقول وسدّاً لباب الاسترسال في الشبهات، إذ يمكن لأصحاب الشبهة أن يعيدوا الكرّة قائلين: المبيع منفعة، ولئن خلت يد المشتري من المبيع في الربا فإنها لم تخلُ من المنفعة، وهي الإمهال إلى الأجل، وذا بمثابة ذاك، فأي فرق بين البيع والربا؟ وهكذا يضطر القرآن لأن يرد عليهم مجدداً بذكر التفاوت، إذ المبيع غير منقضٍ بخلاف الأجل، وللمشتري أن يبيع عين المبيع فيستردّ ما أنفق أو يربح مزيداً عليه، أما هو في الربا فصفر اليدين من ذلك كله.



فالشاهد؛ أنه لا ينبغي توهّم أن المخاطبة على قدر العقول مقتضية بالضرورة لعدم المصادمة أو حدة اللهجة، فهي في المثال قد تحققت في مجرد بيان ﴿وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ مع اكتنافها بالمصادمة والحدة والتصعيد الظاهر في الخطاب. كما لا ينبغي توهّم أن الجدال بالتي هي أحسن مقتضٍ بالضرورة لتخفيف اللهجة والأسلوب، فقد يُرى أن الردع أو النكير مثلاً يستوجب تشديد اللهجة. وكل ذلك من عين الحكمة.



ولو أن امرئاً من أهل العالم الأول قابَل ذا شبهة من البكريين أو إخوانهم البتريين بمثل ما قابل به القرآن شبهة المرابين - من شدة الأسلوب وحدّة اللهجة - مقتصراً على أدنى الكلام في الحِجاج دون الاسترسال لأنه رأى في ذلك الحكمة؛ لتبارى أهل العوالم الأخرى في رميه بالطيش والنزق والغلظة وتجاهل آداب الحوار والنزوع عن أسلوب القرآن في الجدال بالتي هي أحسن! ولقيل له: «تريد أن تهديه وأنت تدوس في بطنه»! فليت شعري؛ أهَل داس القرآن في بطون أصحاب شبهة ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أم ربَّتَ على أكتافهم؟! هذا مع أن شبهتهم في أقصاها لا تتجاوز حكماً من أحكام الفروع؛ فكيف بمن تكون شبهته في أصل من الأصول؟!



● المثال الثاني: جاء الهدهد إلى سليمان عليه السلام ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّـهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّـهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾.



ها أنت ترى أن المرأة رغم كونها تملك جيشاً من أولي القوة والبأس الشديد قد أبدى أركانه استعدادهم لأوامرها، إلا أنها لم تأخذها العزة بالإثم ولم تتحدَّ سليمان عليه السلام أو تتمرد عليه، بل على العكس قد جنحت للسلم وأرسلت له بهدية، متغاضية عمّا حمله كتابه من أمر الانصياع الذي هو أشدّ شيء على الملوك. وبدلاً من أن يعتبر ذلك سليمان عليه السلام بادرة حسنة تستأهل المقابلة بالمثل، وبدلاً من أن يجنح للسلم واللين والرفق كي تُستمال الملكة وتهتدي وقومَها؛ تجده قد جنح للتهديد بالحرب والوعيد بالإذلال! فاسمع ما قَصَّه ربك: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّـهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.



(هدية).. تُردّ بـ (تهديد بالحرب) و(وعيد بالإذلال والصغار) وتصعيد حاد في لهجة الخطاب هكذا! بلى؛ لأنها وإن كانت هدية إلا أنها تنطوي على عصيان أمر نبي الله الواجب طاعته، وإذ قد أمر بلقيس بأن تأتيه خاضعة في قوله: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ فإنه لا بد لها من أن تمتثل، ولا تغنيها عن ذلك هدية، خاصة مع ما رُوي من أنها إنما أرادت بذلك معرفة إن كان يميل إلى الدنيا.



ولئن أُشكل بأن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله قد قبل هدية المقوقس عظيم القبط ولم يتوعّده بحرب مع أنه دعاه أيضاً للإسلام فلم يُسلم؛ أُجيب بأن من المعلوم في شرع خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله قبول الجزية، وذلك ما لجأ إليه المقوقس فلقي القبول من النبي صلى الله عليه وآله، وكان قبول الهدية فرع ذلك. وليس لسليمان عليه السلام مثل هذا في شرعه، لا أقلّ في هذا المورد.



فالشاهد؛ أنه لا ينبغي توهم أن إبداء الطرف المقابل للّين أو مبادرته لما ينمّ عن حسن نيته وقابليته للهداية مقتضٍ بالضرورة لمجاراته في لحن خطابه أو مماشاته في أسلوبه أو مبادلته الرفق بالرفق، فلرُبَّ رفق كان الأوجه مبادلته بالشدة، حتى وإن كان الطرف المقابل ممن يُرى أنه غير معاند ولا متعنّت بل هو أقرب إلى قبول الهدى، ذلك لأن الخطاب الليّن أحياناً لا يفضي إلا إلى استمهال الطرف المقابل نفسه عن قبول الهدى بعدم شعوره بفداحة ما هو مقيم عليه من الضلالة، فيكون من الحكمة تشديد اللهجة معه حتى تضطرب نفسه فتخيّر صاحبها بين الجنة والنار وتشجّعه على أن يخطو خطوة الانتقال. وهذا الذي فعله سليمان عليه السلام مع بلقيس، فلو أنه قابَلها بالخطاب الليّن وبادلها الهدايا؛ لما كانت لتضطرب حتى تأتيه فتقف على دلائله وآياته وتُسلم قائلةً: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.



ولو أن امرئاً من أهل العالم الأول دعا شخصية مخالفة للإيمان فأرسلت إليه بهديةٍ مبديةً ما أبدته بلقيس، فما كان من ذلك المرء إلا أن رفض الهدية ماضياً على ما مضى عليه سليمان عليه السلام من التشديد والتصعيد والتهديد لأنه رأى الحكمة في ذلك؛ لتبارى أهل العوالم الأخرى في وصمه بالفظاظة وسوء الخلق وقلة الأدب وعدم الالتزام بمنهج القرآن في مجازاة الإحسان بالإحسان وردّ التحية بأحسن منها! ولقيل له: «أهكذا تعامِل مَن أرسل إليك بهدية؟! أهكذا تريد هدايته»؟! فليت شعري؛ هل اهتدت بلقيس بـ (الأسلوب الهادئ) أم بـ (الأسلوب الحاد)؟ وكيف قَصُر نبي عظيم كسليمان عليه السلام عن بلوغ هذه (الآداب والأخلاق) المزعومة بينما بلغها متنطعة العوالم الأخرى من معمّمي آخر الزمان؟!



● المثال الثالث: أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بقوله: ﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾. إلا أنّا نجد في ما حكاه الله تعالى أن موسى عليه السلام لم يلتزم اللين المأمور به، بل تعدّاه إلى الخشونة كما في قوله لفرعون: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ أي هالكاً ملعوناً معذَّباً لا خير فيك!



وهذا العدول عن اللين إلى التعدّي لم يكن اعتباطاً؛ حاشى الكليم عليه السلام، وإنما كان حكمة، ذلك لأن اللين إنما يمكن التزامه حال الشروع في دعوة المدعوّ، فإذا أبدى تكبّره وجحوده لم يكن للّين معه سبيل. وفرعون لعنه الله أصرّ على غيّه رغم الآيات البيّنات التي رآها وأتمّ بها موسى الحجة عليه، فقد قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ﴾ وزاد على تكذيبه وإبائه الطعن بنبي الله إذ قال له: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا﴾ فكان من الحكمة بعدئذ التعدّي عليه ورشقه بما هو أهله من سهام الكلام والقوادح.



فالشاهد؛ أنه لا ينبغي توهّم إبقاء مخاطبة المدعوّ في مستوى اللين دوماً، فقد يكون اللازم تصعيد لهجة الخطاب وتسنينها معه. ولو أن امرئاً من أهل العالم الأول رُؤيَ وهو مشتدٌّ في الكلام مع مخالف لجحوده وتكذيبه وسوء ردوده؛ لتبارى أهل العوالم الأخرى في النكير والتشنيع عليه بمخالفته هدي القرآن والنبوة والمرجعية! ولقيل له: «ألا ترى كيف يدعو القرآن للّين حتى مع فرعون؟! ألا ترى كيف لم يزدد الأنبياء والأوصياء إلا حلما؟! ألا ترى كيف تدعوك المرجعية للاّعنف والرفق بإخواننا بل أنفسنا»؟! فليتَ شعري؛ أَهَل التزم موسى باللين والحلم مع فرعون تالياً أم لعنه في وجهه؟! وكيف أغفل الكليم ما لا يريد هؤلاء المتفيهقون إغفاله من اللين والحلم على كل حال؟!



دعني يا أخا الإيمان أقولها لك بصدق: إن البلية كل البلية عند أهل العوالم الأخرى هي في نقصان الحظوظ من العلم والفقه، والمعرفة والتدبر، والاطلاع والالتفات، هذا النقصان هو ما يُنقص من أبصارهم وبصائرهم، فتختل استنتاجاتهم وآراؤهم، حين ينظرون بعين عوراء، يرون بها ما أكّدت عليه الشريعة وطابقته السيرة من التزام الرفق واللين، دون أن يروا في المقابل ما أكّدت عليه الشريعة وطابقته السيرة أيضاً من التزام الشدة والخشونة!



كلكم ترون ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ لكنكم لا ترون ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾!



كلكم ترون ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ لكنكم لا ترون ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾! ولا ترون ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ولا ترون سبّ النبي صلى الله عليه وآله لعمرو بن عبد ود العامري حين قال: «مَن لهذا الكلب»! ولا سبّه لأخي عثمان في وجهه وفي المسجد الحرام بقوله: «ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا الكلب فيقتله»! ولا سبّه لعائشة يوم قال لها: «لقد خَبُثتِ أنت»! وتعييره إياها بوصمة (الحميراء) أو (حميراء الساقين)! ولا شتمه لمروان وهو طفل رضيع بقوله: «الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون»! ولا إخزاءه معاوية بمؤخرته الكبيرة بقوله: «ويلٌ لأمتي من معاوية ذي الأستاه»! وقوله: «است معاوية في النار»!



كلكم ترون ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ﴾ لكنكم لا ترون ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾! ولا ترون ﴿وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ولا تبصرون ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»!ولا قول أمير المؤمنين عليه السلام لأبي سفيان: «لعنك الله! ولعن اللات والعزى معك»!



كلكم ترون ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ لكنكم لا ترون ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ مع أنها آية واحدة! فكيف أبصرت العيون صدرها ولم تبصر ذيلها حتى أن محاورنا الكريم بترها في رسالته لنا!



كلكم ترون قول أمير المؤمنين عليه السلام في النهي عن سب أهل الشام: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين» لكنكم لا ترون سبّه الصريح لأهل الشام بقوله: «جفاة طغام وعبيد أقزام جُمعوا من كل أوب وتُلقِّطوا من كل شوب»! ولا تبصرون سبه للبرج بن مسهر الطائي بقوله: «قبحك الله يا أثرم»! ولا شتمه للمغيرة بن الأخنس بقوله: «يابن اللعين الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع»! مع أن الجميع في نهج البلاغة المشحون باللعن والطعن وبذكر المعايب والقبائح وبالقدح في الأنساب والأعراض كما قال المحقق الكركي عليه رضوان الله.



ولعمري لئن لم تبصروا كل هذا في نهج البلاغة فما ههنا عجب من أن لا تبصروا ما في غيره مما هو دونه في الشهرة والتداول، كالذي في مناقب ابن شهراشوب من قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ويلكم يا أهل الشام! أما تستحيون من معاملة المخانيث! لقد علمكم رأس المخانيث عمرو»!



ألا فافتحوا أعينكم جيداً وطالعوا مليّاً واقرأوا حثيّاً؛ وخلاكم ذم! فإنكم إنْ فعلتم اكتشفتم أنه على مرور الأزمان كان هنالك خطان معصوميان شريفان متوازيان، لا يعدم أحدهما الآخر، ولا يخلو منهما زمان، أحدهما خط ليّن، والآخر خط خشن. والغلط إنما هو في توهم أن هنالك خط واحد، وأسلوب واحد. أو في توهم أن أحدهما هو الأصل أو القاعدة والآخر هو الاستثناء أو العارض. كلا! إن الأمر أوسع من ذلك وأعمق، والفقيه حق الفقيه هو مَن يدرك هذه الحقيقة، أنهما خطّان متوازيان لا ينبغي خلو الساحة التبليغية منهما. وقد أدركها سيدنا المرجع دام ظله في مدلول جوابه لأحد المشايخ من العاملين في مكتبه، إذ أبلغني أنه كان قد سأله عنّا قبل ما يربو على اثنتي عشرة سنة إذ تكاثرت علينا الأقاويل، فكان جوابه: «لا بد تحت هذه السماء من أن يكون هنالك من يقول الحقيقة الكاملة بصراحة». هذا مع ما هو معلوم من شدتنا وما نمثّله من عبءٍ على المرجعية وإحراج لها.



والاستقراء الناقص هو ما قد يوقع بعضهم في التماس محامل الاستثناء والقضايا الخارجية لما جاء في الشدة والخشونة، كأن يقال بأنها موارد للتعامل مع مَن لا ترتجى هدايته أو مع مَن هو متجبّر طاغٍ كمعاوية وأشباهه. ذلك لأن تفحّص تراث المعصومين عليهم السلام يكشف عن كثرة هذا الاستعمال حتى في غير هذه الموارد، فعلى سبيل المثال، ورد أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالساً في بيت مع «شيعته وخواصّه» فقال: «إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم. فقال رجل منا: وأنت حي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أعاذني الله من ذلك. فالتفت فإذا واحد يبكي، فقال له: يابن الحمقاء! أتريد باللذات في الدنيا الدرجات في الآخرة؟! إنما وعد الله الصابرين».



فكيف ترى قوله عليه السلام لرجل من شيعته وخواصّه: «يابن الحمقاء» لمجرد أنه قد بكى حين علم أنه ستُقطع الأيدي وتُسمل الأعين؟! أتراه لينا ونعومة؟! أم تراه خشونة مع متجبّر أو مع مَن لا تُرتجى هدايته؟! كيف والرجل من الخواص؟! أهكذا يُعامَل الشيعة الخواص؟! بلى! فالخاصيّ يفترَض أن يكون أشد شكيمةً من البكاء خوفاً من التعذيب! فإن وقع في هذا الانهيار النفسي كان من الحكمة توبيخه ليشتدّ.



وكيف ترى قوله عليه السلام لذلك الرجل الذي جاءه قائلاً: «السلام عليك يا علي. فقال له علي عليه السلام: وعليك السلام. مالَك - ثكلتك أمك! - لم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين»؟ فأجابه الرجل بأنه واقع في شبهة بسبب ما جرى من التحكيم، مقسماً بقوله: «والله لأن أعرف هداك من ضلالتك أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها. فقال له: علي عليه السلام: ثكلتك أمك! قف مني قريباً أريك علامات الهدى من علامات الضلالة»، ولمّا أن رآها الرجل «نزل عن فرسه فأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام وبرجله فقبّلهما. فقال علي عليه السلام: هذه لك آية».



فها أنت ترى أن الرجل كان ممن يعلم أمير المؤمنين عليه السلام أنه سيهتدي، خاصة وهو يبدي استعداده لذلك مقسماً بالله عليه، ورغم ذلك لم يمنع هذا أميرَ المؤمنين عليه السلام من أن يحتدّ معه ويذكر أمه بالثكل مرّتيْن! فكيف ترى ذلك؟ وكيف ترى قول الحسين عليه السلام للحر بن يزيد الرياحي عليه الرضوان: «ثكلتك أمك» وهو عالمٌ بما سيصير إليه أمره من حسن العاقبة؟! إلى غيرها من الموارد التي لسنا بصدد تعدادها، والتي إذا انضمّت إلى ما عُلم من خطاب القرآن الحكيم بأقذع العبائر لطوائف من العموم مما نزل القرآن أصلاً لدعوتهم وهدايتهم، وكذا ما عُلم من السنة؛ كان من المكابرة حملها جميعاً على الاستثناء والقضية الخارجية الخاصة.



ومحاولة المناقشة في أسناد روايات السب والخشونة تلك جهد العاجز، لاشتهار بعضها، وانجبار بعضٍ آخر، واحتفاف بعضٍ ثالث بقرائن الصدور، واعتضاد بعضٍ رابع بمعضدات، فلا تقصر في مجموعها عن الاعتبار، ولا يكون ردّها جميعاً إلا تعنتاً. على أن منها ما هو صحيح السند عالٍ، كرواية القداح عن الصادق عن أبيه عليهما السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لابنه محمد بن الحنفية يوم تكعكع في النهروان: «قدّم يابن اللخناء»! فهل ترى أغلظ منها سبّاً وهو يذكر لابنه أمّه في مسمع الرجال واصفاً فرجها بعدم الاختتان أو نتانة الريح؟! وترى الصادق عليه السلام لا يحتشم من نقل ذلك لأصحابه حتى يحدثوا به فيرويه الرواة ويدوّنه المصنّفون فيصل إلينا عبر القرون! هذا مع أن ابن الحنفية - على المظنون فيكم - هو عندكم من أهل الصلاح بخلاف ما نذهب إليه من طلاحه، فتكونون محجوجين بهذه بأعظم من غيركم، إذ يُقال: إنْ لم تتنافَ الحكمة مع سبّ مؤمن - كابن المعصوم - بأمّه لداعٍ ما؛ كان عدم التنافي مع سبّ غير المؤمن لداعٍ ما أثبت وآكد.



ولا تغفل عن أن من الحكمة تشديد الخطاب وتغليظه في فروض وأطوار لا مع المتجبّرين والمعاندين فحسب؛ بل حتى مع مَن تُتَرَقَّبُ هدايته، بل ومع المؤمنين والخاصة أيضاً بما يبلغ الإيذاء! ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: «إنه قد حق عليَّ أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه»؟! وغني عن البيان أن من مصاديق الإيذاء تغليظ اللهجة.



فالحاصل؛ أن الخطاب الحاد الخشن مطلوب إلى جانب الخطاب اللّين الناعم، لأن كلّاً منهما لا يسدّ مسدّه الآخر ولا يغني عنه. وللخطاب الخشن فوائده، فهو مع المتجبّرين فضح لهم وإسقاط، ومع المتعنّتين كسر لهم وإلزام، ومع الفاسقين صدٌّ لهم وردع، ومع المؤمنين زجر لهم وتهذيب، ومع المتكعكعين توبيخ لهم وتأنيب، ومع الذين تُتَأمَّلُ هدايتهم تحفيز لهم وتحريض. وهكذا تتنوع الفوائد والعوائد من استخدام هذا الأسلوب، والحاذق هو الذي يميّز بدقة الموارد التي تستأهله، فإن أصاب فأجره عند الله، وإن أخطأ فهو معذور إنْ لم يألُ جهدا. وإذ لا يمكن خلو زمان من مثل هذه الموارد بداهة وجود هذه الأصناف؛ كان بقاء هذا الأسلوب في خط موازٍ لخط اللين ضروريا.



ثم نَمْ قرير العين مطمئنا؛ فما تخشاه من أن ينفّر هذا الأسلوب الناس ويمنعهم من قبول الهدى ليس له واقع، وإن زُعِم لك ما زُعِم نقلاً عن بعض المتشيعين، ذلك لأنّا أكثر قرباً منهم ممن نقل لك، وما زلنا نرى منهم الإقبال على اعتناق ولاية آل محمد صلوات الله عليهم ببركات هذا المنهج، بل منهم من كان قد تشيّع منذ زمن لكنه آثر أن يجدّد تشيّعه على يدنا لأنه اعتبر أنه لم يكن على التشيع الصحيح إذ كانت براءته معدومة أو ضعيفة، فابحث عن مقاطعهم المرئية بنفسك واستمع لهم بأذنيك كيف يقولون: كنا قد تشيعنا لكن بفضلكم اكتشفنا أنّا كنا بترية وقد صرنا اليوم رافضة، فأعيدوا تلقيننا شهادة الإسلام!



وإنّه ليس يسوغ لنا أن نترك هذا المعايَن المحسوس ونأخذ ببلاغات منقولة عن مجهولين، فليس مَن عاين كمن سمع. نعم؛ يمكن أن يكون لهذا المنقول واقع عند من تشيّع تشيّعاً انحرافياً بترياً بفعل التأثر السياسي بالنظام الخامنئي وأذياله مثلا، كبعض قيادات حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، أو عند من تشيّع على حرف دونما نصاب كامل، كذلك الرجل من أهل الموصل الذي اعتمر العمامة بعد تشيّعه على يد المجدد الثاني قدس سره، وظلّ - في معرض نكيره على منهجنا - ينسب إلى المجدد أنه حين جاءه سائلاً: هل تسبون أبا بكر وعمر؟ أجاب بالنفي، وأنه لو كان أكد له ذلك لما تشيّع. ثم ما مضت إلا سنوات قلائل حتى أنكح ابنته رجلاً من أهل الخلاف! وصار تالياً مستشاراً لأسامة النجيفي! وكان من قبلُ قد شوهد على قنوات التلفزة مزهوّاً مع الجنود الأميركيين في العراق! فمثل هذه النماذج المتذبذبة لا حاجة للتشيع إليهم، وأن «ينفرّهم» هذا المنهج فلا يدخلون في التشيع خيرٌ من أن يدخلوا فيه فيلوّثوا أهله، وقد قال ربنا: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾!



