28 شهر رمضان 1446
الشيخ:
حينما يوقَف الفرد البكري على حقائق من قبيل التي مرت معنا في هذه السلسلة؛ فإنه يعيش صراعا نفسيا حادا، ذلك لأنه صُدِمَ بحقيقة أن سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما كان من قتلة عثمان بن عفان! وقد لُقِّنَ البكري من قبل أن قتلته ما هم سوى بغاة أوباش سبئية خارجون عن الإيمان، وعمار أحد أكابر «الصحابة» السابقين المشهود لهم بالجنة! وهذا يستدعي إعادة النظر في الموقف من عثمان، أو الموقف من قتلته بمن فيهم عمار.
فإلى أي ملاذ يتجه البكري؟ إنه في العادة يتجه إلى كهنته عسى أن يجد لديهم حلا لهذه المعضلة. وهؤلاء ليس في جعبتهم سوى مكررات غير مقنعة.
● يقولون له: دع عنك هذا فإن الله يقول: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)!
ويقال لهم: فلماذا لم تتركوه أنتم ولقَّنتمونا أن عثمان قُتِلَ مظلوما شهيدا وطعنتم على قتلته إلى أن فوجئنا بأن فيهم عمار! على أننا - نحن المسلمون - لسنا المخاطَبين بهذه الآية، وإنما المخاطَب بها اليهود والنصارى لإبطال احتجاجهم بأنهم أولى بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأنبياء عليهم السلام؛ وزعمهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا). وغاية ما يُستفاد من الآية إن سرَّينا الخطاب فيها إلينا أننا لن نساءَل عن أعمال مَن مضى، لا أنها تمنعنا من السؤال والتحري لتحديد الموقف الشرعي منهم.
● يقولون: فلم يصح أن عمارا قتل عثمان.
ويقال لهم: بلى! فأحاديث أبي الغادية صحيحة، وهي تثبت أن عمارا كان يشتم عثمان ويؤلب عليه ولذا توعده أبو الغادية بالقتل وقام بذلك فعلا ثأرا لدم عثمان! ثم هناك أحاديث سعد بن أبي وقاص، وهي أيضا صحيحة لغيرها، وتثبت أن عمارا قد أشعل أهل مصر على عثمان حتى قتلوه، ولذلك حلف سعد أن لا يكلم عمارا أبدا - أو العكس - ووقعت القطيعة التامة بين الطرفين.
● يقولون: إنما عنينا أن عمارا لم يباشر قتل عثمان بيده.
ويقال لهم: فابن سبأ المزعوم أيضا لم يباشر قتل عثمان بيده! وإنما كان المحرِّض والمؤلِّب، فكيف سمَّيتموه لعثمان قاتلا وصببتم لعناتكم عليه؟! وإذا كنتم لا تبرؤونه من دم عثمان فيلزمكم هذا في عمار، لأن فعلهما كان واحدا وهو التحريض والتأليب! كما أنكم اعتبرتم مفتيكم السابق في سوريا أحمد بدر الدين الحسون قاتلا وسجنتموه، مع أنه لم يباشر قتل أحد بيده، بل إنما كان يؤلب ويحرض نظام بشار على ذلك بزعمكم. ولقد نسب القرآن الحكيم لأهل الكتاب الذي كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله قتل الرسل في قوله: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، مع أن هؤلاء ما باشروا قتل الرسل بأيديهم ولا كانوا في زمانهم أصلا! ومع ذلك عدَّهم القرآن قتلةً لرضاهم بما فعل القتلة من قبلهم. وهكذا كان عمار، إذ كان راضيا بقتل عثمان، فمع أنه نفى لأبي موسى الأشعري مباشرته قتل عثمان بيده؛ إلا أنه أكد على أن قتله لم يَسُؤْهُ! بل وأقر في جوابه لمسروق بن الأجدع أنه قد شَرَك في قتل عثمان لما قد ارتكبه من ظلم، والرواية في ذلك في (تاريخ الطبري) وفيها أن مسروق بن الأجدع «أقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان! على مَ قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين. فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمَّه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان! أعدوْت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللتَ نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل، ولم يَسُؤْني»!
● يقولون: فعمار لم يكن راضيا بقتل عثمان وكان نادما على ما فرط منه إليه.
ويقال لهم: إنا لا نعرف شيئا صحيحا في الآثار من هذا الذي تدّعون! بل العكس هو الصحيح، فالمطالع للآثار لا يجد أي استعظام لدم عثمان من عمار، بل لا يجد منه سوى الاستخفاف والاستهانة! فلقد مرَّ تعبيره لأبي موسى الأشعري بأنه لم يَسُؤْه قتل عثمان، بل لقد كان يعتبر دم عثمان هدرًا لا قصاص فيه! والرواية في ذلك أخرجها البخاري في (التاريخ الأوسط) وهذا نصها: «حدثني موسى ثنا حماد، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن جده قال: كنا بعد عثمان، فقال أبو جهم: مَن بايعنا فإنا نُقِصُّ من الدماء. فقال عمار: أما من دم عثمان فلا! فقال: يابن سمية! أتقص من جلدات ولا تقص من دم عثمان»؟! فكيف بعد هذا يُزعم أن عمار كان نادما أو أنه لم يكن راضيا بقتل عثمان أو أنه استعظم سفك دمه؟! وهل هذا إلا افتئات على التاريخ؟!
