27 شهر رمضان ١446
الشيخ:
كان سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما، شديدًا على الطاغية الثالث عثمان بن عفان عليه لعنة الله، وشخصية محورية في الثورة الإسلامية الكبرى التي قامت عليه حتى أراح الله العباد منه.
كان إيمان عمار وتفانيه في الإسلام يأبى عليه السكوت وهو يرى ابن عفان يعبث بدين محمد صلى الله عليه وآله ويُحْدِثُ فيه ويُلبِسه ثوبًا يهوديًّا عبر مستشاره المقرب الماكر كعب الأحبار! وكانت مبادئ عمار تحتم عليه التحرك وهو يرى طغيان حكومة أموية يتزعمها حمال الخطايا وقد تفشى فيها الفساد والنهب للثروات العامة والتجبر واضطهاد المسلمين المستضعفين بمن فيهم أكثرهم إخلاصا وتقى كأبي ذر رضوان الله عليه، ذلك الرجل العابد الزاهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي اضطهده عثمان ونفاه حتى استشهد مظلوما غريبا في منفاه!
نعم؛ ما كان لعمار - ذلك البطل المتألق - أن يهدأ وعينه ترى كل هذا الكفر والظلم وهو ابن ذلك البيت العظيم الذي سطع نجمه بأول من عرفه الإسلام عند شروق شمسه من الشهداء! إنهما العظيمان؛ ياسر وسمية سلام الله عليهما، اللذين وقفا - على ضعفهما - في وجه طغيان قريش وتجبرها حتى عُذِّبا ذلك العذاب المهول وسُفكت دماؤهما الطاهرة قرابين للحق والعدل.
إن عمارا هو ابن هذين العظيمين وثمرة تربيتهما الصالحة، ولقد كان يرى في عثمان وقومه من بني أمية ظلَّ قريشٍ الجاهلية التي قتلت والديْه، رآهم يتسللون هذه المرة كالأفاعي تحت جلد الإسلام! فرفع لواء المعارضة والتحدي، وأخذ يؤلب جماهير المسلمين على رأس الشجرة الملعونة في القرآن، وصار صوته كالرَّعد الصاعق لـ (نعثل)! ذلك الاسم الذي أوضع خلال عثمان إذ شبهه بيهودي كافر!
هذا ما جاء في الخبر الصحيح عند البكرية، والذي مرَّ معنا البارحة، وها نحن نعيد الجزء المهم منه، حيث يقول أبو الغادية لعنه الله وهو في سياق تبريره لقتل عمار: «بينا أنا في مسجد قباء إذ هو يقول: ألا إن نعثلا هذا! لعثمان! فالتفت فلو أجد عليه أعوانا لوطئته حتى أقتله»! وفي خبر آخر عن أبي غادية قال: «سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان يشتمه بالمدينة! قال: فتوعَّدْتُه بالقتل! قلت: لئن أمكنني الله منك لأفعلن»!
والأخبار التي تثبت تأليب عمار جماهير المسلمين على عثمان؛ عديدة، إلا أن بعض ألفاظها تعرض للحذف على عادة البكرية حين تقع في مآزق الآثار المحرجة! فالخبر السابق الذي ورد في (الطبقات الكبرى) نجده أيضا في (المعجم الكبير) للطبراني ولكن الجملة التي تثبت شتم عمار لعثمان وتسميته بنعثل والتأليب عليه؛محذوفة! فراجع بنفسك (ج22 ص864).
وكذا فعل ابن قتيبة في كتابه (المعارف) فإنه ذكر ما كان بين سعد بن أبي وقاص وعمار من مهاجرة وقطيعة، وأدرج هناك رواية فيها لوم الأول للأخير. قال: «سعد بن أبي وقاص كان مهاجرًا لعمار بن ياسر حتى هلكا. وقال له سعد: إن كنا لنعدك من أفاضل أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظِمْءُ الحمار [وهو ما بين الشَّرْبتيْن، كنايةً عن القِصَر] أخرجتَ ربقة الإسلام من عنقك! ثم قال له: أيُّما أحبُّ إليك؛ مودة على دَخَلٍ أو مصارمةً جميلة؟ قال: بل مصارمة جميلة. فقال: لله عليَّ أن لا أكلمك أبدًا»!
والرواية كما ترى لا تبين سبب قطيعة سعد لعمار، إلا أن ابن قتيبة عاد وذكرها في كتابه الآخر (عيون الأخبار) بلفظ: «قال سعد بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: إن كنا لنعدُّك من أكابر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظِمْءُ الحمار فعلتَ وفعلتَ! قال: أيُّما أحبُّ إليك؛ مودَّةً على دَخَلٍ أو مصارمة جميلة؟ قال: مصارمة جميلة. قال: لله عليَّ ألّا أكلمك أبدًا».