إن من يريد الدخول في التشيع العظيم عليه أن يقبله بكل ما فيه، ومنه أن «مما يدل على إمامة أئمتنا الاثني عشر أن عائشة كافرة مستحقة للنار»! كما يقوله صاحب المفاخر العلامة المتكلم المولى محمد طاهر القمي رضوان الله تعالى عليه، وخيرٌ أن يوقَف مَن يريد التشيع على كل ما فيه منذ البداية، لأنه إن أُخفِيَ عنه شيء ثم ظهر له تالياً، وكان هذا الشيء مما يشمئز منه بحكم تنشئته الفاسدة؛ فإما أن يتزلزل فيخرج، وإما أن يتميّع فينكر هذا الشيء أو يتصرف فيه فلا يزيد المؤمنين إلا خبالا، وكلاهما فساد. ولعل لهذا أمر الأئمة عليهم السلام بترك من يشمئز من حديثهم ليبتعد، ولم يأمروا بأن نقدّم للمشمئز بديلاً لا يشمئز منه ليقترب، لأن قرب هذا المشمئز أفسد من بعده. ففي الحديث عن الباقر عليه السلام: «إن حديثنا هذا تشمئز منه قلوب الرجال، فمن أقرّ به فزيدوه ومن أنكره فذروه. إنه لابد من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة حتى يسقط فيها من كان يشق الشعر بشعرتين حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا».



فلنبقَ إذن وإياهم عليهم السلام وليبتعد أولئك الذين سقطوا في الفتنة ممن تقبَّض أو اشمأزّ من قولنا في الخائنة عائشة! فالله ورسوله وحججه في غنىً عن مثل هؤلاء، ولا بد للشيعة من تصفيات على مرّ الزمان كما نطق به الحديث الشريف.



ومهما يكن من أمر، فعقيدتنا أن من كتب الله له الهداية وهو أهلٌ لها، لن يحجزه شيء عن قبولها مهما بلغ الخطاب شدة وخشونة، بل لا يزيده ذلك الخطاب إلا ملامةً للنفس واندفاعاً لترك الضلالة إلى الهدى.



ها قد علمتَ أن الخطاب الشديد الحاد لم يمنع بلقيس عن الهدى، كما لم يمنع ذلك الرجل الخارجي الذي ذكر الأمير عليه السلام أمه، كما لم يمنع الحر الرياحي الذي ذكر الحسين عليه السلام أمه كذلك.



وقد تعلم أن أبناء أبي لهب قد أسلموا وحسن إسلامهم على المروي، لم يمنعهم من ذلك شتم القرآن لأبيهم ولأمهم. وتعلم أنْ رغم لعن القرآن لشجرة بني أمية وتوالي اللعنات عليهم من النبي وآله عليهم السلام؛ لم يمنع ذلك نفراً منهم عن التشيّع حتى بلغوا فيه أعلى المراتب، كخالد بن سعيد بن العاص وأخويه أبان وعمرو، ثم سعد بن عبد الملك الملقَّب من الأئمة بسعد الخير، والذي قيل فيه: «أنت أموي منا أهل البيت»!



وأما علمك بدخول أفواج من اليهود والنصارى في دين الله وما زالوا، رغم ما في القرآن من لعنهم وشتمهم والإزراء بهم وتشبيههم بالحمير وبأن منهم القردة والخنازير؛ فلا يحتاج إلى تذكير.



وقد لا تعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في ثقيف: «ألا إن ثقيفاً قوم غدر، لا يوفون بعهد، يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم، وإن الصالح في ثقيف لغريب»! وبلغ من سبه لهم أن قال لهم: «يا بقية ثمود! يا صُعّار الخدود! هل أنتم إلا طغام لئام؟! من لي بهؤلاء الأعبد»؟! ورغم ذلك لم تمنع هذه اللهجة الحادة رجالاً ثقفييّن من التشيع للذي سبّ قبيلتهم! كعروة بن مسعود وأبان بن عبد الملك وعمرو بن عثمان وغيرهم، فضلاً عن مواليهم كمحمد بن مسلم وهو من أصحاب الإجماع. ولن أذكر المختار بن أبي عبيد للاختلاف في شأنه إذ نذهب إلى عدم استقامته، غير أني أذكر إبراهيم بن محمد الثقفي الذي صار رافضياً جلداً رغماً عن أهله الذين عادوه، حتى أنه في كتابه الغارات أخرج الروايات التي تذم قبيلته وتلعن مسجدها بلا حرج ولا تردد!



وقد لا تعلم أن الصادق عليه السلام قد لعن يقطين وما ولد، مع أن الشيخ ذكر أنه كان يتشيّع ويقول بالإمامة! إلا أن الظاهر أنه تلوّث من خدمته لسلاطين الجور من بني العباس. ورغم ذلك تجد أن ابنه علي بن يقطين صار شيعياً رافضياً مخلصاً للذين لعنوا أباه وما ولد! لم ينفر من ذلك بل كان حزيناً مشفقاً على نفسه خوف أن تصيبه تلك اللعنة، فكان أن طمأنه الكاظم عليه السلام كما رواه ثقة الإسلام الكليني: «عن علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: إني قد أشفقت من دعوة أبي عبد الله عليه السلام على يقطين وما ولد! فقال: يا أبا الحسن ليس حيث تذهب، إنما المؤمن في صلب الكافر بمنزلة الحصاة في اللبنة، ويجيء المطر فيغسل اللبنة ولا يضر الحصاة شيئا».



وقد لا تعلم أن الأئمة عليهم السلام وأصحابهم الأخيار سبّوا الواقفة ومن ظهرت عليهم بوادر الوقف بأنهم حمير وكلاب ممطورة، ومن ذلك قول الكاظم عليه السلام لعلي بن أبي حمزة البطائني: «يا علي! إنما أنت وأصحابك أشباه الحمير»! وقول الجواد عليه السلام: «الواقفة هم حمير الشيعة! ثم تلا هذه الآية: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا». ناهيك عن لعن الأئمة لهم وتكفيرهم إياهم وأمرهم الشيعة بالقنوت عليهم في صلواتهم ومنابذتهم. إلا أن كل هذا اللعن والسب والخطاب الحاد والتعامل الخشن لم يمنع هداية من اهتدى منهم وآب إلى الحق، كعبد الرحمن بن الحجاج ورفاعة بن موسى ويونس بن يعقوب وحماد بن عيسى والحسن بن علي الوشاء، بل إن أحمد بن أبي نصر البزنطي - وهو أحد الثلاثة المشايخ الذين لا يرسلون إلا عن ثقة - كان من أولئك الواقفة ثم عدل إلى الحق.



والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، وهي تصادق على الذي قلناه من أنه إذا تطلب الأمر استخدام الأسلوب الحاد فإنه لن يحول دون هداية من كتب الله له الهداية، بل هو يحفزّه. كما أن هذه الأمثلة تبدد كثيراً من دعاوى أهل العوالم الأخرى، ومن أبرزها أن الأسلوب الحاد ليس من سيرة المعصومين عليهم السلام، وأنه خلاف الحكمة، وأنه ينفّر الناس فيمنعهم من الهداية أو يدفعهم إلى العناد والغواية، وأنه مناف للأخلاق والآداب الدينية، وأنه مناقض للوحدة الإسلامية.. إلى غير ذلك من الدعاوى التي لا قيمة حقيقية لها.



ونعيد هنا التذكير بأنّا لا نقول بوجوب تعميم هذا الأسلوب أو اعتماده بالمطلق في كل الموارد، وإنما نحن نقول بالتوازن، وأن هذا الأسلوب مطلوب ومجدٍ في موارده المذكورة آنفا، ولا ينبغي خلو الساحة التبليغية منه، خاصة حين التصدي لما تصدّينا له من إسقاط رموز النفاق، فلا بد في هذا المقام من درجةٍ مناسبةٍ من الحدية والخشونة تُحدث لدى المجتمعات الإسلامية هزة سمعية تدفعها إلى مراجعة أمرها وتبعث فيها روح التمرد على الموروث الباطل.



وإنك لو أمعنت النظر لوجدت أهل العالم الأول مع حدّيتهم تجاه الرموز والمعتقَد؛ تجدهم ليّنين تجاه الأتباع والمعتقِد، إلا أن يشطّ شاطٌّ. فلا تكاد تسمعهم يخاطبون مخالفاً عادياً بابن الحمقاء أو اللخناء! ولا تكاد تسمع منهم مذمة لشعب أو تحقيراً لقبيلة بأنها قبيلة غدر وطغام ولئام! بل ولا رمياً لطائفة أهل الخلاف أجمع بأنهم حمير أو كلاب ممطورة! مع أن ذلك كله جرى على ألسنة المعصومين عليهم صلوات الله. وما ذاك إلا احترازاً من الوقوع في خطأ تشخيص الحكمة والمصلحة، إذ يصعب هذا التشخيص حين مخاطبة الفرد من الأتباع أو حين مخاطبة العموم من شعوب وقبائل أو طوائف، ولعله لا يقف عليه بدقة بعد المعصوم سوى الأوحدي من الفقهاء، فكان الأولى الاقتصار على القدر المتيقّن وهو اعتماد الأسلوب الخشن مع رموز الباطل، فليس في مشروعية ذلك شك.



لا يقال: إن الطعن على الرمز المقدس أشد إيلاماً للنفوس وأعظم تنفيراً من الطعن على الأصول والأعراق أو الأفعال والأحوال، فما خفتم منه من خطأ التشخيص ماثل، وما أردتم أن تكونوا في حرز منه قد وقعتم فيه. إذ يقال: بل نحن في حرز حريز وحصن حصين، ذلك لأنّا نمضي على منهاج الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في التفكيك بين المعتقَد والمعتقِد بما يروّض الأخير تجاه النيل من الأول، فلقد تحالف صلى الله عليه وآله مع خزاعة مثلاً مع أنها كانت لا تزال مقيمة على الشرك معتقدة بالأصنام كرموز مقدسة. لم يمنعه صلى الله عليه وآله هذا الحلف وحاجته إليه في قبال حلف أعدائه من قريش ومَن والاها من مواصلة جهاده في تحطيم تلك الرموز المقدسة الزائفة، فكانت الآيات يتوالى نزولها في النيل منها وتسفيه عقائد المشركين، وكذا أحاديثه تتوالى في ذلك كله بلا فتور ولا تخفيف لهجة. وليس من معنى لذلك سوى أنه صلى الله عليه وآله نجح نجاحاً باهراً في ترويض خزاعة على تقبل هذه اللغة منه رغم ما بينهما من حلف، فكان الخزاعي المشرك يعكف على صنمه عابداً وهو يبلغه أن محمداً ينال منه دون أن يُحدث ذلك في نفسه أي استياء أو نفور! ودون أن يدفعه ذلك إلى أي رد فعل ولو بنقض الحلف على الأقل! بل على العكس؛ أنبأنا التاريخ أن الخزاعيين كانوا متمسكين بالحلف إلى أقصى حد مع أنهم كانوا يقطنون على أطراف مكة الواقعة بيد قريش، وحين كانت تحدث المناوشات بينهما بسبب إساءة بعض مشركي قريش للنبي صلى الله عليه وآله كان الخزاعيون المشركون يردون عليهم حتى يقع بين الطرفين قتال! ثم كان عديد من أبناء هذه القبيلة يُسلمون من حين لآخر إلى أن دخلت خزاعة بأكملها في الإسلام عام الفتح.



وهكذا نجح صلى الله عليه وآله مع بعض اليهود والنصارى إذ سالمهم ودخلوا في ذمة الإسلام وهم مقيمون على أديانهم الباطلة، فتسمعه صلى الله عليه وآله يعلنها على ما يُروى: «من آذى ذمّياً فقد آذاني» فأسّس أساس التعامل الرفيق مع المعتقِد، في حين ظل المعتقَد مرمىً للهجوم والقدح والتسفيه والإبطال، وكانت الآيات والأحاديث في تحطيم عقائد اليهود والنصارى وتسخيفها تتوالى بلا فتور ولا تخفيف لهجة كذلك.



فأهل العالم الأول ماضون على منهاج أبي القاسم روحي فداه في تعويد المخاطَب على عدم التحسّس من المساس برمزه المقدس أو عقيدته مع ضمان حمايته كإنسان وكسبه بالتعامل الأخلاقي معه. تسمع أهل العالم الأول يقولون: «من آذى بكرياً فقد آذاني» وقد نجحوا في الوقت نفسه في ترويض كثير من أهل الخلاف ومشايخهم وتعويدهم على تقبّل اللغة النقدية لرموزهم وعقائدهم وإن احتدّت. ترى بعضهم يشتركون في برامجنا مثلاً على الهواء وهم يتبادلون التحايا معنا والاحترام والمودة بل ويثنون علينا ويشهدون بصدقنا وعلمنا، ثم تراهم يبدأون بالمناظرة والنقاش معنا بلا حرج ولا حريجة. ومن أولئك من تشيّع بفضل الله ورسوله صلى الله عليه وآله، كالشيخ أبي يونس الموصلي، وهو إمام وخطيب مسجل رسمياً لدى ما يسمى بالوقف السني، قد اتصل بنا قبل أسابيع قليلة وأعلنها مدوية على الهواء مباشرة: «أشهد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة في النار»!



أوَلا ترى شخصيةً تمتلئ إيماناً قوياً بالرفض الأصيل وثباتاً عليه كهذا الشيخ من أهل الموصل؛ خيرٌ من شخصية مترنّحة متذبذبة كذلك الشيخ من أهل الموصل أيضاً الذي مرّ عليك ذكره؟ وأيهما يا ترى يضيف الرصيد الحقيقي للشيعة والتشيع؟ أهذا الذي يدخل التشيع مع كامل الإيمان والتسليم والافتخار بكل ما فيه بما في ذلك الموقف الشرعي الشديد من أمثال أبي بكر وعمر وعائشة؛ أم ذاك المتأرجح الذي أريدَ له أن يدخل تشيّعاً مموّهاً ضبابياً أو مفصَّلاً على مقاسه حتى إذا وجد بعد الدخول ما لا يروق له خرج أو خرّب؟!



إن الذي يدخل التشيع على يدنا تجده في إيمانه بالتشيع صلباً كزبر الحديد، تزول الجبال ولا يزول! وما ذلك - بعد فضل الله ورسوله - إلا لأنّا كاشفناه بكل شيء في التشيع منذ البداية، لم نخدعه بحجب شيء مهما كان حسّاساً، بل صارحناه به وأقمنا له الدليل عليه، فصار إيمانه بذلك مستقراً راسخاً، وغدا على درجة عالية من العزة والثقة بالنفس والحصانة. أما الذي دخل التشيع على يد غيرنا من المتملقين أو بفعل التأثر السياسي المزبور فكثيراً ما تجده قد تخبّط تالياً، كصالح الورداني الذي تشيّع متأثراً بثورة خميني، ثم بعد نحو عشرين سنة أطلّ برأسه قائلاً أنه لم يعد شيعياً بالمفهوم السائد وأنه يرفض المرجعية الشيعية والخرافات السلوكية لدى الشيعة! وأنه يتبنّى الآن شعار «تصحيح التشيع»! مثل هذا أو من يكاد أن يكون مثله قد تسمعه يقول: لو كنا نسمع هذه الطريقة من الطعن في عائشة قبل تشيعنا لما تشيعنا! هذا إن صحّ ما بلغك ولم تكن العنعنة مدخولة!



ثم إنك ذكرت كتاب المراجعات مثالاً لما سمّيته «الكتب الهادئة للمتشيعين التي تناولت البحوث الخلافية دون سب ولعن ووصلت إلى مرادها»، تريد بذلك المندوحة عن منهج أهل العالم الأول.



أقول: إنّا لسنا نبخس أثر المراجعات رغم ما فيه من بعض موارد الضعف والاشتباه مما ليس ههنا محل لبيانه، ورغم ما كان لصاحبه من بعض الهنات مما لا داعي لذكره. إلا أنه قد تبيّن لك مما تقدّم أن الخطاب الحاد الخشن مطلوب إلى جانب الخطاب اللّين الناعم، لأن كلّاً منهما لا يسدّ مسدّه الآخر ولا يغني عنه، ولا ينبغي خلو زمان منهما. فلئن عددنا المراجعات مصداقاً للخطاب الليّن؛ بقي ما يلزم أن يكون مصداقاً للخطاب الحاد لأن هنالك من لا يوقَظ من الغفلة إلا به، ككتاب مطاعن الثلاثة للفقيه الشيخ عبد النبي الكاظمي رحمه الله الجد الأمي للسيد محسن الحكيم.



هذا وإنك لو وازنتَ لعلمتَ أن خطاباً كخطاب المراجعات هو في هذا الزمان مرجوح، ذلك لأنه يخاطب فئة محصورة من الناس كأهل العلم والثقافة والمطالعة لا كل الناس، فلو قصرنا خطابنا على هذا الخطاب لحُرمنا هداية فئات عديدة من الناس تحتاج إلى خطاب علمي تنويري لكنه صريح ومباشر وبلغة يفهمها الجميع. ولهذا تجد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان يعتمد الخطب القصيرة والحجج البسيطة بلسانٍ من الصراحة التي تقتضي الحدية في هدم الباطل ورموزه، ذلك لأنه لا يخاطب فلاسفة من اليونان أو الإغريق، بل يخاطب عرباً أميّين جاهليين. وما أشبه اليوم بالبارحة فنحن في أميّة جاهلية ثانية لكنها مقنّعة! وافتراض أن المراجعات وسائر ما أطلقتم عليه «الكتب الهادئة» توصل إلى المراد هو افتراض لا وجه له. بلى هي قد توصل فئة محدودة إلى المراد إن وفقها الله تعالى، فماذا عن باقي الناس؟ ماذا عن ذلك الفلاح البسيط مثلاً الذي لا يستوعب (برهان اللطف) لإثبات وجوب نصب الإمام، ولا يفهم معنى (تواتر) حديث الغدير لتعدد طرقه، ولا يدرك (حجية التواتر)، ولا (حجية الظهور) في دلالة الحديث على الإمامة، فضلاً عن أن يقوده ذلك كله للتوصل إلى (البراءة) من أبي بكر وعمر وعائشة مثلاً؟! لن يستمع لك هذا الفلاح منذ البداية، ولئن أرسلتَ له المراجعات فلن تجده ينتفع به إلا بتمزيق أوراقه ليصرّ بها البقول أو الحبوب ليبيعها!



أما نحن فقد تشيّع على يدنا - بفضل الله ورسوله صلى الله عليه وآله - العالم والأكاديمي والمثقف المطلع؛ كما تشيّع الفلاح والقروي والكاسب البسيط. أَهَل طَرَقَ سمعك قطّ أن قبيلة بأكملها قد تشيّعت بسبب المراجعات؟ كلا، أما عندنا فقد تشيّعت قبيلة في تونس هي قبيلة (أولاد عسكر) بسبب سلسلة محاضراتنا بعنوان: (كيف زُيِّف الإسلام)! ورسالة هؤلاء موجودة على موقع القطرة، وقد قامت إحدى القنوات التونسية قبل سنوات بإجراء لقاءات مع بعضهم في تحقيق ميداني، واشتعلت بعض الصحف التونسية حينها تولول من خطر الاختراق الشيعي لتونس، وكالت لي شخصياً من الشتائم ما كالته. ولا تظننّ أن هذا بفعل الشهرة أو توفر وسيلة القناة الفضائية وهي ميزات لم ينلها المراجعات؛ فلقد كان تشيّع هؤلاء قبل الشهرة وقبل انطلاقة القناة بسنوات كما هو مثبت من تاريخ نشر رسالتهم على الموقع. على أنكم في قنواتكم تتبعون منهجية المراجعات «الهادئة» كما تقولون، فقد نال المراجعات إذن هذه الميزات والوسائل بل وأعظم، فإن كانت ههنا قناة واحدة أو قناتان لهذا الخطاب الحاد؛ فإن لديكم لذلك الخطاب «الناعم» عشرات القنوات، ولئن كان ههنا متحدث واحد أو اثنان؛ فإن لديكم هنالك عشرات المتحدثين بألسنة «ليّنة» شتّى، ومع هذا كله لم يُسمع أنكم مجتمعين استطعتم تشييع قبيلة، بل ولا ربع قبيلة! ولن أذكر الخمس والسدس وصولاً إلى العُشر فعُشر العُشر!



إن الناس ليسوا كلهم علماء أو مثقفين ليقرأوا المراجعات، بل جلهم يريد السهل الممتنع الذي به يتأثر ويقنع. ثم إن الذي يكون عالماً أو مثقفاً من الناس، لا بد أن يقضي زمناً في قراءة المراجعات وتتبع مصادره والتحقق من استدلالاته، وقد يدركه الموت قبل أن ينتهي من ذلك كله! فلو بقينا نقصر خطابنا على هذا النوع من الخطاب؛ لتباطأت وتيرة التشيع في الأرجاء، ولاقتصرت في أحسن الفروض على بضع أناس كل عام على أن يكونوا من العلماء أو المثقفين وأشباههم.