● يقولون: فعمار قد أخطأ في حق عثمان كما يخطئ الإخوة بعضهم في حق بعض، وقد قال يوسف عليه السلام: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
ويقال لهم: هذا رد على المصطفى صلى الله عليه وآله! لأن البخاري يروي في (صحيحه) أن عمارا «قد أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم»، فلا يمكن أن نعتبر اشتراكه في قتل عثمان إثما أوقعه فيه الشيطان، بل هو سداد ورشد على اليقين، لأن عمارا خُيِّرَ آنذاك بين أمرين: أن يكون مع عثمان؛ أو أن يكون عليه، وقد اختار الأخير، وقد جاء في الحديث الذي حسَّنه الألباني والذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم عن عائشة قالت: «وأما عمار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يُخَيَّرُ بين أمرين إلا اختار أرشدهما - أو أسدَّهُما». وقد أمرنا صلى الله عليه وآله أن نهتدي بهدي عمار، كما في الحديث الذي صحَّحه الألباني والذي أخرجه الترمذي حيث قال: «واهتدوا بهدي عمار». وبناء على ذلك يكون ما صنعه عمار بعثمان حتى قُتِلَ؛ هدى ورشدا وسدادا لا محالة، وعلينا اتباعه، فقد جاء عن عائشة كما في (تاريخ دمشق): «ذاك رجل يتبعه الناس في دينه».
● يقولون: إنه مهما كان من عمار تجاه عثمان بحسب الآثار؛ فإنه لا يستدعي منا أن نراجع موقفنا من عثمان أو أن نشك في منزلته، فهو صحابي جليل وخليفة راشد تستحي منه الملائكة وقد بُشِّر بالجنة وأنبأ النبي صلى الله عليه وآله عن أنه يقتل مظلوما وفضائله كثيرة.
ويقال لهم: بلى! إن هذا يستدعي منا حقا أن نراجع موقفنا لأن كل هذا الذي يُحكى لعثمان من فضائل ومنازل لو كان حقا لما خفي على مثل عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وهو أتقى لله تعالى من أن يؤلب على قتل رجل من أهل الجنة وله كل هذه الفضائل! وهو أورع من أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله ينبئ بأن عثمان سيقتل مظلوما ثم يمضي بنفسه في ذلك حتى إذا تم أبطل دمه! إنه لا بد أن كل هذه الأحاديث المكذوبة والفضائل المزعومة قد نُسجت في مرحلة لاحقة زمان حكومة بني أمية قوم عثمان، حيث أوعزوا للوُضّاع بأن يضعوا لصاحبهم ما شاءوا، ولم يكن عمار ولا مَن في منزلته في الإيمان يعرفونها في زمانهم.
● يقولون: فلِمَ لا نقول بأن العكس هو الصحيح؛ وهو أن فضائل عمار هي المكذوبة الموضوعة؟!
يقال لهم: لأنها أولا مستفيضة عندكم بأصح الأسناد، وإذا أردتم التشكيك في صحتها فلن يبقى لكم حينئذ حجر على حجر إذ تهدمون علم الحديث عندكم! وثانيا لأنه لا سواء بين رجل أقام بنو أبيه دولة على رمزيته وقميصه ودمه فيكون من المصلحة السياسية وضع الفضائل والمناقب له؛ وبين رجل ليس له ولا لقومه أي شيء من ذلك، ولقد كان من بيت متواضع فيه عبد وأمة، لا هو برأس من رؤوس قريش ولا حزب من الأحزاب. فعلى أي أساس نفترض وضع الفضائل والمناقب لعمار وهو الذي كان يُشتم زمان بني أمية كما يشتم علي أمير المؤمنين عليه السلام؟! إن فضائل عمار - بالنظر إلى هذه الظروف الموضوعية - لا يمكن أن تكون إلا من الحق واليقين، فيما فضائل عثمان مشكوكة على أدنى تقدير بالنظر إلى عوامل المصلحة السياسية. والمؤمن لا يأخذ بالشك ويترك اليقين.
● يقولون: فإنّ اليقين في جانب عثمان فهو الأرجح كفة.
ويقال لهم: كلا! بل اليقين في جانب عمار وهو الراجح كفة، لأن ابن ياسر محل إجماع المسلمين دون ابن عفان، فإنه لا خلاف بينهم في أن القرآن الحكيم شهد بامتلاء قلب عمار بالإيمان، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «واتفقوا على أنه نزل فيه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)». وكل من يحتكم لكتاب الله تعالى ويطلب الفصل منه؛ لا يمكنه إلا أن يرجّح كفة عمار رضوان الله تعالى عليه، فتكون النتيجة: سقوط عثمان!
الشيخ:
— الشيخ ياسر الحبيب (@Sheikh_alHabib) March 29, 2025
حينما يوقَف الفرد البكري على حقائق من قبيل التي مرت معنا في هذه السلسلة؛ فإنه يعيش صراعا نفسيا حادا، ذلك لأنه صُدِمَ بحقيقة أن سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما كان من قتلة عثمان بن عفان! وقد لُقِّنَ البكري من قبل أن قتلته ما هم سوى بغاة أوباش سبئية خارجون عن الإيمان،… pic.twitter.com/4Yg8znsfpx