وقوله: «فعلت وفعلت» معناه أن سعدا قد عدَّدَ أفعالًا ينقمها على عمار حتى آل الأمر إلى القطيعة بينهما. فما هي هذه الأفعال التي حذفوا التصريح بها؟
نكتشف ذلك حتى نقع على الرواية الأصلية غير المحرفة، والتي جاءت بسند صحيح في (تاريخ المدينة) لابن شبة عن ابن سعد بن أبي وقاص؛ محمد، إذ قال: «بعثني أبي إلى عمار رضي الله عنه حين قدم من مصر وبلغه ما كان من أمره، فأتيتُه، فقام وليس عليه رداء، وعليه قلنسوة من شعر، معتمٍّ عليها بعمامة وسخة، وعليه جبة فراء يمانية، فأقبل معي حتى دخل على سعد، فقال: يا أبا اليقظان! إن كنتَ عندنا لمن أهل الفضل، وكنت فينا مرجوا قبل هذا، فما الذي بلغني عنك من سعيك في فساد المسلمين والتأليب على أمير المؤمنين؟ فأهوى عمار بعمامته فنزعها عن رأسه. [إيماءً منه بخلع بيعة عثمان] فقال: ويحك يا عمار! أحين كبرت سنك ونفد عمرك واقترب أجلك خلعتَ بيعة الإسلام من عنقك وخرجت من الدين عريانا؟! فقام عمار مغضبا وهو يقول: أعوذ بالله من الفتنة! فقال سعد: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ألا في الفتنة سقطت يا عمار»!
فها أنت ترى أن أفعال عمار التي نقمها سعد حتى تطاول عليه وهَجَره تمثلت في التأليب على عثمان! وعندما قال ابن سعد: «بعثني أبي إلى عمار رضي الله عنه حين قدم من مصر وبلغه ما كان من أمره» فإنه يعني ما كان من أمر عمار في مصر، فالحقيقة أنّ عمارا رحمه الله أشعل أهل مصر وجيَّشهم على عثمان جراء تأليبه المستمر عليه حتى جاءوا إلى المدينة فقتلوه! وهذا ما تكشفه لنا رواية أخرى صحيحة السند أيضا في (تاريخ المدينة) فيها: «خرج عمار إلى مصر وهو عاتب على عثمان رضي الله عنه، فألَّب الناس عليه، وأشعل أهل مصر على عثمان رضي الله عنه، فكتب ابن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه: إن عمارا قدم علينا فأظهر القبيح، وقال ما لا يحل، وأطاف به قوم ليسوا من أهل الدين ولا القرآن، وكتب يستأذنه في عقوبته وأصحابه».
وهكذا كان معلوما لدى من لا يتغافل ولا يتعامى أن عمارا قتل عثمان بتأليبه عليه! لذا تجد ابن عبد ربه الأندلسي في (العقد الفريد) عندما نقل هذا الخبر نصَّ على أن تعريض سعد بعمار إنما هو «بقتل عثمان»! فقال: «وقال سعد بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد كنتَ عندنا من أفاضل أصحاب محمد، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظِمْءُ الحمار فعلت وفعلت! يعرض له بقتل عثمان! قال عمار: أي شيء أحب إليك؛ مودة على دَخَلٍ أو هجر جميل؟ قال: هجر جميل! قال: فلله عليَّ أن لا أكلمك أبدًا».
وإذا كانت الأخبار الصحيحة متطابقة على أن عمارا رضوان الله عليه قد شرك في دم عثمان بالتأليب وإشعال الناس عليه؛ فما يكون موقفك أنت أيها المسلم؟ أترى أن عمارا - والعياذ بالله - كان ظالما باغيا على عثمان؟ أم ترى عثمان كسائر الطغاة الذين عرفهم التاريخ، قد أجهز عليهم طغيانهم بعدما ضاقت أممهم ذرعا وثارت؟
أجب بعد رَوِيَّةٍ تراجع فيها إيمانك. وللحديث صلة إن شاء الله تعالى.
الشيخ:
— الشيخ ياسر الحبيب (@Sheikh_alHabib) March 28, 2025
كان سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما، شديدًا على الطاغية الثالث عثمان بن عفان عليه لعنة الله، وشخصية محورية في الثورة الإسلامية الكبرى التي قامت عليه حتى أراح الله العباد منه.
كان إيمان عمار وتفانيه في الإسلام يأبى عليه السكوت وهو يرى ابن عفان يعبث بدين محمد صلى الله… pic.twitter.com/9myqWqisUp