أما عندنا؛ فإن خطابنا الذي لا يعجبكم قد شيّع أناساً في دقائق! وليس هذا من قبيل المبالغة، فلك أن ترجع مثلاً إلى مقطع لإحدى جلسات البث المباشر تسمع فيه متصلاً مصرياً مثقفاً تداخل معنا معترضاً على ما نطرح، وبعد أقل من عشرين دقيقة أعلن تشيعه وشهد على أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة بأنهم في النار!



ولو كنتَ أكثر تجربة ومخالطة للمجتمعات المخالفة؛ لعلمتَ أن المراجعات - على ما فيه من أدلة وبراهين - ليس يُقنع علماءهم ومثقفيهم كما يقنعهم خطابنا وأسلوبنا هذا الذي يركز الضربات على أئمة الكفر والنفاق، ولست أُرجع هذا إلى ما في خطابنا من أدلة وبراهين صادمة فحسب؛ بل إلى ما أعتبره بركة إلهية تحيط بهذا الخطاب وبهذا المنهج، فكأن الله تعالى يسدّد الذين يرمون أعداء آل محمد عليهم السلام ويهتمون ببيان الأدلة والبراهين في ميدان البراءة فيجعل لهم من الدور الطيب في هداية الناس ما يفوق دور القاعدين عن ذلك وإنْ أجهدوا أنفسهم في بيان الأدلة والبراهين في ميدان الولاية.



وهاك شاهداً على ذلك ينقله السيد مرتضى الشيرازي دام ظله في كتابه (توبوا إلى الله) وحاصله أن عالماً شيعياً أخبره أنه التقى بعالم مخالف من أعلامهم في إحدى العواصم الإسلامية في شهر رمضان، وظل يناقشه منذ الليلة الأولى حتى الليلة العشرين وهو يردّ عليه ولا يقبل. قال العالم منا: «فتحيّرت كثيراً فقد ذكرتُ له مختلف الأدلة من المراجعات إلى الغدير وإلى غيرهما، وفكّرت في نفسي أن هذا الإنسان رغم عناده إلا أنه يبدو لي طيّباً في جوهره، لكنه لم يقتنع بعد، فما الذي يمكنني فعله حتى أُحدث فيه تحوّلاً دفعياً»؟

وكان (التحول الدفعي) حين عدل هذا العالم الشيعي عن أسلوب المراجعات في الليلة الحادية والعشرين وأخذ يضرب أبا بكر وعمر باعتبار أنهما آذيا الصديقة الكبرى الزهراء عليها السلام وظلماها وغصبا حقها، سارداً مظلوميتها بالتفصيل، فما كان من ذلك العالم المخالف إلا أن بكى وقال أنه يخيّر نفسه الآن بين رسول الله والزهراء صلى الله عليهما وآلهما؛ وبين أبي بكر وعمر. ومع أنه ذكر أن حب أبي بكر وعمر راسخ في قلبه ويصعب عليه اقتلاعه إلا أنه أخيراً قال: «ولكن مع ذلك، والله لا أفضّل على رسول الله وابنته الزهراء أحدا». فتشيّع الرجل في المجلس نفسه!



هكذا تجد أسلوب المراجعات والغدير لم ينفع طوال عشرين ليلة من البحث المتواصل، بينما نفع أسلوبنا في ليلة واحدة في مجلس واحد! ولئن شرّفتنا بمجيئك ههنا لأعلمناك بأناس من علمائهم وشخصياتهم قد تشيّعوا على يدنا ولا يمكن التصريح بأسمائهم حالياً، لتفاجَأ ببركة هذا الأسلوب وسداده، وكيف أننا استطعنا به اختراق أعماق أعماقهم، كمؤسسة الأزهر، والمؤسسة الوهابية، بل والمؤسسة الحاكمة السعودية! ليكون الذي سمعتَه من نقل السيد مرتضى ليس بشيء أمام ما سنريك إياه من عجب عجاب!



والنتيجة مما تقدّم ههنا أن أسلوب أهل العالم الثاني إن كان قائماً على أسلوب المراجعات فهو خير، لكنه ليس يغني عن أسلوب أهل العالم الأول، فهذا الأسلوب أرجح في مثل هذا الزمان من ذلك الأسلوب، لأنه يعمّ في خطابه عموم الناس ولا يخصّ العلماء منهم، ويصارح ولا يجامل، ويعجّل في الهداية ولا يبطئ، بل هو أكثر إقناعاً لمن كتب الله له الهداية حتى من علمائهم، تحوطه في ذلك كله البركة الإلهية ورعاية أئمة الهدى صلوات الله عليهم.



إنهما سفينتان توصلان إلى بر الأمان إن شاء الله تعالى، غير أن سفينة أهل العالم الأول أوسع، وفي لجج البحار أسرع!



وأما دعوى أن أهل العالم الثاني ماضون على منهج أمير المؤمنين والسبط الأكبر وأغلب الأئمة في «اتباع سياسة التبليغ الهادئ دون مغامرة وإعلان للحرب على رموز الضلالة، وأن الوصي عليه السلام اتبع مع رموز الضلالة طريقة العمل الهادئ لا الصدامي ولم يصرح بالطعن عليهم وهتكهم عادة إلا أمام شيعته أو في موارد خاصة».. إلى آخر هذا الكلام؛ فلا تعدو دعوى مبنية على قراءة مغلوطة للتاريخ منقوصة، فإن الأمير والسبط الأكبر وأغلب الأئمة عليهم السلام عُرف عنهم إعلان الحرب على رموز الضلالة، وتصادموا معهم، وطعنوا عليهم، سراً وعلانية، حتى صار ذلك بمجموعه معروفاً بالضرورة عنهم عند المؤالف والمخالف، لا ينكره إلا مكابر، ولا يمتري فيه إلا جاهل. نعم كان هذا المجموع من الطعون تتراوح أفراده شدةً وضعفاً بحسب المقتضيات وظروف الأحوال وأساليب الكلام والبلاغة، فأن تأخذ منه ما كان ضعيفاً لتحسبه منهجاً عاماً ثم تحمل ما كان منه شديداً على على أنه محصورٌ بما كان أمام الشيعة أو في موارد خاصة؛ فهو غلط.



هذا أمير المؤمنين عليه السلام يدخل المسجد بعد انقلاب السقيفة معلناً كفر القوم فيقول بصوت عالٍ: «﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن! لمَ قلت ما قلت؟ قال: قرأت شيئاً من القرآن. قال: لقد قلتَه لأمر. قال: نعم؛ إن الله يقول في كتابه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ أفتَشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله أنه استخلف أبا بكر؟ قال: ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى إلا إليك. قال: فهلّا بايعتني؟ قال: اجتمع الناس عليه فكنتُ منهم! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كما اجتمع أهل العجل على العجل! ها هنا فُتِنتم، ومثلكم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾».



أفهل ترى أن إعلان أمير المؤمنين عليه السلام في المسجد علناً كفر القوم وضلالهم وأنهم في اجتماعهم على أبي بكر «كما اجتمع أهل العجل على العجل»؛ هو من (طريقة العمل الهادئ لا الصدامي)؟!



ثم تراه عليه السلام يخطب في ملأ من الناس بعد أسبوع واحد من انقلاب السقيفة بخطبة الوسيلة التي يقول فيها: «ولئن تقمّصها دوني الأشقيان، ونازعاني في ما ليس لهما بحق، وركباها ضلالة، واعتقداها جهالة، فلبئس ما عليه وردا، ولبئس ما لأنفسهما مهّدا، يتلاعنان في دورهما، ويتبرأ كلٌ من صاحبه، يقول لقرينه إذ التقيا: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ فيجيبه الأشقى على رثوثه: يا ليتني لم أتخذك خليلا، لقد أضللتني ﴿عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ فأنا الذكر الذي عنه ضل، والسبيل الذي عنه مال، والإيمان الذي به كفر، والقرآن الذي إياه هجر، والدين الذي به كذب، والصراط الذي عنه نكب، ولئن رتعا في الحطام المتصرم، والغرور المنقطع، وكانا منه على شفا حفرة من النار، لهما على شر ورود، في أخيب وفود، وألعن مورود، يتصارخان باللعنة، و يتناعقان بالحسرة، مالهما من راحة، ولا عن عذابهما من مندوحة»!



أفهل ترى هذا الكلام كان سرّاً أمام الشيعة مع أنه (خطبة)؟! أم تراه لا يتضمن طعناً صريحاً جليّاً على رموز الضلال مع أن أبا الصلاح الحلبي قدس سره يقول عنه: «وهذا نصٌّ جليٌّ منه عليه السلام على ضلال المتقدمين عليه»؟! أم هل ترى أن هذا الكلام من قبيل (طريقة العمل الهادئ لا الصدامي) مع ما فيه من رمي أبي بكر وعمر بالشقاء والضلالة! والجهالة والتكذيب! والميل والهجران! والشر والكفر! والملاعنة في النار؟! فأي صدام أشدّ من هذا تريد؟



وماذا عن خطبته الطالوتية التي خطب بها بعد السقيفة أيضاً وفيها: «واتبعتم الغواة فأغوتكم»! حتى إذا خرج من المسجد ورأى نحواً من ثلاثين شاةً قال: «والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلتُ ابن آكلة الذبّان عن ملكه»! أترى أنه بتسميته أئمة القوم بالغواة وأبا بكر بابن آكلة الذبّان اتبع (سياسة التبليغ الهادئ)؟! أم تراه بإعلانه الجهاد وبتحريضه على قتال ابن آكلة الذبّان ودعواه القوم لحلق رؤوسهم استعداداً للحرب (عمل على حفظ الحق دون مغامرة وإعلان للحرب على الآخرين)؟!



وماذا عن قوله في المسجد لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وخالد وسالم والمغيرة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسائر الناس وهم قعود حول أبي بكر عليهم السلاح: «لشدّ ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة إنْ قتل الله محمداً أو أماته أن تزووا هذا الأمر عنّا أهل البيت»! ثم قوله لعمر: «يابن صهاك! فليس لنا حقٌ وهو لك ولابن آكلة الذباب»؟! وقوله لعثمان: «سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يلعنك ثم لم يستغفر الله لك مُذْ لعنَك»! أيكون كل هذا - بربّك - من (الانتقاد الهادئ لا الاصطدام المباشر)؟!



ولم تزل تحدّياته عليه السلام لرموز الباطل ومطاعنه عليهم تتوالى حتى امتلأوا منه رهبة، فأما أبو بكر فقال وقد «ارتعب رعباً شديداً» من رسالة توعّده فيها: «يا سبحان الله! ما أجرأه عليَّ وأنكله عن غيري»! وأما عمر فقال وقد هدّده بآية من آياته: «الله الله يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء! وجعل يتضرع إليه، فمضى عمر إلى بيته مرعوباً»!



وهكذا كان صلوات الله عليه يطعن عليهم علانيةً ويشتمهم ويفضحهم ويتهدّدهم، ولا تجد زماناً من أزمنة حكوماتهم إلا وله عليه السلام فيه موقف مشهود في ذلك أو أكثر. أما في زمان حكومة ابن أبي قحافة فقد مرّ عليك، وأما في زمان حكومة ابن الخطاب فقد مرّ أيضاً حتى بلغ الأمر أن بشّره وصاحبه بالنار بعد إخراجهما من قبريهما وصلبهما بقوله: «إذا خرجت جيفتكما حتى تُصلبا على الدوحات فيكون ذلك فتنة لمن أحبكما، ويصير مصيركما جميعاً إلى النار»! وأما في زمان حكومة ابن عفان فمواقفه عليه السلام معلومة بلغت من جرأتها أن قال يوماً: «التراب في فيك يا عثمان! وسيكون به»!



وأما في زمان حكومته صلوات الله عليه فمطاعنه عليهم سارت بها الركبان، إذ بدأ عهده بالطعن عليهم يوم بويع فصعد المنبر فكان مما خطب به قوله: «وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمَن ما كانوا، وأمات هامان، وأهلك فرعون، وقد قتل عثمان! سبق فيه الرجلان وقام الثالث همّه بطنه! ويلَه لو قُصَّ جناحاه وقُطع رأسه كان خيراً له! شُغل عن الجنة والنار أمامه»! وكان منها يوم أن دخل المسجد فقال: «أما ترون ما أرى؟ قالوا: يا أمير المؤمنين وما الذي ترى؟ قال: أرى أبا بكر عتيقاً في سدف النار يشير إليَّ بيده يقول: استغفر لي! لا غفر الله له! إن الله لا يرضى عنهما حتى يرضياني، وأيم الله لا يرضياني أبداً».



وليست هذه إلا أمثلة، وإلا فبسط الكلام في تعدادها خارج عن المقصود. فما أغرب قولك بأنه عليه السلام لم يصرّح بالطعن عليهم وهتكهم إلا أمام شيعته! كيف وقد صرّح وطعن في المساجد بأعلى الصوت في وجوههم وعلى ملأ من الناس أجمع وفي مختلف المراحل الزمنية؟!



وما أطرف قولك أن هذا الطعن والهتك منه عليه السلام لهم إنما كان في (موارد خاصة)! فإنه إذا كان ما صدر منه عليه السلام في زمان أبي بكر (موارد خاصة)، وما صدر في زمان عمر (موارد خاصة)، وما صدر في زمان عثمان (موارد خاصة)، وما صدر في زمانه (موارد خاصة).. فما هي الموارد العامة إذن؟! على أن حمل جميع هذه المواقف المشهودة على (الموارد الخاصة) - رغم ما فيه - ليس يدعم ويقرّب إلا منهج أهل العالم الأول كما شرحنا آنفاً فلا نعيد.



ومهما يكن من أمر؛ فإنه لا سبيل لإنكار تكثّر هذه (الموارد الخاصة) في كل زمان من أزمنة حضور المعصومين عليهم السلام، حتى صار العدو معترفاً بذلك مقرّاً به، ولولا تكثّره واشتهاره عنهم صلوات الله عليهم لما اعترف به وأقرّ. فراجع مثلاً قول ابن خلدون: «وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوْه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح»! ناهيك عما أخرجوه في ذلك، كالخبر في صحيح مسلم أن عليّاً عليه السلام كان يطعن على أبي بكر بأنه كان «كاذباً آثماً غادراً خائناً» ويطعن على عمر بمثله، يذكرها هذا الأخير للأمير عليه السلام دونما رد منه ولا نكير. وكالخبر في الموفقيات أنه عليه السلام كان يطعن على عثمان بأنه «حمّال الخطايا». وكل ذلك مروي عندهم بالأسناد الصحاح، ولا تتوفر الدواعي لنقله إلا أن يكون حقاً لأنه خلاف مذهبهم واعتقادهم في هؤلاء.



وليس يخفى عليك أن هذا الطعن المتوالي منه صلوات الله عليه على أئمة الكفر والضلالة كان عند محاربيه من أكثر ما يحرّضون به الناس على حربه وقتاله. فراجع من مصادرنا كتاب سُليم وفيه: «إن معاوية استنفر الناس ودعاهم إلى الطلب بدم عثمان، وكان في ما يحضّهم به أن قال: إن عليا قتل عثمان وآوى قتلته، وإنه يطعن على أبي بكر وعمر، ويدّعي أنه خليفة رسول الله وأنه أحق بالأمر منهما. فنفرت العامة والقُرّاء واجتمعوا على معاوية إلا قليلاً منهم». ومن مصادرهم فراجع محصول الرازي وفيه عن عمرو بن العاص أنه كان يقول: «إن عليا شتم أبا بكر وشارك في دم عثمان». إلى غيرها من المصادر.



وما قيل هنا في شأن أمير المؤمنين عليه السلام؛ يقال في شأن سائر أئمة الهدى عليهم السلام، من أن أزمنتهم ما خلت من مواقف عظيمة يُعرف بها الحق من الباطل، ويُنسف بها رموز النفاق والضلالة، تصريحاً لا تلميحاً، جهراً لا سرّاً، قدحاً بحاد اللسان لا ذمّاً بمعاريض البيان. وعلى ذلك عُودوا ولأجله استشهدوا، صلوات الله عليهم تترى وتزيد. ولولا ملالة الإطالة لأسهبنا في تعداد ذلك، بيد أن في (تحرير الإنسان الشيعي) ومحاضراتنا العديدة في هذا الشأن الكفاية إن شاء الله تعالى.



ومقصودنا من نفي الخلو أعمّ من مباشرة المعصوم بنفسه لهذا الدور، فلئن كان ثمة مانع يمنع المعصوم من هذه المباشرة أوكلها إلى خواص أصحابه لئلّا يخفت هذا الصوت أو ينقطع، كما قد علمتَ من جوابنا الأول. وهذا - أعني اشتهار اشتغال أصحاب الأئمة بالطعن - ليس بوسع أحدٍ المنازعة فيه، فلقد بلغ من الاشتهار مبلغ أن تتحدث به ربّات الحجال وتتناجاه إماؤهن، حتى كان من قول الأمَة الثقفية لامرأة الباقر عليه السلام حين أخبرتها بزواجها منه: «إن لذلك أصحاباً بالكوفة؛ قومٌ يشتمون السلف ويقولون» كما في رواية زرارة في الكافي الشريف.



وأما رواية سُليم فأعد قراءتها لتدرك الخطأ في ما ذهبتَ إليه من دلالتها على أن عامة سيرة أمير المؤمنين عليه السلام كانت في التقية حتى تركها ذلك اليوم، إذ لا يصح ذلك مع ما تقدّم في الرواية ذاتها من قول الأشعث لعنه الله غاضباً: «فما منعك يابن أبي طالب حين بويع أبو بكر أخو بني تيم وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهم أن تقاتل وتضرب بسيفك؟! وأنت لم تخطبنا خطبة مذ كنتَ قدمت العراق إلا قلتَ فيها قبل أن تنزل عن المنبر: والله إني لأولى الناس بالناس، وما زلتُ مظلوماً مذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله! فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك»؟! ودلالة ذلك إنما هي على أنه عليه السلام لم يعمل بالتقية إذ طعن على أبي بكر وعمر وعثمان في كل خطبة. فإن قلتَ: قد كان بلسان التعريض كقوله: «مازلتُ مظلوماً»؛ قلنا: هَبْ ذلك فإنه سواء في تحقق أثر الطعن إذ لولاه لما غضب ابن قيس وأمثاله كما نصّت عليه الرواية، ولما استغله معاوية في تأليب الناس على القتال كما مرّ، فلا تقية إذن.



وها هي خطب وبيانات أمير المؤمنين عليه السلام مذ قَدِمَ العراق بين أيدينا، لا تخلو من المطاعن على أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة بأساليب شتى، فيها الصريح الذي لا تعريض فيه، كقوله عليه السلام: «اللهم اجزِ عمر؛ لقد ظلم الحجر والمدر»! وقوله وقد سُئل عن أبي بكر وعمر: «لا بحقٍّ أخذا! ولا على إصابة أقاما! ولا على دين مضيا! ولا على فتنة خشيا»! وقوله لأهل الكوفة: «ولاذ أهل البغي بعائشة! فقُتل حولها من أهل البصرة عالم جسيم، وضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا، فما كانت ناقة الحجر بأشأم عليهم منها على أهل ذلك المصر، مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها ربها ونبيها، واغترارها في تفريق المسلمين، وسفك دماء المؤمنين، بلا بينة ولا معذرة، ولا حجة ظاهرة».



ومن هذا يُعلم أن سُليماً ما عنى من ترك أمير المؤمنين عليه السلام التقية يومذاك ما ذهبتَ إليه، بل عنى أنه عليه السلام حين شرع في شرح ما جرى؛ باح به وتوسّع (فيه) بلا تقية. دقّق في قوله: «لما كشف أمير المؤمنين عليه السلام للناس من الغطاء وأظهر فيه من الحق وشرح فيه من الأمر وألقى فيه من التقية».



وأما مقولة أن الأئمة عليهم السلام حين كانوا يذكرون أسماء أئمة الكفر والنفاق يكتفون بما عددتَه نقداً، وحين يسبّون ويطعنون لا يذكرون الأسماء، وهم مع ذلك كله في غير ظرف التقية؛ فمقولةٌ لا يُصغى إليها بعد مطالعة التراث الشريف وتفحّصه. ويكفي في ردها مطالعة سريعة لكتاب تقريب المعارف مثلاً، لخليفة المرتضى في زمانه الشيخ أبي الصلاح الحلبي رضوان الله تعالى عليه، إذ عقد في كتابه لكل إمام فصلاً أدرج فيه ما رُوي عنه من المطاعن الصريحة على أبي بكر وعمر، حتى قال: «وتناصر الخبر عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد عليهم السلام من طرق مختلفة، أنهم قالوا كلٌ منهم: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من زعم أنه إمام وليس بإمام، ومن جحد إمامة إمام من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا. ومن طرق أخر: أن للأوليْن. ومن آخر: للأعرابي في الإسلام نصيبا. إلى غير ذلك من الروايات عمن ذكرناه. وعن أبنائهم: أبي الحسن موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي ابن محمد والحسن بن علي عليهم السلام، مقترناً بالمعلوم من دينهم لكل متأمل حالهم، وأنهم يروْن في المتقدمين على أمير المؤمنين ومن دان بدينهم أنهم كفار»!



ومن الطريف استشهادك برواية عن الرضا عليه السلام زعمتَ أنها في غير مقام التقية مع أنها كذلك لمكان ابن البرمكي وتعرّضه، وحسبتَ أن فيها اكتفاءً بنقد أبي بكر وعمر، ثم بنيتَ على ذلك أن هذه طريقة الأئمة، وأهل العالم الثاني ماضون عليها!



أقول: لئن كانت بيدك رواية هنا؛ فإن بأيدي خصومك من أهل العالم الأول روايات وروايات! والمقام هو المقام إذ السؤال عن أبي بكر وعمر لعنهما الله؛ فكيف أجاب الأئمة عليهم السلام؟



خذ مثلاً ما عن أبي إسحاق قال: «صحبت علي بن الحسين عليهما السلام بين مكة والمدينة، فسألته عن أبي بكر وعمر ما تقول فيهما؟ قال: ما عسى أن أقول فيهما، لا رحمهما الله ولا غفر لهما»!



وما عن أبي علي الخراساني، عن مولى لعلي بن الحسين عليهما السلام قال: «كنت مع علي بن الحسين عليهما السلام في بعض خلواته، فقلت: إن لي عليك حقا، ألا تخبرني عن هذين الرجلين، عن أبي بكر وعمر؟ فقال: كافران، كافر من أحبهما»!



وما عن أبي حمزه الثمالي قال: «قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام وقد خلا: أخبرني عن هذين الرجلين؟ قال: هما أول من ظلمنا حقنا، وأخذا ميراثنا، وجلسا مجلسا كنا أحق به منهما، لا غفر الله فما ولا رحمهما، كافران، كافر من تولاها»!



وما عن سورة بن كليب قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن أبي بكر وعمر؟ قال: هما أول من ظلمنا حقنا، وحملا الناس على رقابنا. قال: فأعدت عليه، فأعاد عليَّ ثلاثاً، فأعدت عليه الرابعة فقال:

لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا

وما عُلِّمَ الإنسان إلا ليعلما».



وما عن عن كثير النوا، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن أبي بكر وعمر؟ فقال: هما أول من انتزى على حقنا، وحملا الناس على أعناقنا وأكتافنا، وأدخلا الذل بيوتنا»!



وما عن قدامة بن سعد الثقفي قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن أبي بكر وعمر؟ فقال: أدركت أهل بيتي وهم يصيبونهما»!



وما عن أبي الجارود قال: «سئل أبو جعفر عليه السلام عنهما وأنا جالس؟ فقال: هما أول من ظلمنا حقنا، وحملا الناس على رقابنا، وأخذا من فاطمة عليها السلام عطية رسول الله صلى الله عليه وآله فدك بنواضحها، فقام ميسر فقال: الله ورسوله منهما بريئان»!



وما عن ورد بن زيد أخي الكميت قال: «سألنا محمد بن علي عليهما السلام عن أبي بكر وعمر؟ فقال: من كان يعلم أن الله حكم عدل برئ منهما، وما من محجمة دم تهراق إلا وهي في رقابهما»!



وليس من الصواب التقاط رواية واحدة لعلي بن أسباط وإغفال أو إهمال كل هذه الروايات الكثيرة لرواة كُثُر، فإن هذه الكثيرة أصدق في بيان (طريقة الأئمة) من تلك الواحدة التي عرفت خروجها مخرج التقية.



وهذا القدر كافٍ في إبطال دعوى أن الأئمة عليهم السلام حين تُذكر الأسماء كانوا يكتفون بالنقد دون الطعن والسب، ولا سيّما مع إذاعة الباقر عليه السلام السرّ وكشفه جريان هذا السب من أهل البيت كما في قوله: «أدركت أهل بيتي وهم يصيبونهما»! وكذا الصادق عليه السلام كما في قوله: «نحن معاشر بني هاشم نأمر كبارنا وصغارنا بسبّهما والبراءة منهما»!



ولك أن تقدّر ما انطوت عليه هذه الإذاعة من الأئمة عليهم السلام من مخاطر ومحاذير وما استتبعته من تضحيات دموية من شيعتهم حتى بلغتنا على النحو الذي مرّ من الصراحة والإعلان، ولا سيما أن فيمن باح الأئمة له بالسرّ مَن لا يؤتمن، ككثير النواء لعنه الله، أحد زعماء البترية الخبيثة، الذي كان من قول أخي الباقر عليه السلام له في محضره وقد جرى ذكر أبي بكر وعمر: «هلمَّ إليَّ، أقبل إليَّ يا كثير، كانا والله أول من ظلمنا حقنا، وأضغنا بآبائنا، وحملا الناس على رقابنا، فلا غفر الله لهما، ولا غفر لك معهما يا كثير»!



وهذا يرد أيضاً توهم أن الأئمة كانوا لا يذكرون الأسماء في الطعن واللعن في ما هو مقول ليُعلَن عنه ويُذاع، فها قد أُذيع وهم عليهم السلام يعلمون وقوع ذلك عاجلاً أم آجلاً بتعليم الله تعالى لهم. والقياس على زيارة عاشوراء قياس فاسد، إذ المقام مقام التعبد وليس كمقام البيان الذي نحن فيه حيث الروايات فيه صريحة، على أن في مقام التعبد ما كان صريحاً أيضاً في اللعن بالأسماء، فلقد سمع الحسين بن ثوير وأبو سلمة السرّاج الصادق عليه السلام وهو يلعن في دبر كل مكتوبة أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعائشة وحفصة وهند وأم الحكم «ويسمّيهم» كما في الكافي والتهذيب. وأما زيارة عاشوراء فالأمر فيها غيبي، فلقد حُجب فيها اسم معاوية في اللعن الأخير واكتُفي بالتعبير عنه بالرابع، مع تقدّم لعنه صريحاً في قوله عليه السلام: «اللهم العن أبا سفيان ومعاوية»، ما يعني سقوط كل افتراض في تفسير حجب أسماء المخصوصين باللعن الأخير، كافتراض التقية ونحو ذلك.



وأما سؤالك عما عدا مما بدا؛ فيحتاج جوابه إلى بيان طويل - بالحقائق والوقائع - يميط عنك تصور بقاء أوضاع الشيعة على ما كانت عليه مما كان يضطرهم إلى الموادعة والانكماش، ويقرِّبُ لك حقيقة أنهم اليوم في موضع من المُكنة الكامنة التي لا تقاوَم إنْ خرجت، ذلك لأن التطورات التي طرأت على العالم أجمع أحدثت قوة دافعة نحو الحرية وسيادة حقوق الإنسان، والتي منها الحق في النقد والحرية في الرأي والتعبير. وليس يمكن مقاومة هذه القوة الدافعة لأنها أضحت قانون العالم اليوم وصياغته العصرية، ويبقى أن يقتنصها ويستفيد منها كل شعب مقهور وكل طائفة مغلوبة وكل فئة مأسورة، فإنها إذا فعلت؛ كسرت قيودها ونالت حريتها وكرامتها وأمنها وإنْ بعد تضحيات هي أقل في مجموعها من تضحياتها في استصحاب ما كانت عليه، أما إذا لم تفعل فالملامة واقعة عليها إذ تفرِّط بهذا القوة الدافعة وتعزل نفسها عن هذا التحول البشري العظيم إلى مزيد من الحريات والحقوق.



وما يبعث في النفس الأسى أن جميع شعوب الأرض وطوائفها تتجه اليوم إلى اتجاه واحد نحو نيل مزيد من الحقوق والحريات، ساعيةً نحو مزيد من التمدد والانتشار، جاهدةً لتحقيق مزيد من الهيمنة والاستعلاء، مستفيدةً من هذا الزخم العالمي منذ بدأ ولم يجعل لأحد عذراً في تكبيل حريات الناس ومنعهم من الكلام. أقول: إن الجميع يتجه إلى هذا الاتجاه إلا الشيعة! فهم وحدهم لا يتجهون إليه، ولا يسعون هذا السعي، ولا يستفيدون من هذا الزخم، بل يسيرون رجعياً كمن يسبح عكس التيار! يحبسون أنفسهم عن الانعتاق بحجة التقية والخوف من ردة فعل الآخر رغم ما لهم من أسباب القوة الولّادة! فصار مثلهم في هذا كمثل السجين القوي يُقال له وقد تهلهل أمر السجن: اكسر قيدك واخرج فقد فعل ذلك السجناء الآخرون رغم ضعفهم ونجحوا ولم يصبهم سوى بضع جروح، فيقول: كلا! أخاف السجّان ولا طاقة لي بالخدوش! بل أُحكِم قيدي وأقبع في زنزانتي ثاوياً في زاويتي!



وما يُخاف من (نتائج كارثية) جرّاء تحرر الإنسان الشيعي وانطلاقته القصوى في ميدان إبداء الرفض وإعمال النقد والهجوم؛ ليس له واقع منذ أن خيّمت على العالم مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، بل منذ بدأت سراية هذه المفاهيم في منطقتنا، لا لأن هذه المفاهيم مطبّقة بالفعل؛ بل لأنها فرضت نمطاً جديداً من التنشئة الفكرية لدى البشر انعكس على نمط الحكم والإدارة ولو على سبيل الإلجاء ونزع القدرة، فلم يعد ممكناً اليوم معاقبة طائفة بأكملها بالإبادة أو التعذيب والحرمان كما كان يحصل سابقاً لمجرد أنها تبدي رفضها للسائد من العقائد وتهاجمها، ولا تجرؤ أية حكومة قائمة اليوم على فعل ذلك مهما بلغت من عتو، بل تضطر إلى التكيف معه، فينصاع الشعب المحكوم لها ويتكيّف هو الآخر بدوره ولو بعد حين، خاصةً إذا لم يختلط الأمر بالسياسة وتقاطعاتها.



هذا حيثما توجد حكومة، أما حيث لا توجد ويكون السائد هو الانفلات الأمني كما في مناطق الصراع التي يسودها الإرهابيون؛ فإنه لا فرق فيها بين الكلام والسكوت، والإقدام والإحجام، فحتى لو التزمت طائفة ما بالسكوت المطبق وأحجمت عن أي تعرّض فإنها سوف تُباد على أيدي الإرهابيين ما لم تتبع ملتهم وتنزل على طاعتهم. مثال ذلك ما جرى للطائفة الإيزيدية في العراق، فإنه لم يُعهد منها أي تعدٍّ على عقيدة المسلمين ورموزهم، ورغم هذا فإنه ما إنْ سيطرت جماعة (داعش) الإرهابية على مناطق الإيزيديين حتى أوقعت فيهم الإبادة الجماعية، وبيعت نساؤهم في سوق النخاسة. وإذا عقلتَ هذا تعقِلُ أنه لو فُرض عدم انبثاق هذا التيار الرافضي عن أهل العالم الأول في الأمة الشيعية؛ لما كان هنالك كثير فرق في الآثار والنتائج السلبية.



لقد كان ممكناً في ما مضى تعرّض الشيعة لإبادة طائفية بسبب كتاب نُشر وفيه النيل من رموز المخالفين، كما حكينا لك عن كتاب (حياة القلوب) للعلامة المجلسي قدس سره الذي دفع حاكم أفغانستان يومها بتحريض من قضاة المخالفين وفقهائهم لارتكاب تلك المذبحة في حق الشيعة الأفغان. أما اليوم فهذا غير ممكن، فها قد صدر كتاب (الفاحشة) وطُبع ونُشر في عدة أقطار عربية. ومع أن هذا الكتاب أخطر بكثير من (حياة القلوب) لأنه يشتمل على إثبات وقوع عائشة في الزنا، ورغم أن صدوره جاء في حقبة ملتهبة بأضعاف عما كانت عليه أفغانستان في الحقبة المذكورة؛ إلا أنه لم يدفع قضاة المخالفين وفقهائهم للاجتماع وإصدار فتوى بإهدار دم الشيعة وتحريض الحكام على إبادتهم، لا لأنهم لا يريدون ذلك؛ بل لأنهم لا يملكونه، ويعلمون من حكّامهم عجزهم عن تنفيذه لأن العالم قد تغيّر! فاقتصرت ردود فعلهم على الصياح والعويل ومحاولة تغطية ما انكشف من عورات أمهم الحميراء ليس إلا. وأما الحكومات فكان أقصى ما قدرت عليه هو ما فعلته حكومة آل خليفة، حين ألقت القبض على بعض مَن قيل أنهم نشروا الكتاب في البحرين، وسجنتهم، ثم أفرجت عنهم. فلا نرى ههنا شيئاً من (النتائج الكارثية) المدّعاة! كما لم يرها أحد يوم أصدر السيد محمد كاظم الكفائي قدس سره كتابه عن الزهراء عليها السلام قبل أكثر من ستين سنة، وقد أثار في عموم العراق ضجة عارمة وسخطاً كبيراً لدى أهل الخلاف لما اشتمل عليه من الطعن الصريح على أبي بكر وعمر، حتى سُجن السيد وصدر عليه حكم الإعدام قبل أن يُفرج عنه بعد تدخل محمد حسين آل كاشف الغطاء وإرساله البرقية المعروفة لنوري السعيد رئيس الوزراء. أقول: لم تقع يومذاك مذبحة بحق الشيعة بل ولا خُدِش شيعي واحد رغم اشتعال نفوس أهل الخلاف جراء صدور هذا الكتاب، وما ذلك إلا لبدء سريان تلك المفاهيم الجديدة في تلك الحقبة، وهي كفيلة بصدّ الجنوح للعنف الشامل الكارثي.



وإنْ لم يلحظ العاقل هذا التغيّر عما كان عليه الوضع في السابق؛ فعلى عقله السلام! فهذا هو ما عدا مما بدا.



هذا هو الإجمال، وأما التفصيل فلا مجال. فقد كان هذا كله إلى ههنا جواب (أولاً) فقط! لذا فإنه لا مناص - والانشغالات كثيرة - من أن نُعرض عن التفصيل في أجوبتنا عمّا تلاه مكتفين بلوامع من القول عسى أن تستثير دفائن العقل، وإلا صار جوابنا كتاباً من أبواب وفصول وأجزاء!





● جواب ثانيا: لسنا ندفع فروض التقية وهي كثيرة، ومنها الذي ذكرتم من تعريض المؤمنين للضرر. إلا أن المدفوع هو وجوب التقية أو رجحانها مع إحراز الغلبة التي تقدّم بيانها حكماً وموضوعاً اعتماداً على رجحان المصلحة الدينية على المفسدة. فراجع وتأمل تعرف أن الروايات الدالة على منظورية الضرر المتوجه إلى المؤمنين؛ لا دخل لها في فضّ النزاع لأجنبيتها عن محله ودورانها مدار الحالات الفردية المنفكة موضوعاً عن موضوع التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



والحصر مغلوط لما سبق بيانه من حتمية دخول الضرر في التبليغ حُكماً وجواز ذلك ما دام مستهلَكاً موضوعاً في المصلحة الدينية، سواءً كان الضرر واقعاً على شخص المبلّغ أم غيره. وأما الجمع بالاحتياط فلا يصح على ما ذكرتموه، بل يصح من جهة قياس المصلحة الدينية بالمفسدة وتكاسرهما على النحو الذي تقدّم «فلرُبَّ سبيلٍ كانت فيه المصلحة للدين مع أن الأضرار أكثر، ولرُبَّ سبيلٍ كانت فيه المفسدة للدين مع أن الأضرار أقل. فالمقدَّم هو الأول». وقد تقدّم أيضاً أن المفسدة مظنونة في أحسن فروضها، فيما المصلحة مقطوعة، ولا تقاوم تلك هذه، فمنهجنا إذن في مأمن من الإشاطة بدمائنا ودماء إخواننا، والحمد لله تعالى.



وأما ما أشرتم إليه في الهامش من تشنيعنا على أحد الخطباء؛ فهو في محله، ذلك لأن ما توهمتوه من وحدة المضمون بين الرواية التي نقلتموها والرواية التي زعمها باطل، فإن التي نقلتموها ونظائرها إنما خوطب بها غير المبلِّغ لغير أهل العناد، فحُذِّرَ من ترك التقية التي تستجلب ضرراً على نفسه وعلى إخوانه. راجع الرواية تجد فيها: «ولا تُبدِ علومنا لمن يقابلها بالعناد». أما التي زعمها ذلك الخطيب فقد خوطب بها المبلِّغ لغير أهل العناد، لمكان أهل الكوفة، ويؤكده ضربه المثل بخطيب يلعن في كربلاء المقدسة فيُقتل بسببه خلق في الحجاز. فأين هذه من تلك؟! وكيف صار النهي عن التبليغ حيث المصلحة منعدمة والمفسدة مترتبة بسبب عناد المبلَّغ مساوقاً للنهي عن التبليغ حيث المصلحة مترتبة والمفسدة منعدمة أو مندكّة في الأولى بسبب قابلية المبلَّغ واستعداده لقبول الحق؟! دقِّق تدرك.



ومهما يكن؛ فإن التساهل وعدم التثبت في نقل ما لم يُروَ عن المعصوم عليه السلام ونسبته إليه معصية بالاتفاق؛ وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: «نظام المروّة في مجاهدة أخيك على طاعة الله سبحانه وصدّه عن معاصيه وأن تُكثر على ذلك ملامه» والمجاهدة والصدّ وإكثار الملامة؛ كل ذلك يقتضي تشنيعاً وخشونة إذ لا يتحقق - عادةً - الصدُّ في مثل المقام إلا بهما، كما لا يتحقق - عادةً - عصم النفوس من الاعتقاد بالمقالة الباطلة إلا بهما، وعلى ذلك جرت سيرة الأماجد من أصحابنا حتى مع أهل الحق والدين.



قال المحقق الكركي رضوان الله تعالى عليه: «وأما ما يصدر عن أهل الحق وعلماء الدين في المسائل الباطلة والآراء الفاسدة؛ فيجوز ذكره والقدح في صحته وبيان دلائل بطلانه، ولو استدعى المقام التشنيع على قائله والخشونة في رده لعصم النفوس من الاعتقاد به جاز».



فليكن الذي كان منا من ذاك، ونسأل الله سبحانه القبول وأن يكتبنا وإياكم من ذوي المروءة الذين لا يسكتون حين يسمعون ما لم يقله آل محمد عليهم السلام يُنسب إليهم على المنابر عن تساهل واستهتار! وتدفع الأجيال ثمن هذه الخطايا جهلاً وضياعاً وانحرافاً!



ثم العجب منكم أخذكم علينا التشنيع على هذا الخطيب في نسبته قولاً لآل محمد عليهم السلام ما قالوه؛ ولم تأخذوا عليه وصفه للذي يمضي على طريقة أهل العالم الأول بالأحمق! ولعل من الطريف في الأمر أن هذا الخطيب نفسه قد وقع في الذي كان يحذّر منه ويقبّحه! إذ سُمع على منبر البصرة يصف طلحة والزبير وعائشة بأنهم مزابل! الأمر الذي أثار حفيظة أهل الخلاف حتى طردوه أخيراً من الكويت حيث كان مدعواً للخطابة هناك. فلعلّ هذا التغيّر النوعي في لهجته كان بتأثير لومنا إياه في ما مضى، فلئن كان كذلك، فنسأل الله تعالى أن يكون عدوله إلى سبّ عائشة وأمثالها كفّارة لما كان منه سابقاً من تقبيح لهذا العمل، وأن يكون إعلاناً بانضمامه إلى أهل العالم الأول، وإلا فقد بانَ مَن هو الأحمق إذ ينهى عن فعلٍ ثم لا يلبث أن يرتكبه! نعوذ بالله.





● جواب ثالثاً: قد التبس عليكم ما عنيناه، فإن قولنا بتوزيع الأدوار له وجهان. أولهما؛ أنه لا يمكن تحقيق هدف هدم الباطل إلا به، لأن هنالك أناساً لا عاطف لقلوبهم إلا الكلام الليّن، كما أن هنالك أناساً لا موقِظَ لضمائرهم إلا الكلام الخشن، فالمطلوب كلاهما. راجع متفضّلاً جوابنا على السؤال الموجه إلينا منذ أكثر من سبع سنوات في (القطرة) تحت عنوان: «هل نغير أسلوبنا في المنتديات الحوارية»؟ وكان الجواب: «يجب توزيع الأدوار وتنويعها، فيكون قسم كأبي ذر، وآخر كسلمان، رضوان الله تعالى عليهما، وبهذا يتحقق الهدف في كسر عقيدة الخصم، لا بالاقتصار على لون واحد فإنه لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة».



ثانيهما؛ أن استفراد أسلوب تبليغي من الأسلوبيْن بالساحة ينطوي على مخاطر، أما أسلوب أهل العالم الأول فيوهم المخالف أن لا مرونة لدينا، وهذا خطر إذ قد يدفعه إلى الصدام. وأما أسلوب أهل العالم الثاني فيوهم الخصم أن لا رادع لدينا، وهذا أيضاً خطر إذ قد يدفعه إلى التمادي، وقد دفعه بالفعل إذ كان هذا الأسلوب هو المستفرد، فظن المخالف أن الشيعة خائرو القوى وتجبَّر عليهم. فالمطلوب كلاهما، حتى إذا سمع المخالف أهلَ العالم الأول وتوهّم أن لا مرونة عند الشيعة وجدها عند أهل العالم الثاني فهدأت نفسه، وحتى إذا سمع أهلَ العالم الثاني وتوهّم أن لا قوة عند الشيعة وجدها عند أهل العالم الأول فالتجمت نفسه.



فالخطر إذن إنما يمكن تصوّره في حال (الاستفراد)، أما في حال (الاجتماع) فالأمة في مأمن منه إن شاء الله تعالى. وهذا ما يُستفاد من حكمة الأئمة عليهم السلام مع أصحابهم، حيث أمروا فئة منهم بمخاصمة أهل الخلاف وأخرى بمداراتهم.



أما وقد علمنا بأن أسلوب أهل العالم الأول لن يستفرد، وأنه لن يعدم صوتاً مبايناً له في الداخل الشيعي، وأنه يأتي متماشياً مع سير العالم إلى مزيد من الحرية والحقوق، ومع ظروف ومتغيّرات أعطت للشيعة نصيباً من القوة الكامنة بمقدار ما روَّضت مخالفيهم؛ فإن الخوف من وجود صوت أهل العالم الأول لا يعدو كونه من (الفوبيا) التي نعلم. راجع متفضلاً جوابنا السابق لك وفيه: «والحال ليس كذلك؛ إذ لا بد من التحليل والتفكيك، وبعدهما يتضح أن هذا المنهج بمجرده لا يشكل عند المخالف العقدي محفزّاً لقتل الشيعة اليوم، وذلك لأسباب عديدة تحول دون ذلك، منها: ضعف هذا المخالف العقدي في نفسه، وظروف عالمية أو إقليمية تقيّده وتروّض نفسه على تقبّل الآخر كما هو، مضافاً إلى اكتفائه بما يبديه خصوم هذا المنهج من الداخل الشيعي من إدانة له وأنه لا يمثل الشيعة وهم منه بريئون، وهو مما يُشعر المخالف في نفسه رضاً وارتياحاً يحجزه عن ارتكاب أي فعل إجرامي خارجٍ عن الأطوار في حقهم».



إذا أدركتَ هذا تدرك أن لا خطورة من وجود منهج أهل العالم الأول، وأما تمدده فيفترض أن تفطن إلى أنه لا يتحقق شيء منه إلا مع تحقق الشيء الكثير من (المغالبة والمكاثرة) واجتياز مرحلة (تكوين البيئة المحفّزة) إلى مرحلة (الهيمنة)، وعندئذ ينتفي موضوع الخطر كما انتفى حين فتح مكة، وإن ذلك لكائن من جديد إن شاء الله تعالى. على أننا لن نسمح - على الأغلب - حتى في تلك المرحلة باستفراد منهجنا، لا لأجل احتمال الخطر إذ قد انتفى؛ بل للوجه الأول الذي تقدّم وهو توزيع الأدوار وتنويع الخطاب بغرض هداية الناس على اختلاف مشاربهم وأذواقهم. وبهذا تعلم أنّا بحمد الله أعلى كعباً من أن تصيبنا (الفوبيا).



وليت الذين وصفتَهم بالحمائم يسعون إلى منع تمدد تيارنا فحسب، فإنهم في واقع الأمر يسعون إلى قتله والقضاء عليه والاستفراد بالأمة ومصيرها، مع دناءة في النفس تحملهم على رمينا بكل عظيمة من الزور والبهتان، كالتي نقلتموها من قذفنا بالعمالة للاستعمار! أو كالتي قيل فيها أنّا من الخوارج وحُلِّيَت بطرفة: «انت تريد تقتل أبويه»! فهؤلاء الذين يسعون إلى القتل والقضاء والاستفراد بلا خوف من الله ولا تورّع عن المحرّمات؛ ليس لهم عندنا إلا ما للحميراء عند أبي الحسن عليه السلام من التأديب والعقاب وضرب الحجاب. وأما الذين يسعون إلى (منع التمدد) لاختلافهم معنا في الاجتهاد مع التزامهم بالاحترام والمروءة في التنافس وعرض البضاعة؛ فلهم عندنا ما للصدوق عند المفيد من الإعذار مع الرد والانتقاد.





● جواب رابعاً: الأعجب من تعجبكم من نقضنا؛ دعواكم أنكم ما سمعتم إماماً يدعو إلى التقية في شعائر الحسين عليه السلام وزيارته! وأنه كيف خفي عنا مثل هذا وأشكلنا بهذا الإشكال! مع أن الذي خفي إنما هو عنكم لا عنا! فالروايات الآمرة بمراعاة التقية في هذا الشأن ماثلة أمام الأعين، فراجع الباب الثامن والتسعين من كامل الزيارات تجد فيه مثلاً: «عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن زيارة قبر الحسين عليه السلام. قال: في السنة مرة، إني أخاف الشهرة». وتجد فيه: «عن عامر بن عمير وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ائتوا قبر الحسين عليه السلام في كل سنة مرة». وتجد فيه: «عن عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت: إنّا نزور قبر الحسين عليه السلام في السنة مرتين أو ثلاث، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أكره أن تُكثروا القصد إليه، زوروه في السنة مرة».



ثم إن هذا الزائر الذي يزور في السنة مرة لمكان التقية والخوف من الشهرة عند الظالمين؛ يوصيه الإمام عليه السلام بأن يقتصر على أقل الزيارة بما لا يتجاوز نصف دقيقة، فقد جاء في الباب الخامس والأربعين: «عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: جُعلت فداك؛ زيارة قبر الحسين عليه السلام في حال التقية؟ قال: إذا أتيت الفرات فاغتسل ثم البس أثوابك الطاهرة، ثم تمر بإزاء القبر وقل: صلى الله عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك يا أبا عبد الله. فقد تمت زيارتك».



وقد تجد الإمام عليه السلام يُعرِض عن الإسهاب في ذكر فضائل الزيارة وآثارها اتقاءً على شيعته كيلا تأخذهم الحماسة فيُجهدون أنفسهم في الزيارة ويعرّضون أنفسهم للقتل مصلوبين على الخُشُب، كما دلّت عليه رواية يونس وفيها: «يا يونس ، لو أخبرت الناس بما فيها لمن زار الحسين عليه السلام لقامت ذكور الرجال على الخُشب»!



فكيف بعد هذا يقال أنّا ما سمعنا إماماً يدعو للتقية في قضية الحسين عليه السلام وشعائره وزيارته؟! فتارة يأمر الإمام عليه السلام بعدم الإكثار من الزيارة خوف الشهرة، وأخرى بتقليل شعائرها وأدائها لمكان التقية، وثالثة يُعرض عن بيان فضائلها لكيلا يتسارع الناس إليها فيُقتلون أو يُصلبون، فأيّ معنى لهذه الروايات سوى مراعاة التقية؟! ولذا ذهب العلامة المجلسي عليه الرحمة إلى عدم جواز الزيارة مع الخوف لعمومات التقية والنهي عن إلقاء النفس في التهلكة، وحَمَل الروايات التي تحث على الزيارة مع الخوف على الخوف الضعيف مع ظن السلامة، أو خوف فوات العزة والجاه والمال لا تلف النفس والعرض، فراجع كلامه في المجلد الواحد بعد المئة من بحاره.



وأزيدك؛ إن الروايات الدالة على مراعاة التقية ههنا أقوى - بحسب الصنعة - من تلك التي تدل على جواز إهمالها، فإن هذه فيها الصحيح سنداً، فيما تلك تفتقر إليه. وهذه موافقة للأصول والقواعد، فيما تلك تخالفها.



هذا؛ وبإجراء قاعدة (وحدة المناط) إنما يُحكم بمطلوبية إحياء استشهاد النبي الأعظم وسائر المعصومين عليهم السلام على نحو ما تُحيى به شهادة الحسين عليه السلام، مع أن ما باليد فعلاً من شعائر في الروايات والأدلة على ذلك النحو إنما هي تخص الحسين عليه السلام كما هو معلوم. وبإجراء القاعدة ذاتها يُحكم بجواز ترك التقية في بيان مظلومية النبي صلى الله عليه وآله المقتضي للنيل من قتلته كما يجوز ترك التقية في بيان مظلومية الحسين عليه السلام المقتضي للنيل من قتلته. وإلا فموازينكم مختلة يا قوم! وعليه فإن إشكالنا بحمد الله تام ونقضنا عصيٌّ على الإبرام.





● جواب خامساً: كل ما بنيتم عليه حتى لا تسلّموا؛ فيه: أن الكلام ليس في الشباب، بل في القيادات، فهذه هي التي تحمل الأجندات فتخترع ما تشاء من مبررات تسوّغ القتل والإرهاب، أما الشاب فمهما بلغ به الغضب والحماس فإنه يتيه بلا حكومة ترعاه أو منظمة تؤويه وتدرّبه على القتل والتفجير والإرهاب، حتى وإن كانت البيئة بيئة فوضى وما من قبضة أمنية حاكمة، إذ أقصى ما يمكن أن يقع في مثل هذه البيئة فلتة هنا أو هناك، يُقتل بها أفراد كأي حادث جنائي، فلا (نتائج كارثية) ههنا، إذ تحقق هذه مرهون بوجود أجندة تحملها حكومة أو منظمة لها قيادات ترسم هذه المخططات وتعمل على تنفيذها كمنهجية عامة.



وما من حكومة معادية أو منظمة إرهابية اليوم نشأت كرد فعل على سب عائشة! بل كلها نشأت في سابق عهد قبل ظهور التيار الرافضي المجاهر بالبراءة، وقد نشأت وتكوّنت لأجندات سياسية معروفة، جاءت بعدُ تتخذ الذرائع لقتل الشيعة بسبب التدافع السياسي، ما يعني أنك مقتول في الحالتين، نطقت أم لا، لأن الذي يقتلونك عليه إنما هو في الحقيقة بروزك السياسي. اذهب واكمن في بيتك ولا تبرز سياسياً أو تسيطر حكومياً، ولن تُقتل حينئذ!



استولى خميني على السلطة في إيران أواخر السبعينيات، فمثّل ذلك بروزاً شيعياً سياسياً في المنطقة، قام على إثره في أوائل الثمانينات وهابي باكستاني يُدعى (ملا حق نواز الجهنگوي) بتأسيس ميليشيا (سپاه صحابة) أي جيش الصحابة، وأخذ يقتل الشيعة ويغتالهم في باكستان، مع أنهم ما كانوا يعلنون البراءة إلا على النحو الذي تعارفوا عليه في مجالسهم منذ عقود كما في التاسع من ربيع، فما عدا مما بدا؟ ولماذا أخذت هذا الوهابي الغيرة فجأة على صحابتهم ولم يكن تأخذه مثل هذه الغيرة أيام كان الشاه على رأس السلطة في إيران؟ هذا مع أن خميني ما كان يسب صحابتهم، بل كان يمتدح عمر ويعتبره مثالاً للعدالة والتواضع! بل لقد حرّم على نفسه التعرض لمعاوية بنصيحة من خامنئي كما يقول!



واستمرّت هذه الجماعة الإرهابية تقتل الشيعة طوال الثمانينيات والتسعينيات إلى أن انخرطت في تنظيم طالبان ولم يتوقف القتل، وكان ذلك قبل أن تكون في الوسط الشيعي ظاهرة قناة فدك أو هيئة خدام المهدي عليه السلام حيث تقيم الاحتفالات التي تنال من أبي بكر وعمر وعائشة! فما هو سبب تأسس تلك الميليشيا الإرهابية في ذلك العهد؟



السبب هو هذا البروز السياسي الشيعي الذي استفزّ أولاً الولايات المتحدة إذ لم يتوافق معها واتجه إلى روسيا، واستفزّ أيضاً أنظمة المخالفين بما سُمِّيَ تصدير الثورة، فالتقى الطرفان على محاربة هذا النظام الإيراني الجديد، فكان من نتائج ذلك حرب صدام التي شنّها على إيران، وتأسيس وتغذية الجماعات المعادية لها، وكان منها جماعة جيش الصحابة!



إذن؛ لو كان المراد تلافي (النتائج الكارثية) فقد كان ينبغي على خميني أن يقبع في بيته ولا يقوم بهذا العمل السياسي الذي جرّ على الشيعة ما جرّ من (نتائج كارثية) حقيقية، إذ كان سيبقى الشيعة في باكستان يسبّون عمر في مجالس فرحة الزهراء عليها السلام كما كانوا يفعلون ويعلم بذلك القاصي والداني من المخالفين هناك؛ دون أن يتحرك أحد منهم مهما بلغ به الغيظ لفعل أي شيء لأن لا حكومة أو منظمة تدفعه لذلك، وتوفر له السلاح والتدريب اللازم للقيام بالأعمال الإرهابية أو الإجرامية المنظمة. هذه هي الحقيقة، فأدركوها، وهي أن وجود الدافع العقدي بمجرده لا يكفي لتحويل الشاب منهم إلى إرهابي انتحاري، وإنما الذي يحوّله إلى ذلك هو من يحتضنه، وهو الباعث الأساس على تكوّن ذلك الدافع وتغذيته وتفعيله على أرض الواقع.



ثم إن كلامك عن الشباب الإرهابيين وقطعك بأن دوافعهم عقدية - على الأقل في البداية - يوهم وكأنك قد اختلطت بهم وسبرت أغوارهم! يا أخي! إن الأمر ليس بهذه البساطة التي تظن، ولا هو بخاضع للظنون والخيالات! أخبرني كم دراسة علمية عن واقع الإرهاب والإرهابيين قرأت؟ وكم ندوة علمية أو مناقشة أكاديمية عن ذلك استمعت؟ وكم بحثاً ميدانياً استطلاعياً في هذا الشأن طالعت؟ وكم كراساً للإرهابيين وبياناً لهم تصفّحت؟



قامت المؤسسة العالمية الشهيرة (غالوب) بإجراء بحث استطلاعي قبل بضع سنوات شمل خمسين ألف مسلم في خمس وثلاثين دولة، وأظهرت النتائج أن 93% من المسلمين يرفضون العمليات الإرهابية ولا يتعاطفون معها، و7% منهم أظهروا تعاطفاً معها واستعداداً لها، إلا أن المفاجئ في الأمر أن هؤلاء كانت دوافعهم ومبرّراتهم التي ساقوها سياسية لا دينية عقدية!



البروفيسور (روبيرت بيب) من جامعة تشيكاغو قام ببحث استطلاعي دقيق عن التفجيرات الإنتحارية، درس فيه ثلاثمئة وخمس عشرة حالة، انتهى فيها إلى النتيجة الصادمة التالية: «الجذر الأساسي لوقوع التفجيرات الانتحارية والعمليات الإرهابية مرتبط بالسلطة والسياسة ولا علاقة له بالإيمان أو الدافع الديني، الإيمان والدافع الديني مجرد غطاء»!



واليوم تتوالى الدراسات في الغرب عن أسباب انخراط الشبّان الغربيين في صفوف التنظيم الإرهابي (داعش)، ومن واقع المقابلات مع بعض هؤلاء الذين تم إلقاء القبض عليهم أظهرت النتائج أن أسباب تمكّن هذا التنظيم من تجنيدهم وإقناعهم بالانضمام إليه إنما هي سياسية في المقام الأول، فهم يتحدثون عن الحروب الواقعة في المنطقة، والاحتلال في فلسطين، والتدخل الغربي في أفغانستان والعراق، ونهب ثروات المسلمين.. إلخ. أما الدراسات عن أسباب الاحتدام الطائفي في المنطقة وتصاعد الحوادث الإرهابية جرّاءه فكلها انتهت إلى إرجاع ذلك للعوامل السياسية، حيث الكلام عن سياسة نظام خامنئي وسياسة نظام آل سعود، والتطورات في العراق وسورية واليمن والبحرين، وما إلى ذلك. ولم تشر هذه الدراسات لا من قريب ولا من بعيد إلى أن من الأسباب ظهور التيار الرافضي المجاهر بالبراءة مع رصد أصحابها له، هذا التيار المظلوم الذي يُراد له عنوةً أن يكون المسؤول عن كل هذه المذابح من قِبَل مَن هم المسؤولون عنها واقعاً، أعني نظام خامنئي والدائرون في فلكه! ويكفيك كشاهد قريب أن ترجع إلى بيان (داعش) في تعليلها لحادث التفجير الإجرامي الذي وقع أخيراً في جامع الإمام الصادق عليه السلام في الكويت مخلّفاً أكثر من مئتي ضحية ما بين شهيد وجريح، حيث قالت فيه: «علماً أن هذا الوكر الخبيث منبر معروف بحربه للتوحيد وأهله، ونشر الشرك ونصرة حزب الشيطان»! فترى التركيز على العامل السياسي في دوافع هؤلاء الأوغاد إذ أشاروا إلى نصرة «حزب الشيطان» أي حزب حسن نصر الله المرتبط بخامنئي، ولم يشروا لا من قريب ولا من بعيد إلينا ولا إلى سبّنا لصحابتهم! ومع ذلك تجد مَن لا يخاف الله تعالى يحمّلنا وزر ذلك، كالذي نشرته قناة تُدعى (أهل البيت عليهم السلام) مرتبطة بآل المدرسي، حيث نشرت (تغريدة) التقطتها من موقع (تويتر) من شخص مجهول جعل على حسابه صورة علم (داعش) وقد كتب بضع كلمات يشمت فيها بالشيعة ويبارك التفجير، وكان أنْ ذكر اسمنا بالمناسبة، فطارت بذلك هذه القناة هجوماً علينا وسباباً لنا وإلقاءً بالتبعة علينا! فانظر بربّك إلى هذه الخسّة! أن يُتجاهل البيان الرسمي من ذلك التنظيم الإرهابي والذي يقول أن التفجير ردٌّ على ما يسمى بحزب الله ونصرته؛ ويؤخذ بكلام كتبه مجهول من آلاف المجاهيل على الإنترنت ليُقال: انظروا! (داعش) تقول أن التفجير ردٌّ على ياسر الحبيب! مع أن الذي كتب هذه (التغريدة) نفسه قد أتى على ذكر ما جرى لمن سمّاهم (أهل السنة) في الشام والعراق، وأن التفجير في الكويت إنما هو ليذوق الرافضة ما ذاقه أولئك بسبب (حزب الله) ونظام بشار والصفويين!



إن الفرق بيننا وبين الغرب، هو أننا حين نريد تفسير شيء لا نُجهد أنفسنا في البحث والتنقيب بل نسرح في خيالنا ونبني على الحدس، ثم نتمسك بالفكرة التي انتهينا إليها ونعاند فيها وكأنها حقيقة ثابتة مقطوعة! أما الغرب فإنه حين يريد تفسير شيء يوكل ذلك إلى المؤسسات البحثية العملاقة حيث كبار العلماء والخبراء والباحثين الأكاديميين، الذين يدرسون الأمور عن أحداث وشواهد حسية لينتهوا إلى نتائج واقعية دقّية، لا وهمية حدسية، ثم هي خاضعة عندهم للمراجعة في كل آن. لهذا تقدّم الغرب وتخلّفنا نحن!



وبعد هذا يأتي هذا الشيخ النصراوي الفقير إلى الله ليتكلم بكل بساطة عن أن دافع بعض الإرهابيين للإرهاب هو سب الشيعة لعائشة! ولا ينطق هنا عن ظن بل عن (قطع)! فلو علمت تلك المؤسسات العملاقة هذه الموهبة الفذة من سماحته في إصابة كبد الحقيقة بهذه البساطة لوفّرت على نفسها عناء كل تلك الدراسات المطوّلة والأبحاث المعقّدة والمقابلات الحية والاستطلاعات الميدانية ولاكتفت بأخذ الكلمة الفصل من هذا الشيخ وكان الله عفوّاً غفوراً!





● جواب سادساً: المناقشة ضعيفة لأمور.

منها؛ دخول الإعابة في السب لأنه مما يوجب الأذى. وقد ذكرنا لك قول صاحب مفتاح الكرامة رضوان الله تعالى عليه: «يدخل في السب كل ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد والتعيير بشيء من بلاء الله كالأجذم والأبرص». والقول بانفكاكهما لغةً فضلاً عن كونه غير ذي أهمية لأن المناط ههنا هو تحقق أثر الانتقاص والازدراء لا مادة اللفظ؛ مردودٌ باجتماعهما لغةً وعرفاً، ففي معجم اللغة: «شتَمَ يَشتُم ويَشتِم، شَتْمًا، فهو شاتم، والمفعول مَشْتوم. شتَم جارَه: سبَّه، عابَه، وصفه بما فيه نقصٌ وازدراء».



ومنها؛ أن (الذكر) في مثل قوله تعالى: ﴿أَهَـٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ وقوله: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ له ظهور عرفي في السب وسوء القول. لاحظ مثلاً رواية هشام ابن سالم قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل سبّابة لعلي عليه السلام؟ قال: فقال لي: حلال الدم - والله - لولا أن تغمز به بريئا. قال: قلت: فما تقول في رجل مؤذٍ لنا؟ قال: فقال: في ماذا؟ قال: فقلت: فيك يذكرك. قال: فقال لي: أَ لَهُ في علي نصيب؟ قلت: إنه ليقول ذلك ويظهره. قال: لا تعرض له». ترى أن قوله: «فيك يذكرك» ردفٌ لقوله: «سبّابةٌ لعلي عليه السلام»، فيكون معنى الذكر ههنا السب. وكذا هو المعنى في قوله عليه السلام: «ضربوكم على دم عثمان ثمانين سنة و هم يعلمون أنه كان ظالما، فكيف يا فروة إذا ذكرتم صنميْهم»؟! المفسّر بالوافي بـ «الإمساك عن ذكرهما بالسوء». وكذا هو المعنى في خبر الريان بن الصلت: «قلت للرضا عليه السلام: إن العباسي يُسمعني فيك ويذكرك كثيرا، وهو كثيراً ما ينام عندي ويُقيل؛ فترى أن آخذ عليه وأعصره حتى يموت ثم أقول: مات فجأة؟ فقال ونفض يديه ثلاث مرات: لا يا ريان» وهو مدرج في حكم السب للإمام في الكتب الفقهية كما في الجواهر، فيكون معنى «ويذكرك كثيرا» أي يسبّك كثيرا.



ومنها؛ أن المحتَكَم إليه في هذا المقام عُرف ذلك الزمان، وقد اتضح لك أنه رأى الخطاب القرآني الموجه إليه وإلى أصنامه سبّاً وشتماً، لأنه وإنْ كان بياناً لواقع إلا أنه ينطوي على انتقاص يوجب الأذى، ولا يمكن التفكيك بينهما في الأثر. وعليه؛ فلك أن تسمّيه ما شئت؛ سبّاً أم غيره، إلا أنه لا يسعك إنكار أنه أوجب في أثره أذى المشركين واستفزازهم وإلا كابرتَ على التاريخ. ومحل الخلاف بيننا وبينك أنه هل يجوز استعمال أسلوب يوجب أذى الغير واستفزازهم أم لا؟ فها قد ثبت الجواز، وأنه ليس ببعيد عن الحكمة ولا بحائلٍ عن الهداية، ولا يهمُّ بعدُ تسميته سبّاً أم غيره.



ومنها؛ أن اعتبار قصد الإهانة وإنشاء الهتك في صدق السب إنما هو في مقام ترتّب الآثار الشرعية على حرمة الفعل وتلبّس الفاعل به، كالحكم بالفسق على الساب ورد شهادته وتعزيره، فللحاكم إذا رُفع إليه شيء من هذا ولم يتبيّن له تحقق قصد الإهانة وإنشاء الهتك أن يميط الحكم عن المتهم، كأن يكون معلّماً قَصَد بلفظ السب تأديب المتعلّم على المعهود لا إهانته وهتكه وإيذاءه. أما في مقام تحقق فعل السب بما هو هو فلا يشترط فيه ذلك القصد لأن المناط حينئذ هو ما حمل انتقاصاً عرفاً وما أوجب أذىً فعلاً، ولذا لو تبيَّن للحاكم في المثال السابق أن المتعلّم صار يتأذى ويتألّم مما تلفظ به المعلّم تجاهه فإنه يحكم على هذا الأخير بالامتناع عنه وإنْ لم يكن قاصداً للهتك والإهانة، وما ذاك إلا لتحقق فعل السب وأثره وإن لم يتلبّس الفاعل وفعله بالحرمة لخلوه من القصد. قال الشيخ الأعظم قدس سره في المكاسب: «ومن هنا يوهن التمسك بالسيرة في جواز سب المعلّم للمتعلّم، فإن السيرة إنما نشأت في الأزمنة السابقة من عدم تألم المتعلّم بشتم المعلم لعَدِّ نفسه أدون من عبده، بل ربما كان يفتخر بالسب لدلالته على كمال لطفه. وأما زماننا هذا الذي يتألم المتعلم فيه من المعلم مما لم يتألم به من شركائه في البحث من القول والفعل، فحِلُّ إيذائه يحتاج إلى الدليل، والله الهادي إلى سواء السبيل».



ومنها؛ أن (لعل) هذه التي تتعلّل بها لتفسير عدم رد النبي صلى الله عليه وآله تهمة المشركين له بسب آلهتهم بنفي ذلك، وكذلك عدم رد الوصي ووالده عليهما السلام، بل وعدم رد سائر الناس مسلِمهم وكافرهم.. (لعل) هذه هنا ليس لها قيمة ولا تُباع ولا تشترى في سوق العلم! فإنْ كان لديك الدليل على النفي فقدّمه، أما الإكثار من الافتراضات بـ «لعلّه نفى ولم يبلغنا! ولعلّه لم ينفِ لئلا يُتوهَّم احترامه للأصنام! ولعلّه لسبب آخر!».. هذا الإكثار من (لعل) لا يؤدي إلى شيء، وهل هو إلا كـ (لعلّ) التي يُكثر منها أهل الخلاف في تفسير قول النبي صلى الله عليه وآله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»!



ومنها؛ عدم الكلام في وجود الفرق حكماً وموضوعاً بين السب واللعن، إنما الكلام في اجتماعهما بأن يأخذ اللعن حكم السب، وأنتم قد أقررتم بذلك، فغير المقرّ هو من صغار المتعلمين إذ لا يلتفت إلى هذا الاجتماع التعيّني. وعليه فلا موجب لعجبكم، إذ فتوى المرجع الروحاني دام ظله يفترض أن تكون أجنبية عن محل الكلام، إذ هي على بيان التعيين لا التعيّن، وكذا هو كلامنا في (الأمر الثالث) الذي استشهدتم به، إذ حاصله حمل النهي في الآية على خصوص التعيين لا التعيّن ليُصار إلى جواز ضربٍ من التوهين ليس هو من خصوص السب في شيء.



ومنها؛ أنه مع التنزل على إلحاق الأصحاب والعلماء والأتقياء بالأئمة عليهم السلام في حرمة الاستسباب رغم أنه ضعيف؛ فإن هذا المورد يكون من موارد التزاحم حين الاضطلاع بمهمة التبليغ، فتُلاحَظ فيه المصلحة الأهم، وليس ذلك من القول بالقضية الخارجية، إذ الحكم منصب هنا على التزاحم لا على خصوص الاستسباب ولا على خصوص التبليغ حتى يرد إشكال مخالفة الأصل. وعدم تسليمكم بترتب المصلحة الأهم في هذا المقام إمّا أن يكون بمعزل عن طروء التزاحم وأما أن يكون معه، أما في الأول فلا خلاف، وأما في الآخر فغريب إذ لا قائل بانعدام إمكان التزاحم في مثل هذا. وقد أبلغني قبل سنوات أحد السادة أنه سأل السيد المرجع دام ظله عن مسألة في هذا الباب، وهي أن بعض الشباب ينشرون أشياءً في ساحة الإنترنت ضد عقائد أهل الخلاف ورموزهم، ويفضي الأمر أن يكتب بعض النواصب تعليقات فيها سب لولي العصر والأئمة عليهم السلام، ناهيك عن المراجع والعلماء والأتقياء، فأفتى سماحته بالجواز لأن ذلك من موارد التزاحم حيث الأهمية للتبليغ في عصر تموج فيه الفتن والتحديات العقدية والفكرية كعصرنا. ولو رجعتَ إلى موقعه الرسمي لوجدت هذه الفتوى: «السؤال: ما مدى صحّة هذه الرواية (إيّاكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم) وما يتردّد فوق المنابر أو أثناء النقاش مع المخالفين أو في وسائل الأعلام الأخرى مثل المواقع الإلكترونية وغيرها؟ الجواب: هذا هو من التزاحم الذي قد يرجح ذاك الجانب كما كان في عهد المعصومين سلام الله عليهم، وقد يرجح الجانب الآخر كما في زماننا، لأن الهداية والإرشاد مهمّان جداً في الشريعة وقد يكون أمثال ذلك سبباً لليقظة المؤدية إلى الهداية والإرشاد. 4 شعبان المعظّم 1430». فاذهب إلى السيد المرجع واعترض عليه بأن ذلك قول بالقضية الخارجية وهو خلاف الأصل، وإلا فسلِّم تسلَم، رحم الله أمك وأباك ومرجعاً أفتاك!



ومنها؛ أنه قد تبيّن لك أنْ لا فرق بين اللعن والسب من جهة الأثر الذي يتركانه في نفس الملعون أو المسبوب، وبالتالي فلا فائدة كثيرة في نفي سب أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية وتثبيت لعنه إياه، إذ على فرض أن الصادر لعنه فقط فإنه مآلاً قد جرّ سبّاً في المقابل فصدق عليه الاستسباب. مع أن المدّعى في نفسه باطل، إذ ذكر التاريخ موارد عديدة فيها السب الصريح منه عليه السلام لمعاوية لعنه الله، منها مثلاً ما كتبه إليه من قوله: «وأنت الجلف المنافق، الأغلف القلب، القليل العقل، الجبان الرّذل»! وها أنا ذا أنصحكم ثانية بعدم إطلاق الأقوال قبل التثبت والمراجعة، فقد نفيتم من قبل أن الأئمة عليهم السلام حين كانوا يذكرون أسماء الأعداء يسبّونهم صراحةً مع أن ذلك موجود في المصادر! ونفيتم أن إماماً سُمع يدعو للتقية في قضية الحسين عليه السلام مع أن ذلك موجود في المصادر أيضاً! ثم نفيتم قيام أمير المؤمنين عليه السلام بسب معاوية وقلتم أنه لعنه فقط مع أن ذلك موجود في المصادر أيضاً وأيضاً! ولن أذكر دعواكم الإجماع في تقييد جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمن من الضرر، ولا دعواكم بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسبّ آلهة المشركين، إذ في مثل هذا - مما يحتاج إلى إعمال نظر - يشتبه طلبة العلم وهم فيه معذورون.



وإذا أدركتَ عدم الفرق من جهة الأثر؛ أدركتَ كيف أن المخالفين اعتبروا (نهج البلاغة) كتاب سباب! فكان من قول الذهبي: «ومن طالع كتابه (نهج البلاغة) جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحطُّ على السيّديْن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما»!



وأما الرواية عن الصادق عليه السلام وفيها: «ما له - لعنه الله - يعرّض بنا» فقد سبق وتناولناها بالتفصيل في سلسلة: (ونحن على رغمك الرافضون) فراجع متفضّلاً لتعلم أنها - على فرض صحة صدورها - محمولة إما على القضية الخارجية حيث يكون اللاعن قاصداً التعريض بهم عليهم السلام أو ملتفتاً إلى ترتّب هذه المفسدة على فعله بلا نصيب من المصلحة فاستحق اللعن لهذا، وإما على أن اللعن بنفسه قد صدر تقية كما لُعن زرارة وغيره من الأبرار، وقد ذهب إلى الأول السيد المرجع دام ظله. والموجب للحمل تكرر مثيل هذا الفعل من غير واحد منهم بلا نكير من الأئمة عليهم السلام بل نال بعضهم منهم المديح والشهادة لهم بالجنة. بل إن الذي أخرج هذه الرواية وبنى عليها وجوب التقية - وهو الصدوق عليه الرحمة - قد عمل بخلافها في مجالس مناظراته المشهورة مع زعماء المخالفين بين يدي السلطان، وكان فيها التكفير الصريح للطاغية الأول كقوله: «اجتمعت الأمة على نقل خبر سورة براءة، وفيه خروج أبي بكر من الإسلام»، ثم أتبع الصدوق ذلك بسبّ ابن أبي قحافة حين وصفه بالسامري إذ قال: «أيها الملك؛ زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضى ولم يستخلف»، الأمر الذي اعتبره المفيد عليه الرحمة من مناقضات الصدوق في ردّه عليه في تصحيح الاعتقادات، قال: «وقد أمر الصادقون عليهم السلام جماعة من أشياعهم بالكف والإمساك عن إظهار الحق، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم، وكان ذلك هو الأصلح لهم. وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق، لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه، ويسقط فرضها في مواضع أخرى على ما قدمناه. وأبو جعفر أجمل القول في هذا ولم يفصّله على ما بيّناه، وقضى بما أطلقه فيه من غير تقية على نفسه لتضييع الغرض في التقية، وحكم بترك الواجب في معناها، إذ قد كشف نفسه في ما اعتقده من الحق بمجالسه المشهورة، ومقاماته التي كانت معروفة، وتصنيفاته التي سارت في الآفاق، ولم يشعر بمناقضته بين أقواله وأفعاله، ولو وضع القول في التقية موضعه، وقيّد من لفظه فيه ما أطلقه لسلم من المناقضة، وتبيّن للمسترشدين حقيقة الأمر فيها، ولم يرتج عليهم بابها، ويشكل بما ورد فيها معناها، لكنه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الألفاظ، والعدول عن طريق الاعتبار. وهذا رأي يضر صاحبه في دينه، ويمنعه المقام عليه عن الاستبصار».



وأما الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وفيها: «فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم» فالجواب الأول وفاقي، غير أنه لم يُحرَز هذا الانقلاب المدّعى في زماننا إذ ما زلنا نرى الفوائد أعظم كما مرّ. والثاني ضعيف، إذ العلة الغائية من الأمر هي سَوْق المجتمع إلى الإيمان والصلاح بتقليل أتباع أهل الريب والبدع وصولاً إلى إنهاء اتّباعهم، وهذه العلة متحققة وجداناً بصرف المتبّع لهم فعلاً عن هذا الاتّباع، والوجدان أقوى من الشك، فلا وجه للقدر المتيقَّن، وقد جاء مثلاً أن الصادق عليه السلام قد سبّ أبا بكر وعمر بقوله: «كافران ومن يتولّهما كافر» أمام خراساني معتقد بهما قد «تغيّر لونه لما أن ذكرهما»، وكذا فعل بطلحة والزبير بقوله: «كانا إماميْن من أئمة الكفر» أمام جماعة من المعتقدين بهما من أهل البصرة، والأمثلة على ذلك عديدة. والثالث أقرب إلى الاستحسان الحنفي والمصير إليه يمكن أن يقلب الفقه رأساً على عقب إذ ما من حكم شرعي إلا ويمكن التحلّل منه أو التصرف فيه بمثله، وعلى فرض أن اللحن دالٌّ على ما ذُكر فإنه لا يقاوم الأدلّة الأُخَر، وشمول الحكم لمثل حالنا قطعي بعد الوقوف على سيرة المتشرّعة، فلقد غلب أهل الريب والبدع منذ يوم السقيفة وسيطروا وصار أغلب الناس معهم، ومع ذا وجدنا أهل الحق يسبّونهم وينالون منهم، حتى كان من قول سلمان عليه الرضوان: «علي في شبه هارون، وعتيق في شبه العجل، وعمر في شبه السامري»، ومثل هذا غير عزيز، على أن هذا الجواب راجعٌ في حقيقته إلى فرض التقية وقد تقدّم الكلام فيها. وأما الرابع فاشتباه، فإنّا لا نقول بالإطلاق في حديث الإكثار من السب حتى يرد علينا بُعد الإطلاق في أحاديث معاملة أهل المعاصي؛ بل نقول بالإعمال في تقدير تحقق الغاية، فلا يرد ما ذُكر، فإن الغاية من ملاقاة أهل المعاصي بوجوه مكفهرة إنما هو ردعهم عن المنكر، فإذا رُؤِيَ أن ذلك لا يردع الفرد مهم بل يدفعه إلى العناد والإصرار أكثر وأن الأولى هو ملاقاته بالبشر إذ به يكفّ عن المعصية ولو حياءً؛ عُدل عن تلك الملاقاة.



وبعبارة أخرى؛ هذه وأخواتها طريقية لا موضوعية، وقد وجدنا أن الإكثار من السب يحقق الغاية في سَوْق المجتمع إلى الإيمان والصلاح بالبراءة من أهل الريب والبدع، فالإعمال صحيح. ثم إن ملاقاة أهل المعاصي بوجوه مكفهرة متوقفة على إحراز علمهم بالمعصية وإصرارهم عليها، وغالب أفراد المجتمع لا يعلمون أصلاً بحكم حرمة حلق اللحية ببركة إحجام الخطباء عن تبيانه تقيةً أو خجلاً ممن يحضر مجالسهم، إذ قلّما يكون مجلس جماهيري إلا وأغلب مَن فيه من حليقي اللحى، هذا إذا لم يكن الخطيب نفسه حليقاً كالوائلي أو السهلاني! فكيف بعد هذا يُتصوَّر إمكان ملاقاة هؤلاء بوجوه مكفهرة وهم غير ملتفتين للحكم فضلاً عن الإصرار عليه؟! نعم؛ إنما يصحّ هذا بعد وعظهم وإنذارهم ثم ملاحظة إصرارهم على المعصية وملاحظة أن هذه الملاقاة بذلك الوجه تردعهم. وأما أنا فقد أدَّيْت ما عليَّ ولا أزال، متحمّلاً الأذى في هذا السبيل، فلقد كانت لي محاضرة بعنوان: (حالق اللحية ملعون) قد ألقيتها منذ زمن وثلث الحاضرين تقريباً من حليقي اللحى! لم أتحرّج من حضورهم ولا داهنتم، مع استشعاري إمكان أن تنالني ألسنة بعضهم في ما بعد، وقد وقع ما استشعرت. ولو كنتَ على مقربة لعلمتَ أني من أكثر من يؤكد على هذا الحكم كلما جاءني حليق ووجدتُ وعظه ممكنا، وذلك ما أفضى إلى اشمئزاز بعض هؤلاء حتى زعموا أني أسيء المعاملة وأهوّل الأمور و«أصنع من الحبة قبة» ولذا امتنعوا عن الحضور إلى المسجد! غير أن ما يثلج الصدر هو النجاح في ثني بعضٍ آخر عن هذه المعصية، فلا تراهم بعدُ إلا ولحاهم موفورة بعدما كانوا في أول تردّدهم علينا يحلقونها. فيما بعضٌ ثالث تراهم يأتون إلى المسجد حيناً وأخرى لا، والسرّ في ذلك هو ما أخبروا به رفقاءهم الذين أخبروني، من أنهم حين يطلقون لحاهم يأتون مطمئنين، وحين يحلقونها يضطربون فيغيبون تخوفاً من أن «يُسمعنا هذا الشيخ كلاماً يحرجنا»! أفَبَعد هذا يُقال: «هل الشيخ ملتزم بذلك»؟! ولا تغفل عن الطريقية.



وبذا يكون ضعيفاً تعليق الأمر على ما لو كانت الظروف الاجتماعية مواتية، إذ الظروف عارضة وليست بمنظورة في أصل الأمر. إنما الحري فقهاً أن يُقال بتعليق الأمر على تحقق غايته، أي القول بالطريقية، فحتى لو كانت الظروف معاكسة إلا أن الغاية تتحقق من الأمر فالمطلوبية على حالها. ويكفي في وجه ذلك معلومية نطق الشارع بغلبة المنكر وأهله في الأغلب، وكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً في المعظم، فلو عُلِّقَ الأمر على ما تقول لما كان له إعمال يُذكر إلا في عشر سنوات حكم فيها النبي صلى الله عليه وآله وخمسٍ حكم فيها الأمير عليه السلام وستة أشهر حكم فيها السبط الأكبر عليه السلام! إذ في غير هذه الفترات اليسيرة كانت الغلبة لغير أهل الدين ولا تزال! وفي غير هذه الفترات اليسيرة لم تكن هنالك قوة للإسلام الحقيقي! ومهما أجهدتَ نفسك في توسعة تلك الفترات أو تكثيرها بضروبٍ من الإلحاقات والتجوّزات فلن تستطيع جمع إلا أقل القليل مما يصدق عليه عنوان (قوة الإسلام والظروف المواتية وغلبة أهل الدين)، ومعنى ذلك تفريغ الشريعة من أوامرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ لا يمكن القيام بها إلا في زمن مثالي يكون فيه دين الله قائماً على الأرض! ولا يخفى وهن هذا وبُعده عن مقاصد الشارع الحكيم.



وعلى العموم؛ فإن هذه الأجوبة في جلّها تبرّعية يُراد بها العدول عن الظاهر، قوامها (قد يُقال)! ولسنا من (قد يُقال) في شيءٍ ذي بال. ومن الخير أن نستذكر معاً ما ردّ به العلامة المجلسي على المفيد رحمهما الله إذ قال: «طرح ظواهر الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرأةٌ على الله وعلى أئمة الدين».



وأما (قد يُقال) بتنزّه المعصوم عليه السلام عن السب الفاحش، فارجع إلى ما مضى واستذكر (ابن اللخناء)!





● جواب سابعاً: قد تبيّن من جوابنا الأول وتطرّقنا إلى كثيرٍ مما ههنا فلا نعيد ولا حاجة معه إلى مزيد، سوى بضع أمور هي:



منها؛ أن دعوى التنفير من مجرد اللعن الجهري غير محرزة، بل أثبتت التجربة العكس، فإنها تستفز المخالف ليتابع أكثر. وحتى المثال الذي ذكرتموه هو على العكس أدل، فلو أن أحداً من الشيعة سمع شتم الأمير أو الزهراء عليهما السلام لحمله الغيظ على المتابعة أكثر، وهذا واقع محسوس، فانظر حولك ترى أن كثيراً من الشيعة ما زالوا يتابعون القنوات المعادية ولا يحملهم على ذلك إلا الغيظ منها، ولولا هذه المتابعة لما كنت لمستَ أينما ذهبتَ في المجالس سخطاً على هذه القنوات وحديثاً عن آخر شتائمها لنا. فها لم تمنع تلك الشتائم أصحابنا من متابعتها وإغلاق التلفاز فوراً! والفرق هو أن هذه القنوات لا حجة لها في شتائمها لذا لا تسمع شيعياً يرتد بسببها وإن كان يواصل المتابعة لها ليلاً ونهاراً، بخلاف قنواتنا فإن الحجة لها ومعها ولذا ما زال أفواج المتشيّعين تتوالى، وكثيرٌ منهم حين يحكون قصص تشيّعهم يقولون أنهم ما حملهم على المتابعة في أول الأمر إلا الغيظ والغضب، فإذا بهم ينجذبون مع مرور الوقت لسطوع البرهان وإشعاع الحق وتلين قلوبهم لقبوله.



ومنها؛ أن الدارس بدقة إلى أسلوب الأنبياء والأوصياء عليهم السلام يلحظ بجلاء أن الخطاب الموجه للعموم كثيراً ما يحمل في طيّاته حدة وخشونة، بخلاف الخطاب الموجه للفرد الخاص، أي حال الحوار، فإنه كثيراً ما يكون ليّنا. وهذا ما نحن عليه، فتابعنا جيداً تعرف كيف أنّا في الجلسة الواحدة من جلسات البث المباشر مثلاً قد نحتدُّ في طرح الورقة البحثية فلا يخلو كلامنا من لعنات تُصَبُّ على رموز النفاق والطغيان، حتى إذا فُتح باب الاتصالات ودخلنا مرحلة الحوار شُهد لنا من المخالف بالهدوء والاحترام، بل إنّا رسمنا في حوارنا معه أن لا يترضّى مقابل أن لا نلعن، فكان ذلك توازناً أنصفنا وأنصفه، ولم يكن ببعيد عمّا تطالب به من تقدير المشاعر.



ومنها؛ أنه كلما ارتفع مقام الشخص في نفوس الناس عن حق أم باطل؛ كلما كان التعرض له - ولو بأدنى عبارة - سبّاً أو ما بمثابته. وأمرنا مع المخالف ليس على ميزاننا بل على ميزانه، فإذا لم يتروَّض كان الكلام الذي سُقتَ مثالاً في أنك تكتفي بإثبات جهل عمر أو جبنه عند ذلك المخالف من أكفر الكفر الذي تستوجب عليه القتل. بل إذا لم تقم بذلك وإنما كان غاية ما قمتَ به مخالفته في مسألة مستقرة عنده لم يختلف حكمه عليك، فلقد حُكم على الشيخ عبد الله الخنيزي بالإعدام قبل أقل من ستين سنة في ما يسمى بالسعودية لمجرد أنه خالف العقيدة البكرية في مسألة واحدة حين ألّف كتابه الشهير: (أبو طالب مؤمن قريش)! ولم ينجُ من تنفيذ الحكم إلا بعدما أعلن توبته وإقراره بأن أبا طالب عليه السلام في النار والعياذ بالله! وذلك بعد ضغوط من الشاه المقبور ووساطات من مرجعية النجف الأشرف آنذاك. وقديماً كان القادر العباسي لعنه الله يستتيب الرافضة ويأخذ خطوطهم بالتوبة والنزول على الاعتقاد القادري الذي صنّفه ابن فورك في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان، فمن أبى ضُربت عنقه! وكان ذلك في أواخر زمان الشيخ المفيد الذي كاد أن يُقتل أكثر من مرة!



ومنها؛ أنّا لسنا ننكر حساسية القوم من ثلب أبي بكر وعمر وعائشة، غير أن هذه الحساسية تُنتزع بالترويض وتترسخ بالامتناع عن الثلب بالكلية، فالمنادى به إنما هو الأول، وهو الملحوظ في سيرة الأئمة عليهم السلام وأصحابهم الأبرار والعلماء الأخيار كما مرّ الإلماع إليه من عدم خلو الأزمان منه كخط موازٍ للخط الآخر. وإنك لا تُمهَل أن تذكر شيئاً من التراث لتدعيم الخط الآخر إلا أُتيتَ بما يخالفه لتدعيم الخط الأول، كما مرّت الأمثلة عليه. ويمكن أن يُستفاد وجود الخطين المتوازييْن في السيرة بما ورد عن الزكي العسكري عليه السلام من قوله في حديث: «لقد كتب الله لصاحبك بتقيّته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة، وبعدد من ترك التقية منهم حسنة»، والتعبير بترك التقية يعني تركها في ظرف تحقق موضوعها، وإلا لما كان معنى للترك، كما يعبَّر بترك الصلاة، فها قد ثبت جريان السيرة عند الشيعة الموالين برعاية الإمام عليه السلام على خطّيْن متوازييْن ينال كلٌ من أهلهما الحسنات، خط استعمال التقية وخط تركها. ونحن قد اخترنا خط تركها، فأي ملامة واقعة علينا؟!



ومنها؛ أن وجود قسم من التقية يسمى (التقية المداراتية) لا يُشترط فيه توقع الضرر هو أول الكلام، فارجع متفضّلاً إلى توطئة كتاب الفاحشة حيث قلنا: «وما توهمه بعضهم من شمول التقية لغير موارد الضرر استناداً إلى ظاهر بعض الأخبار مدفوع أولاً بوجود قرائن داخلية وخارجية على أنها في مورد الضرر، وثانياً بمعارضتها لغيرها فتُحمل عليه، وثالثاً بأن بعضها وارد في باب حُسن المعاشرة ومكارم الأخلاق لا في باب التقية، فيكون خارجاً تخصصاً عن حكم التقية المجوِّز لفعل الحرام اضطراراً». ثم اقرأ تفصيل التوهم والدفع إلى أن تبلغ إلى قولنا: «هذا ولا كلام في خروج بعض ما أُمر به في الأخبار من المخالطة معهم عن مورد التقية تخصصا، فإن التقية على ما أسلفنا ليست حقيقتها الشرعية إلا ارتكاب محرَّم بالعنوان الأولي في صورة الاضطرار واتقاء الضرر وإن آجلا، وليس في عيادة مرضاهم أو شهود جنائزهم شيئا من ذلك. ويدل عليه ورود كثير من هذه الوصايا في باب المعاشرة بالمعروف ومكارم الأخلاق، لاحظ مثلا ما رواه الكليني في باب ما يجب من المعاشرة عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام: «صِلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحَسُن خُلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر. وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر». فحمل هذه الأخبار على أنها جارية مجرى التقية لنزع اشتراط توقع الضرر فيها؛ هو غلط فاحش. والأمر بحسن المعاشرة لا يقتصر على المخالفين، بل يشمل غيرهم من الكفار وأهل الكتاب، تحبيبا للكل في الإسلام والمسلمين. فقد روى الصدوق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: «وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته». على أن حُسن المعاشرة للمخالفين له ضوابط أيضاً، فقد نطقت الروايات بتحريم إكرامهم أو حتى الضحك في وجوههم! وهو ما رواه الصدوق عن ابن فضّال قال: «سمعت الرضا عليه السلام يقول: مَن.. أكرم لنا مخالفاً فليس منا ولسنا منه». وما رواه المجلسي عن صاحب رياض الجنان بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال: «سمعت مولاي أمير المؤمنين عليه السلام يقول: من ضحك في وجه عدو لنا، من النواصب والمعتزلة والخارجية والقدرية ومخالف مذهب الإمامية ومن سواهم؛ لا يقبل الله منه طاعة أربعين سنة». ووجه الجمع بين هذه الطائفة من الروايات والتي سبقتها الآمرة بحُسن معاشرتهم هو حمل هذه على المخالفين بالأصالة، أي كبراؤهم وعلماؤهم ممن يكون في إكرامهم والضحك في وجوههم تقوية لباطلهم وخلافهم لأهل بيت النبوة صلوات الله عليهم. وعليه فما يجري الآن من بعض القاصرين والزائغين في ما يسمى بمؤتمرات التقريب والوحدة الإسلامية إذ يُكرمون زعماء المخالفين وعلماءهم ويعانقونهم ويصلّون وراءهم.. إنما هو مروق عن تعاليم آل محمد عليهم الصلاة والسلام».



ومنها؛ أنه إذا أُريدَ بعنوان (الوحدة الإسلامية والتآلف) اتقاء الضرر المتوقع عاجلاً أم آجلاً فتلك التقية المشروعة ولا كلام. فإنْ لم يكن ثمة ضرر متوقع؛ فإذا أُريدَ حفظ بيضة الإسلام ومنع اندراس ذكر محمد صلى الله عليه وآله فذلك تقديمٌ للأهم على المهم ولا كلام. فإنْ لم يكن أصل الإسلام في خطر ولا خِيف الاندراس؛ فإذا أُريدَ حقن الدماء والمنع من الاحتراب والتعايش فذلك تنزيلٌ للجميع - حتى المنافقين - على حكم المسلم في عصمة الدم والعرض والمال ولا كلام. فإنْ لم يكن داعياً لهذا التنزيل لوجوده؛ فإذا أُريدَ تحبيب المخالف بأهل الحق كي يهتدي فذلك هو التكرّم بمكارم الأخلاق والمجاورة بالحسنى ولا كلام. فكل هذه الوجوه كما ترى لا كلام لنا فيها، نقبلها ونستسيغها بل وندعو بها، ولا بد أن يُحمَل كلام الأعلام في الوحدة عليها. أما إذا أُريدَ بعنوان (الوحدة الإسلامية والتآلف) غير هذه؛ كالتنازل عن بعض العقيدة الحقة مما يتصادم مع عقيدة المخالف فقد وافقتَنا في عدم الجواز، وبقي أن توافقنا في عدم الجواز أيضاً إذا ما أُريدَ من هذا العنوان إبطال الحق في تبليغ هذا البعض من العقيدة الحقة مما يتصادم مع عقيدة المخالف، كالقول بأن أبا بكر وعمر وعائشة في النار، وإعلان البراءة منهم. فيرجع بنا الكلام إلى ما سبق من ضرورة وجود هذا الخط وأنه مصداق للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليه قامت السيرة واتصلت، وأنه بالترويض لن ينقض الوحدة بل سيساعد على بنائها بناءً صحيحاً متينا. نعم قد يتعطّل مؤقتاً للعارض، كالفرضيْن الأولييْن أي تحقق التقية المشروعة أو تقديم الأهم على المهم، أما التعطيل مطلقاً بداعي الوحدة كما تدعو إليه فما إليه سبيل. وعليه فالتوسل بما ذكره الأعلام عن الوحدة والتآلف ليس بشيء، لوضوح أنه راجع إلى إحدى تلك الوجوه، لا أنه وجه مستقل، وحينئذ إذا رأى المكلّف انتفاء العارض عاد إلى الأصل، ويكون التباين ههنا موضوعياً، المكلّف منه في سعة.



وما نقلتموه عن المجدد الثاني قدس سره والمرجع الروحاني دام ظله من مناداة بالوحدة يختلف اختلافاً جذرياً عن الذي قاء به البتري الأول وجشّأ به عميد المنكر باسم الوحدة، فإن هذين الصالحيْن ما نطقا بالتمجيد بأبي بكر وعمر والقول بأنهما حكما بالإسلام والعدل! ولا تملّقا المخالف بالمحاماة عن عائشة والقول بأنها جديرة بالاحترام والتقدير ويجب أن تصان كرامتها! ولا هدما أسس التشيع بالتنظير للقول بالتخطئة بدلاً من البراءة! بخلاف ذينك الطالحيْن اللذين ارتكبا ذلك كله، فلا سواء.



وأما ما كتبتموه في الهامش حول استعمال اصطلاح (الأول والثاني) بدلاً من التصريح بالأسماء فلا يخلو من طرافة، ذلك لأنّ الذي نتندّر منه ونضحك هو الظن بأن المخالف يُبهم عليه المراد فتندفع نائرته، مع وضوح أنه اليوم واقفٌ على المعنيِّ بهذه الاصطلاحات لا يرتاب بالمقصودين بها، فلا فرق في إغاظته بين التصريح بالاسم وعدمه. والباعث على السخرية هو أنّا نرى بعض الخطباء يقولون مثلاً: «إن صلاة التراويح بدعة جاء بها الثاني»، وحين يُسألون: لماذا قلتم (الثاني) ولم تقولوا (عمر)؟ يقولون: «ذلك عملٌ بالتقية وتعمية على المخالف وفرارٌ من التبعات القانونية»! فهذا هو الباعث على السخرية، إذ لا أحد في الدنيا يشتبه في المقصود بهذا الكلام لمعلومية أن صلاة التراويح من إنشاء عمر بالاتفاق. وكذا حين يسرد الخطيب قصة مقتل الزهراء عليها الصلاة والسلام فيقول: «فجاء الثاني وبيده قبس من نار فقيل له: إن في البيت فاطمة! فقال: وإن»! فإنه إذا اقتيد للتحقيق لا يسعه أن ينكر أن المراد عمر لمعلومية أنه الوحيد الذي قالها في كل مصادر الحديث والسيرة والتاريخ. فأي نفعٍ حينئذٍ في قول (الثاني) بدلاً من (عمر) سوى إظهار جبن الشيعة أمام المخالفين ليتجرّأوا عليهم أكثر؟!



وبهذا تعرف أن المماثلة بين هذا الذي يجري على ألسنة الخطباء اليوم وبين ما حصل مع الشيخ الطوسي مماثلة باطلة للفارق، فإن ذلك الزمان ما كانت فيه الأمور بهذا الوضوح لعدم اطلاع العامة على تفاصيل ما يعتقده الشيعة، مما يجعل مخرجاً للشيخ وغيره، أما في هذا الزمان فلا، إذ كل ما لدينا مكشوف معروض متوفر بمصادره الأصلية على شبكة الإنترنت مثلاً، ومنه شرح العلماء لزيارة عاشوراء وفيه التصريح بأن المقصودين باللعن في هذا المقطع أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، فلا مخرج. والنص الذي أوّله الشيخ وصرف به الضرر عن نفسه لم يكن من قبيل: «اللهم العن من غصب فدك، ومَن قال لفاطمة: وإن، ومَن نفى أبا ذر، ومَن ركب الجمل وحارب عليا» حتى يكون عصيّاً على التأويل! إذ لو سُئل عن هذه لما استطاع أن يجعل الذي غصب فدك قيصر الروم مثلاً! ولا الذي قال لفاطمة: «وإن» كسرى الفرس مثلاً! ولا الذي نفى أبا ذر كعب الأحبار مثلاً! ولا التي ركبت الجمل جعدة بنت الأشعث مثلاً! إنما النص الذي أوّله كان مبهماً خليّاً من تفصيل جرائم الأربعة وتوصيف أحوالهم، فيكون قابلاً للتأويل والتصرف، بخلاف الذي يتكلم به الخطباء اليوم، فإنهم يذكرون ما هو معلوم بالضرورة من جرائم وأحوال هؤلاء بالتفصيل الذي لا يرتاب به المرء في المقصود؛ ومع ذلك يقولون: (الأول والثاني والثالث) وبعضهم يقول: (المرأة) وهم يظنون أن ذلك يعمى على المخالف ويكون حرزاً لهم من المساءلة القانونية! فيا لله وللعقول!



وأما الزعم بأن هذه طريقة الأئمة عليهم السلام فقد سبق وبيّنا الخطأ في إطلاق ذلك. والقياس على لفظ زيارة من الزيارات قياس فاسد، فإن وجه الحكمة هنا غيبي، فليس لنا التبرّع بالعلة والبناء عليها.



ثم إن التندّر والضحك ما فارقاني إذ وجدتُ الشيخ النصراوي يصرُّ في الهامش على أنه يستعمل ههنا اصطلاح (الأول والثاني) ولا يصرّح تأسيّاً بأئمتنا عليهم السلام؛ فيما هو في غير موضع من متنيْ رسالتيْه قد صرّح بالأسماء! كقوله في الأخيرة: «يعني أنتم تبدؤون بأبي بكر وعمر وعائشة لتنتهوا إلى علي ع، تبدؤون بالبراءة لتنتهوا للولاية وهم بالعكس»! وكقوله: «لاحظوا كيف يصرح بالحق، ولكن لايطعن في أبي بكر وعمر علناً ولايلعنهما، وإنما يلمح، ويكني كناية هي أبلغ من التصريح»! وكقوله: «من جهة تمسكهم بتلك الرموز رموز الضلالة أكثر، وهذا مارأيناه بعد احتفال الشيخ بهلاك عائشة وإصدار كتاب الفاحشة، حيث تنادى أتباع عائشة وحشدوا قواهم وشكلوا تيارا عريضاً للدفاع عن أمهم، وأخذوا يعقدون المنتديات والتجمعات للدفاع عن عائشة..» إلى آخر كلامه الشريف الذي ما أبقى لقارئه شكّاً في المراد من رموز الضلالة الذين تجب البراءة منهم، وأنهم أبو بكر وعمر وعائشة بصريح أسمائهم! فإما أن يستعيذ الشيخ بالله من الشيطان الرجيم فيمضي على التصريح بالأسماء ويدخل العالم الأول عزيزاً مقداما، وإما أن يستغفر الله من الزلل والخطل ويسأله أن يعصمه من التصريح بالأسماء ومخالفة قانون العالم الثاني ليبقى فيه هانئاً مرتاحا، وإما أن يضيّع المشيتيْن فتارةً يصرّح وأخرى يلمّح، وطوراً يُظهر وآخر يُبطن، فينال بذلك أجر إدخال السرور على قلب أخيه إذ يتندّر ويضحك!





● جواب ثامناً: نحن ملتفتون تماماً إلى مقصودكم من قولكم: «دعهم لا يتشيّعوا» في رسالتكم الأولى، ومع ذلك لا نعفيكم من المؤاخذة، إذ قلنا: «ليس الهدف مجرد استبقاء الحق وحمل لوائه، بل الهدف محو الباطل وتنكيس رايته».



أنتم تقولون بالأول، أي حمل راية الحق لتبقى شاخصة وسط الرايات الأُخَر، فمن يعجبه أن يترك الوقوف تحت تلك الرايات ليقف تحت رايتنا فبها، ومَن لا يعجبه ندعه ورايته لأن «سبل الحق متاحة والحجة تامة لكن هم لم يقبلوها»! أما نحن فنقول بالثاني، أي تنكيس تلك الرايات الباطلة ومحوها كلياً حتى «لا راية تبقى أمام راية آل محمد عليهم السلام» ولا يجد الناس ملاذاً سوى هذه الراية إذ ما من راية أخرى! ولهذا قلنا: «إن على الحوزوي الذي يتلقى علوم آل محمد الطاهرين صلوات الله عليهم أن يؤدب نفسه على أن يكون شعلة تتّقد، وجمرة لا تهمد، لا يهدأ له بال ولا يكون له قرار إلا أن يرى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ويتولّون العترة الطاهرة ويبرأون من أعدائها زرافاتٍ ووُحدانا، بما لا يبقى معه من الباطل اسم ولا رسم». ولهذا أيضاً ضربنا لك الأمثلة عن الفارق المنهجي في الدعوة بين الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وبين أهل الكتاب والمنفردين بالتوحيد، الذين كانوا يريدون السلامة وعدم تحمّل آثار المناجزة مع جبهة الباطل وأنصارها.



فالذي نأخذه عليكم إنما هو هذا، أنكم تستمرئون ترك الناس لا يتشيّعون تخوّفاً من آثار المناجزة مع الرايات الأُخَر، فصرتم كمن يقول لنبي من الأنبياء: «إنها الدماء! إنها القلاقل! فلا تتحدى! ولا تحارب! اتركهم وآلهتهم! دعهم لا يهتدوا»! هذا هو الذي نأخذه عليكم، ولا ندري كيف حملتكم نفسكم عليه؟



ودعوى أن المفسدة أعظم من المصلحة ههنا أول الكلام، وقد تقدّم الفصل فيه.



والقياس على الآيات التي ذكرتموها قياس فاسد، إذ هي في ردّ المتعنّتين الذين يعلم الله تعالى أن ما يطلبونه من معاجز إنما هو لمزيد من العناد والتعنّت، لا للإيمان أو الاطمئنان، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾. وحالنا مختلفة، إذ لا يحملنا على هذا المنهج ما نراه من تعنّت من قبل أهل الخلاف؛ بل يحملنا عليه ما نراه من قبولهم الهدى بسببه، إذ هم يطلبون اليوم من الشيعة مَن يكون صادقاً صريحاً جريئاً غير مواربٍ ولا مداهن ليطمئنوا إليه ويهتدوا إلى البراءة من رموز النفاق واعتناق ولاية الأطهار عليهم السلام. وحين رأوا ذلك منا اهتدوا بفضل الله.

وعليه؛ تعلم أنّا جميعاً مسؤولون عن عدم تشيّعهم إذ نرى طريقاً يمكن أن يؤدي إلى محو الباطل الذي يحول دون هدايتهم لكننا لا نسلكه تخوّفاً من آثار المناجزة وركوناً إلى ما سميّته «الطرق المتعارفة»! كلا! أنت هنا مسؤول، لم تؤدِّ وظيفتك، فإن عليك أن لا تترك باباً يمكن أن يهتدي به الناس إلا وقد طرقته، وإن أفضى طرق بعض تلك الأبواب إلى شيء من الصدام والمناجزة، ما لم تغلب المفسدة المصلحة.



ثم هوّن عليك، فإنّا لم نشتد عليك! إنما أخذنا عليك تلك الكلمة بلا جرح لشخصك الكريم الذي ما عليه إلا أن ينزع الحساسية فلا يرى في نبرة مؤاخذتنا له شيئاً إن شاء الله تعالى. وأما ملاحظتكم تسرّع السالكين هذا المسلك في مهاجمة «المؤمنين» لمجرد الاختلاف في الرأي، فإني وإنْ أنكرتُ على السالكين هذا غير مرة؛ إلا أني أرى أنه في المحصلة مما يسهم في منعة هذا الدين وتقويته وتحصينه من كل مقولة يمكن أن تضعف منه وإن صدرت من قائل محترم، فإن اقتضى الأمر لردّها القدح في نفس القائل فلا بأس، كما مرّ مما نقلته لك من فوائد المحقق الكركي رضوان الله تعالى عليه.



وإنّا لسنا ننكر إمكان وقوع الاشتباه من أحد من العلماء في مسألة أو قضية ما، فليس أحد منهم معصوماً، وقد وقع في مثل ذلك أعاظم علمائنا بل لا نجد أحداً منهم سلم من كبوات وأخطاء، ومع ذا نجد في سيرة الأماجد من علمائنا أنهم في مثل هذه الموارد كثيراً ما كانوا يقدحون في نفس القائل المخطئ أو المشتبه بعبارات شديدة حادة أو جارحة، ويكفيك للوقوف عليها الرجوع إلى مطاوي كتب الرجال، وتراجم العلماء، وما كان بين القميين والبغداديين، وما كان بين الأصوليين والأخباريين، وما كان بين أنصار المستبدة وأنصار المشروطة، ولئن أردتَ إشارة عابرة فارجع إلى ما كان بين صاحب العروة النصير للمستبدة وابنه النصير للمشروطة، حتى إذا مات الأب وتولّى الابن الصلاة على أبيه قال على مسمع من الناس في صلاته: ﴿وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾!



وارجع إلى قسوة المفيد على الصدوق في ردوده عليه، حتى قال فيه: «لو اقتصر على الأخبار ولم يتعاطَ ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه، فما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور أن يتكلم فيها على خبط عشواء»!



وارجع إلى طعون صاحب السرائر على جده شيخ الطائفة، وما ردّ به العلامة عليه، حتى قال صاحب الروضات في ترجمة الأول: «وأكثر الطعن على جده شيخ الطائفة، وأكثر عليه العلامة الحلي في الطعن، وعبّر عنه بالشاب المترف عفى الله عنه»! وقد كان من قول صاحب السرائر في جده أنه «يستدل بما يضحك الثكلى»! وكان من ردّ العلامة: «وهذا جهل من ابن إدريس وقلة تأمل وعدم تحصيل، وذلك لقصور قوته المميزة وشدة جرأته على شيخنا رحمه الله وكثرة سلاطته وسوء أدبه! مع قصوره عن أن يكون أقل تلامذة شيخنا رحمه الله»! فيما كان من ردّ بعض علماء الأخبارية على العلامة أن قالوا: «هُدم الدين مرّتين، أولاهما يوم السقيفة، وأخراهما يوم وُلد العلامة»!



وارجع إلى أحوال الفقيه الزاهد الشيخ محسن خنفر الذي وُصف بأنه كان «خشنا في الله لا يداهن ولا يبالي» إذ كان من قوله لصاحب الجواهر: «أعطِ جواهرك هذه لبائعي الفلفل والكمّون يصرّون بها»! وكان من ردّ صاحب الجواهر عليه أن وصفه «باعوجاج السليقة»! وقد كان صاحب الجواهر ناقماً على اجتماع عقده علماء الحوزة أفضى إلى إعلان مرجعية الشيخ علي كاشف الغطاء دونه، فوصف ذلك الاجتماع بالسقيفة! وقال للشيخ خضر شلال: «ما صنعت سقيفتكم؟! فأجابه: قدّموا عليّاً»!



وارجع إلى ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر من الطعن على محمد حسين كاشف الغطاء إذ يقول: «وعندي أن تأخر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بعد وفاة السيد أبو الحسن ليس سببه اتهام الناس له في دينه وورعه فقط، بل سببه على الأكثر فقدانه لهذه القابلية وحرصه على المال وتهالكه على جمعه بأي الطرق»!



وارجع إلى ما كتبه صاحب الذريعة إذ أخرج محسن الأمين من التشيع واصفاً إياه بأنه من «المتسنّنين الّذين يحبّذون التمثيليّات الفنية الدنيوية ويحرّمون الدينية منها»!



وأما الفقيه الخطيب السيد صالح الحلي فهجاؤه للأعلام الذين خالفوه أشهر من النار على المنار، فكان من قوله في صاحب العروة:

فواللهِ ما أدري غداً في جهنَّمٍ

أيزديُّها أشقى الورى أم يزيدها!

وكان من قوله في صاحب الكفاية:

وفتاة تقول وهي تصبُّ

الماء: قلّدتُ كاظماً قلتُ صُبِّي!



يقصد أن صاحب الكفاية من الصابئة لا المسلمين! وقال جعفر الخليلي: «وبلغت الجرأة بالسيد صالح الحلي أن يتطاول على السيد أبي الحسن ويتناول السيد محسن بالسب والشتم، وتجاوزت به الجرأة كل حد حتى قال في السيد محسن قولته المنكرة:

يا راكِباً أمْا مَرَرتَ بـ (جِلَّقِ)

فأَبْصق بِوَجْهِ (أَمِينها) المُتَزَندِقِ»!



إلى غيرها مما لا يسعنا تعداده وأنت به خبير. فلئن كنتَ تلتمس لأولئك الأعلام المعاذير في عدم حملهم كلام غيرهم على أحسن المحامل وجنوحهم إلى الجرح والخشونة بمجرد اختلاف الرأي؛ فالتماسك العذر لنا ولمن يسلك مسلكنا أولى، لأن ما قلناه في حق «المؤمنين» هو أقل بكثير مما قاله أولئك الأعلام في «المؤمنين» وأي مؤمنين؟ إن منهم مَن هو من أركان هذا المذهب! وإلا فاحكم على أولئك الأعلام القادحين بحكمك علينا تكن منصفاً، فقل في المفيد وصاحب السرائر والعلامة وابن صاحب العروة والخنفر وصاحب الجواهر والمظفر وصاحب الذريعة والصالح الحلي.. قل فيهم جميعاً أنهم يتسرعون في الحكم على كلمات الآخرين ويستسهلون مهاجمة إخوانهم «المؤمنين» وقذفهم والاستهزاء بهم لمجرد الاختلاف في الرأي! ولا يراعون لهم حرمة ويتناسون استقامتهم وتأريخهم وولاءهم وجهودهم.. إلخ!



إنّا مبدأنا العملي في هذه المسألة هو: أن المنحرف يُنال منه ويُحقَّر، والمستقيم يُنتقد بأدب إلا أن يكون ثمة داعٍ للاحتداد في نقده أو حتى انتقاص شخصه، كأن يكون جاهلاً قاصراً قد توهّم الناس أنه عالم، فقد ينبغي أن يُقال عنه أنه جاهل قاصر. أو أن يكون بليداً غبيّاً قد توهّم الناس أنه فطن ذكي، فقد ينبغي أن يُقال عنه أنه بليد غبي. أو أن يكون ضعيفاً جباناً قد توهّم الناس أنه شجاع، فقد ينبغي أن يُقال عنه أنه ضعيف جبان. هذا إذا لوحظ فقط أن توهّم الناس توفر هذه الخصال فيمن يتلقوّن منهم الدين يفسده أو يفسد أحوال المؤمنين، أما في غير هذا المورد فلا. وهذا هو محل إنكارنا على السالكين هذا المسلك الذين قد يتسرّعون في غير هذا المورد. غير أنّا نرى في المحصلة أن هذه على الإجمال ظاهرة صحية لن تؤثر أثراً سلبياً إن شاء الله تعالى، بل هي تُنشئ لدى الجميع رادعاً عن النطق بأي كلمة قبل التفقه والتدبر وإمعان النظر، ووازعاً عن التحرك بأي تحرك قبل التحرّي والتثبت وإطالة الفكر، فتكون نتائج ذلك أقوم في صالح الأمة بإذن الله تعالى، كما كانت نتائج تشدّد القمّيين - حين كانوا ينفون بعض الأجلّة إلى خارج قم - نتائج قوّمت حركة الحديث وحمت العقيدة من موجة الغلو التي كان لها أن تتصاعد لولا هذا التشدد رغم ما فيه. أما المتخاصمون في الدنيا من أهل هذه الملة، فلئن لم يكن خصامهم للدنيا بل لما غلب على ظنهم من نصرة الدين؛ فلسوف تراهم إن شاء الله على الحال الذي سترى عليها المفيد والصدوق، وصاحب السرائر والعلامة، وصاحب الجواهر والخنفر، ونظراءهم ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾. اللهم آمين.



وعلى هذا فلا داعي لأن يكون في نفسك شيء من مواقفنا من بعض «الشخصيات الشيعية»، فإنك لو دقّقت جيّداً لما وجدتَ موقفاً واحداً لنا تجاه أحد دون أن يكون الدافع فيه دينياً لا شخصياً، وإنّا لنُشهد الله على ذلك ووليَّه في الأرض عجّل الله فرجه الشريف.





● جواب تاسعاً: هذا قياس مع الفارق وهو القصد، فإن أهل العالم الأول قاصدون لرفع سقف الحريات النقدية والكلامية الشيعية بما يسمح لإخوانهم من أهل العالم الثاني أن يكونوا في حرية ومأمن، وصار مثلهم كمثل الذين يشغلون العدو على الخطوط الأمامية فيكون مَن خلفهم أقدرَ على الحركة. أما الحكومات الغربية فمن الواضح أنْ ليس لها هذا القصد معنا، فلا هي تجاهد لرفع سقف الحريات النقدية والكلامية الشيعية، ولا هي تشغل العدو عنا، إنما غاية ما في الأمر أنها تواثقت بعد الحرب العالمية الثانية على إطلاق حرية الرأي والتعبير وتخشى إنْ لم تلتزم بذلك أن تتعرض للمساءلة من الشعوب الغربية الحيّة اليقظة، لذا فهي محرَجة في غالب الأحيان، مضطرة لترك من يمارس هذه الحرية وإن لم تكن ترغب به، فكيف ساويتَ بين هذا وذاك؟



وهذا نقصٌ في المعلومات؛ فإن أخاك كان في الكويت، وكان يتكلم بهذا الكلام، قد أسس هيئة وأصدر مجلّتين شهريّتين وأقام مجلساً أسبوعياً يحاضر فيه، فما منعته الموانع عن إلقاء نفسه في المخاطر، ولا كفّ عن تحدّي السلطة والنظام والمجتمع، يجاهر بالبراءة ويندد برموز الظلم لآل محمد عليهم السلام، تتوالى عليه التهديدات فلا يعبأ بها، وتتكاثر عليه الصرخات فيستهين بها، وتتتابع عليه القضايا القانونية فيتحمّلها، وتعتقله الحكومة فيواجهها، لا تضعف عزيمته في ذلك ولا يتراجع حتى وهو سجين! إذ كان يكتب مقالاته ويسلّمها لزوّاره خلسةً لينشروها في مجلة المنبر المطبوعة سرّاً. أفهل ترى أنه إذا زالت (النعمة الغربية) لما قدر أن يستمر يوماً واحداً في خطاباته وبلاغاته؟! كلا! لم تعرف أخاك!



ألا؛ لا تحدِّث عن (النعمة الغربية) وأنت لا تعلم ما تعرّض له أخوك ههنا، فلقد هوجم من الساسة ووسائل الإعلام البريطانية - الحكومية والأهلية - حتى قيل عنه أنه (شيخ الكراهية)! وحُرَّض عليه من الحكومات الحليفة لبريطانيا - كحكومة آل سعود وحكومة الكويت - ورُفعت عليه الشكاوى من أهل الخلاف، وتعرّض عمله للتحقيق أكثر من مرة فما استطاعوا أن يجدوا عليه مستمسكاً قانونياً بفضل الله ونعمته عليه. فلا تحدِّث بالنعمة الغربية، ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.



ومن النقص في المعلومات دعواك أن هذه (نعمة الملكة اليزابيث)! مع أن الملكة ههنا ليست بصانعة القرار، ولا لها من الأمر والنهي شيء، إنما هي ذات منصب شرفي، يعرف ذلك هنا حتى الأطفال! لكن لا يعرفه رجال الشرق إذ يحسبون الملكة هنا كملوكهم الطغاة! وكان من أطرف الطرافة قول (حبل الكذب القصير) أن الملكة اتصلت بأمير الكويت لتُخرجني من السجن وتأتي بي إلى بريطانيا! فيا لها من كذبة مضحكة قرعاء!



ثم إنّا ما دعونا أهل العالم الثاني إلى السكوت عن سلبيات منهجنا أو انتقادنا، أوَلا ترى كيف نستقبل انتقاداتك ونتجاوب معها برحابة صدر لا نضيق منها؟ إنما الذي دعونا أهل العالم الثاني إليه أن لا يظلموا إخوانهم من أهل العالم الأول بالتشهير والكذب والبهتان وإعانة الأعداء والطعن من وراء الظهور ومحاربة مَن يأخذ بمنهجهم ونحو ذلك. ليس الكلام هنا عن (الانتقاد) بل عن (الظلم). ولذلك قلنا في جوابنا الأول لكم: «وليس يطلب أهل العالم الأول اليوم من أهل العالم الثاني جزاءً ولا شكوراً، بل كل ما يطلبونه أن يتقوا الله فيهم، فلا يشهروا بهم ولا يكونوا عوناً لعدوهم عليهم، وأن لا يطعنوا بهم من وراء ظهورهم، وأن يتركوا مَن أراد الالتحاق بهم والسير على منهاجهم من الحوزويين حراً، فلا يضيّقون عليه ولا يضطهدونه ولا يقطعون رزقه، ولا يرمونه بصنوف التهم، وذلك حتى تُعاد صياغة هذا العالم الإسلامي وتتولّد معادلة جديدة يكون فيها الإنسان الشيعي حراً وسيد نفسه».



إنّا والله لا تضيق صدورنا بالانتقاد، بل ننتشي في غالب الأحيان، شريطة أن يكون الانتقاد انتقاداً حقاً من النحو الذي وجدناه من شخصكم الكريم، لا الذي نجده من غيركم، حيث الكذب والبهتان والتحريض والتسقيط وتشويه السمعة وما إلى ذلك مما نعلم دوافعه الدنيئة.





● جواب عاشراً: نعم الموقف موقفك، وهو لك ذخيرة يوم حشرك إن شاء الله تعالى. ولو أن الجميع حذا حذوك لما طال بنا الزمان حتى نرى هذا المنهج يسود بإذن الله تعالى، ذلك لأنه يفرض نفسه بتمامية أدلته وأقوائيتها.



وأما الشهرة - فعلى فرض إحرازها - فليست كاسرة، والتمثيل بالشهرة في عدم تحقق المغرب إلا بزوال الحمرة المشرقية تمثيلٌ خاطئ، فإن هذه شهرة فتوائية، أما تلك المدعاة فشهرة عملية. والكاسرة إنما هي الفتوائية لا العملية، إذ الحجة في فتوى الفقيه لا عمله، والفتوى هي مرادهم من قولهم: «عمل الأصحاب بكذا ولم يعملوا بكذا» فلا تغفل. نعم قد يُستأنس بعمل الفقيه ويكون شاهداً ومؤيداً أو داعياً للحمل، أما أن يكون بنفسه حجة مستقلة كاسرة فلا، ضرورة العلم بدخول المقتضيات والموانع الخارجية في عمل المكلَّف وإن كان فقيهاً متشرعا. فكيف إذا كانت الشهرة إنما هي للعكس أحرَز؟ أعني عمل الأصحاب - ولا سيما الأقدمين منهم - بما نعمل من الجهر بالبراءة بحسب الأدوات المتاحة لهم في أزمنتهم.



ولقد تقدّم منّا في الجوابيْن ذكر أمثلة ونماذج، كما تقدّم أنّا لا نجد خلو زمان من أصحاب هذا الخط المتجاهر بالبراءة، الذي نطق بالإدانة الصريحة لأمثال أبي بكر وعمر وعائشة، واستخدم في مؤلفاته أو مناظراته أو مواقفه مفردات حادة تجاههم أثارت حفيظة المخالف. وقد برز في هذا المضمار رجال عظماء أفذاذ، منهم أصحاب أخيار للأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام، ومنهم علماء أبرار منذ الغيبة الكبرى إلى زماننا عبر القرون، ففي القرن الرابع برز الصدوق والمفيد، وفي القرن الخامس برز أبو الصلاح الحلبي والكراكجي، وفي القرن السادس برز الرئيس الحلواني وابن شهراشوب المازندراني وصاحب الاحتجاج الطبرسي، وفي القرن السابع برز نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي، وفي القرن الثامن برز الفاضل المقداد، وفي القرن التاسع برز زين الدين النباطي العاملي، وفي القرن العاشر برز المحقق الكركي والقاضي الشهيد التستري، وفي القرن الحادي عشر برز العلامة المجلسي والمحدث الجزائري والشيخ محمد طاهر القمي، وفي القرن الثاني عشر برز صاحب الحدائق البحراني، وفي القرن الثالث عشر برز السيد محمد قلي الكنتوري وابنه صاحب العبقات ونظام العلماء التبريزي، وفي القرن الرابع عشر برز السيد مرتضى الفيروزابادي والسيد محمد كاظم الكفائي. والمسيرة مستمرة بعون الله تعالى.



وإنك لو طالعت في تراجم هؤلاء عند أهل الخلاف ونظرتهم لهم؛ لأدركتَ حجم الغيظ في نفوسهم منهم، وما ذاك إلا لما وقفوا عليه من طعونهم في رموزهم، فقد قالوا عن المفيد مثلاً: «هو شيخ الرافضة والمتعلم على مذاهبهم، صنّف كتباً كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم، والطعن على السلف الماضين من الصحابة والتابعين». وقالوا عن المرتضى مثلاً أنه كان يذم (الصحابة) وفي «كلامه شيء قبيح في تكفير عمر وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم».



وإن الذي يحمل بعض الشيعة على توهم أن الأدلة تنادي بترك تحدي أهل الخلاف في رموزهم وعقائدهم إنما هو الاضطهاد الذي عاشوه منهم عبر العصور، فكان أولئك الأفذاذ يرفعون هذا الوهم من حين لحين، مع أنه كان يغلب في بعض الأحيان حتى على أهل العلم من الأصحاب. راجع مثلاً ما سأل به السيد المرتضى شيخه المفيد من دعوى البعض عدم جواز المناظرة والمخاصمة عند الشيعة لأن الأئمة عليهم السلام بدّعوا فاعليها وذمّوا مستعمليها، فأجاب المفيد: «أخطأت المعتزلة والحشوية في ما ادعوه علينا من خلاف أهل مذهبنا في استعمال المناظرة، وأخطأ من ادعى ذلك من الإمامية أيضاً وتجاهل، لأن فقهاء الإمامية ورؤساءهم في علم الدين كانوا يستعملون المناظرة ويدينون بصحتها، وتلقى ذلك عنهم الخلف ودانوا به، وقد أشبعت القول في هذا الباب وذكرت أسماء المعروفين بالنظر وكتبهم ومدائح الأئمة عليهم السلام لهم في كتاب الكامل في علوم الدين وكتاب الأركان في دعائم الدين، وأنا أروي لك في هذا الوقت حديثاً من جملة ما أوردت في ذلك إن شاء الله. أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله عن أحمد ابن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، عن أبي جعفر محمد ابن النعمان، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال: قال لي: خاصموهم وبينوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالتهم، وباهلوهم في علي عليه السلام».



وراجع كذلك ما كتبه صاحب الاحتجاج الطبرسي رضوان الله تعالى عليه في ديباجة كتابه إذ قال: «ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب؛ عدول جماعة من الأصحاب عن طريق الحجاج جداً، وعن سبيل الجدال وإن كان حقاً، وقولهم أن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط ولا استعملوه، ولا للشيعة فيه إجازة، بل نهوْهم عنه وعابوه. فرأيتُ عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع والأصول مع أهل الخلاف والفضول».



إن الفكر الشيعي يتطور، وستنقشع هذه الغبرة بإذن الله تعالى، فيكتشف الجميع أن لا حرج في إعلان البراءة من أعداء آل محمد عليهم السلام، وأن المنع المتوهَّم من الأدلة عن ذلك غير ذي إطلاق، كما اكتُشف أن لا حرج في تحدي أهل الخلاف ومخاصمتهم ومناظرتهم ومجادلتهم، وأن المنع المتوهَّم من الأدلة عن ذلك غير ذي إطلاق.



وإن خير ما تجيبون به السائلين عنا هو ما ذكرتم، بيْد أنكم لو أردفتم ذلك بفتوى السيد المرجع كنتم مُفضِلين ولإجابتكم مكمِلين، فقد قال في رسالته العملية: «يجب إظهار الموالاة لله وللأنبياء والأئمة وفاطمة الزهراء عليها السلام؛ وهكذا يجب إظهار معاداة أعداء الله وأعداء الأنبياء وأعداء الأئمة وأعداء فاطمة الزهراء عليها السلام». وما أروع أن تلتزم الأمة بهذه الفتوى الشريفة فتعمل على (إظهار المعاداة) كما أفتى أدام الله ظلاله.





أنار الله دروبكم وزادكم نوراً وإيماناً وعلماً وعملاً.

والسلام.



النصف من شهر رمضان لسنة ست وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، ذكرى ميلاد السبط الأكبر الإمام أبي محمد الحسن المجتبى صلوات الله عليه.



ياسر الحبيب


مكتب الشيخ الحبيب في لندن

16 شهر رمضان المبارك 1436 هجرية


شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp