اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول مني في جميع الاشياء قول آل محمد عليهم السلام فيما اسروا وما اعلنوا وفي مابلغني عنهم ومالم يبلغني
الحمد لله رب العالمين وافضل الصلاة وازكى السلام على المبعوث رحمة للخلائق اجمين سيدنا المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم وظالميهم وجاحدي أمامتهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين .. آمين .
كنا قد انتهينا في المحاضرة السابقة الى أنّ طلب العلو والهيمنة والتفوق الحضاري الشيعي هو أمر حثّت عليه الشريعة المقدسة وأكدت عليه الأدلة القرآنية والحديثية على السواء ، وأنّ الذي يعطل وصولنا لذلك الموقع الذي نتطلّع إليه، أغلال وآصار وقيود في فكرنا العام أو في ثقافتنا العامه ، وليست تلك الأغلال والآصار والقيود بلازمة ، علينا بل هي في الواقع أجنبية عن روح الدين والشريعة ، فينبغي أن نتحرر منها لنمتلك السيادة على هذا العالم .
نحن نطلب السلطة ..!
و قد يوجّه في هذا المقام إشكال ، وهذا الإشكال يعتمد على قوله تعالى :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}. قد يقول المشكل إنّ هذه الآية علّقت الفوز بالآخرة على عدم أراده العلو في الأرض .. فليس من صفات المؤمنين المتّقين السعي إلى العلو والهيمنه في الدنيا وانما اهتمامهم بالدار الآخرة ، فلماذا نسعى للعلو والهيمنه فلنترك الدنيا بما فيها من متاع أيام قلائل ولنتفرغ إلى تقوى الله وعباده الله لنفوز بالدار الاخرة التي هي اكبر .
طلب العلو في الدنيا كان مثلا ؛ من صفات إسرائيل التي ذمها الله (تعالى) حيث يقول سبحانه : {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً}
يقول المشكل أفهل نضاهي بني إسرائيل فنطلب العلو في الدنيا ونعرض أنفسنا لغضب الله (تعالى) ؟ بمثل هذا الكلام قد يشكل على أصل هذه الدعوة والجواب :
إنّ العلو المذموم بل المحرّم هو ذلك الذي حكاه الله عن قول نبي ني إسرائيل موسى (عليه افضل الصلاة و السلام) حيث قال:{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}..
العلو المذموم المحرّم هو العلو على الله بمعنى طلب العلو و الهيمنة مع الكفر او الفساد او الإعراض عن ما أمر الله (تعالى)، العلو الذي يستلزم اعلاء كفر أو ظلم أو فساد أو ضلاله ، العلو لمجرد حب العلو والتجبّر و اغتنام الفرصة والهيمنة، هذا العلو الذي يفعله الطغاة و المتجبّرون والمتكبّرون اللاهثون وراء السلطة والهيمنه باي ثمن بلا مبادئ دينية أو أخلاقية. هذا العلو الذي وقع فيه بنو إسرائيل فذمهم الله (تعالى)، وهذا واضح من نفس الآية التي ذمت علو بني اسرائل، حيث إنّ في هذه الآية أنّ علوهم كان معطوفا على فسادهم يقول سبحانه :{ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} أولاً ، ثم { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً}. إذا كان علوهم مدميا على الفساد، على تجاوز الحدود الدينية، الظلم، التجبر، تحريف الكتاب وما شئت فعبّر ..
الخلاصه انه كان علوا على الله (تعالى) وتحديا او مناجزة له (والعياذ بالله) ،هذا العلو الذي يقود الى جهنم و(العياذ بالله) العلو المعطوف على الفساد ، والمستلزم للفساد والتأمل في نفس الآية التي اعتمد عليها في الاشكال يوضح لنا ذلك، يقول الله (عز و جل) :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين }.
إذاً العلو الذي يحرم الانسان من هذه العاقبة الحسنة في الدار الاخرة هو العلو الذي يكتنفه أو يستلزمه الفساد والافساد في الأرض، ولذا لم يقل الله تعالى : تلك الاخرة نجعلها للذين لا يجعلونها علوا في الارض وسكت بل أردف : ولا فسادا !.
حتى لا يتوهّم أحدٌ أنّ مطلق العلو مذوم، وإن لم يكن فيه فساد ، وحتى لا ينساق أحد وراء دعوات الرهبنه والتصوّف وما اليها من دعوات تحث على أن يترك المؤمن مطلقا ويتفرغ فقط إلى العبادة والتخشع ويصرف اهتمامه عن إقامة حكم الله في الارض، ويدع مال قيصر لقيصر أو مال عمر لعمر.لا، إنّ الاسلام دين لا يدعوا الى الانعزال و تقوقع في نطاق العبادات فقط، بل يدعو المسلم بان يغنم الدارين معاً ، الدنيا والاخرة . وإن يعلو بدينه فيهما معا ولذا خُوطب هذا المسلم بقوله (سبحانه):{ وانتم الاعلون}، ذلك العلو يكون بإقامه دين الله (تعالى) حتى يعم كل مجالات الحياة من عبادات و معاملات، وتلك وصيته (سبحانه) للأنبياء جميعا ثم لنا جميعا ، حيث قال سبحانه :{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدين}.
العلو الديني لا الدنيوي ..
إقامة الدين لا تعني أن أُقيمه على نفسي فقط، أو على عائلتي فقط . بل أن اقيمه على جميع الدنيا بما فيها، فيصبح كل ما يجري فيها متوافقا مع احكام هذا الدين، تصبح السيادة للقوانين الدينية كما تصبح الهيمنه للاسلام والمسلمين .من هنا يفهم إنّ طلب العلو الذي ندعو اليه ونحث عليه ليس مذموما بل هو ممدوح، بل هو في واقع الامر واجب. لأنّ الذي ندعو اليه هو طلب علو ديني لا دنوي بحت، انه ذلك العلو الذي فيه اعلاء لدين الله واقامه لمنهاج رسول الله واهل بيته الطاهرين (عليهم افضل الصلاة و السلام) ، العلو الذي يحقق العزة والكرامة للمؤمنين، العلو الذي يعم بخيره على جميع البشر من جميع الاديان والملل لانه ينشر العدل والامن والسلام والرفاه، المؤمن في طلبه للعلو لا يطلبه لنفسه انما يطلبه لدينه ويطلبه لحملة دينه.اؤلئك الذين إذا وصلوا الى موقع الصدارة والهيمه زاد خضوعهم لله (تعالى) وتواضعهم لعباده، اقتداءً بمولاهم امير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) ، انما هم شيعته، انما هم اتباعه يقتدون به .
روي عن ذاذان: "أنّ المولى امير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) في فترة حكومته كان يمشي في الاسواق وحده هو دال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القران ويقرأ : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}، ويقول (عليه افضل الصلاة و السلام) : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس ".
تفسير مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) يوضّح انه لا تثريب عليك في أن تكون واليا ، حاكما ... إذا عملت بالعدل والتواضع وكان هدفك من تولي هذا المنصب كهدف مولاك أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) إعلاء دين الله (تعالى) وإرشاد الضال، و إعانة الضعيف لأنك بذلك لا تريد العلو لنفسك بل تريد العلو للدين والحق ، والعدل ، تريد العلو للخير ، تريد العلو حتى تنقد الناس، حين ذاك يجعل الله الدار الاخرة والعاقبة الحسنى ويجعلك مع المتقين. أرجو أن لا يفهم كلامي هاهنا على انهُ دعوة سياسية لإقامة حكومة شيعيه عالمية ،أو أنّ قصدي من طلب العلو والهيمنة هو في هذا الاتجاه حصراً . أو انه رؤية لمشروع سياسي من هذا القبيل ! وإنما ما أدعو إليه بالأصل و مطلوبي الأساس هو تحقيق العلو الحضاري ، و الهيمنة الحضارية بكل أبعادها وصورها !
تفجير ثورات وانقلابات للسيطرة على الحكم !!!
إني لست من قبيل اولئك الذين قادهم الطموح الى دعوات لتفجير ثورات وانقلابات للسيطرة على الحكم لتصورهم ان اقامه دين الله (تعالى) في الارض لا يتم إلا بهذه الثورات والانقلابات والثورة السريعة على الحكم . نعم ! لا شك أنّ صيرورة الحكم إسلاميا شيعيا هو أمر لازم لإقامة الدين ، إلا أني أرى أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق بالوجه الصحيح الاكمل ، وبالوجه الذي يضمن الثبات والاستقرار بمثل هكذا خطوات اختزاليه تقفز على مراحل التهيئة أو تتجاوز على المقدمات اللازمة . إنّ هؤلاء ، ولست اعني المستعملين آلة الدين للدنيا من اصحاب الطموح الشخصي ، بل اعني العلماء المخلصين الذين ولجوا الميدان السياسي وسعوا إلى الحكم من اجل الدين فحسب !هؤلاء حيث سئموا الظلم والفساد المتفشي أرادوا تحقيق تغيير أشبه بالفوري ،وتصورا أنّ أسرع طريق هو امتلاك زمام الامور في السلطة ولو بغتة ، ثم معالجة واقع الامة بعد ذلك .
نؤسس لحضارة توسّعيّة غير متناهية ..
أني أرى هذا إجمالا مشروع غير مجدٍ كما أظهرت لنا التجارب ، إلا إذا كان هذا المشروع مرتبط بنحو ما بالقوى الاستعمارية أو الكبرى في العالم ، فان هذه القوى تتكلف بتتطويع الاوضاع وتكيفها لايصال الحليف أو لأستبقاء الحليف في السلطة، ولكن يتم عادة على حساب الدين . اني اطرح هاهنا مشروع اخر مختلفا لا يتضيق بدائرة السلطة انما يتوسع الى دائرة هي اوسع بكثير .
هي دائرة الحضارة ! وأقول إننا إذا استطعنا أن نهيمن حضاريا فإننا سنهيمن تلقائيا على السلطة ، أي ستكون السلطة التي تتشكل نابعة من نفس الحضارة التي سادت بعد تحقق هذا المشروع فلا يصاحب انتقال السلطة إلينا عندئذٍ أية قلاقل أو هزات يمكن أن تنطوي على خسائر في الأرواح مثلا ، لأنّ السلطة تعكس حينئذٍ الحضارة السائدة ؛ بمعنى أننا إذا استطعنا أن نجعل الشيعة هم الأكثرية وأصحاب الهيمنة على مفاصل الحركة الإنسانية العالمية ، و إذا استطعنا أن نجعل الشيعه اصحاب الهيمنة على مفاصل هذه الحركة ، فان السلطة التي ستتشكل حينئذ لن تكون إلا نابعة من هذه الاكثرية وتعكس حضارتهم في الشق السياسي، وحتى لو افترضنا أن ثمة حضارات متناثرة ستكون قائمة هنا و هناك فإن هذه الحكومات نظرا لهيمنه وسيادة الحضارة الشيعية ستكون خاضعة لهذه للتشيع بنحو او بآخر لن تكون في واقع الحال بعيدة عن التشيع إلا إسماً. اما في الأعم الأغلب وعلى الأرض فيما يتصل بواقع الانسان والمجتمع الذي تحكمه فان هذه الحكومات ستكون أيضا شيعيه بمعنى من المعاني .
من هنا يظهر ان هذا المشروع الذي نطرحه هو مشروع بعيد المدى وليس مشروع يرقب التغيير الفوري، بل هو مشروع ينشد التغيير على المدى الطويل وكأنه يبني هرماً من القاعدة للقمة لا العكس .مشروع كهذا هو الذي سيصمد إلا انه يحتاج الى نفس طويل ، صبر ، مثابرة!لآ ينبغي أن نتسرّع ونتهور الى تغيير فوري مفاجئ ، بل ينبغى أن نبني من القاع !كما كان يفعل الرسول الأعظم والأئمة الطاهرون (عليهم افضل الصلاة و السلام)، لقد بنوا حضارتهم من القاع ، ددققوا جيدا في حركة الرسول الاعظم (صلى الله عليه و آله و سلم) انه لم يخطو خطوة مفاجئة يستولي بها على السلطة، مع انه كان بامكانه ذلك ؛ إما بحركة انقلابية أو بقبول عرض المشركين عليه.
لقد عرضوا عليه أن يرأسهم وكان بإمكانه أن يقبل ذلك العرض ويتخلى تكتيكياً عن الدعوة إلى دينه إلى أن يحكم قبضته فيزيحيهم ويدعوا لدينه من جديد،إلا أنّ الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) رفض ذلك لأنه اراد أن يبني حضاريا من القاع !لقد عاش ثلاثة عشر سنة في مكة يؤسس لبنيان و تفاعل حضاري اسلامي تكون احدى نتائجه قيام حكومة اسلامية عادلة . وهكذا كانت جهود ثلاثة عشر سنة تمخضت في الاخير عن قيام حكومتين لا حكومة واحده ، أولاهما في الحبشة حين اسلم النجاشي عليه الرحمة ونزل على حكم الاسلام واقره النبي على حكومته ، والثانية في المدينة المنورة حيث تزعم رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بنفسه ثم تمددت هذه الحكومة لتشمل جميع ارجاء الجزيرة العربية في مدة لا تتجاوز عشر سنين .
هذا الذي تحقق كان نتيجة لمخاض حضاري بدأه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) حين جعل الاسلام يسود حضاريا اولاً، حتى سارت به الركبان فجعل الهيمنه لهذه الثقافة التي دخل فيها من دخل بايمان واخلاص و اقتناع، ودخل فيها ايضا من دخل بغير ايمانٍ ولا اخلاص ولا اقتناع .. لماذا ؟لأنه وجد نفسه غير قادر على الشذوذ عن الحالة السائدة ..فاضطر إلى الدخول في هذا الدين ، لأن هذا الدين هيمنة حضارياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً .... إلى ما هنالك .. لا انهُ هيمنة سياسيا وسلطوينا فحسب .الذي افهمه من منهاج رسول الله والائمة الطاهرين (عليهم افضل الصلاة و السلام) .. هو أن يكون البناء بعيد المدى يهدف بالدرجة الاولى الى تحقيق العلو الحضاري الاسلامي، وجعل الاسلام هو الثقافة المهينة السائده عند البشر ، ولا أرى في منهاج المعصومين (صلوات الله و سلامه عليهم) القيام بحركة استيلائية مفاجئة تؤخذ بها السلطة قهرا ، إلا في مقام الدفاع ووقوع الهرج والمرج ..
تحقيق العلو والهيمنة الحضارية ..
ذلك موضوع آخر ويحتاج علاجا آخر أما من حيث الأصل ، فالمعصومون (عليهم افضل الصلاة و السلام) اهتموا أولاً بتحقيق العلو والهيمنة الحضارية ، تكثير المؤمنين بهداية الناس الى الدين واقناعهم بتطبيقه على انفسهم و على مجتماعتهم .... ، ثم السيطرة تالياً على مفاصل الحركة الانسانية العامة ، هذا هو أس الأسس و قوام الجهود التي بذلها الأنبياء والأوصياء (صلوات الله و سلامه عليه) .. ليكون الدين كلهُ لله (سبحانه و تعالى) !
أما السيطرة على الحكومة بغير تلك المقدمات فلا نكاد نلحظها في سيرة المعصومين (صلوات الله و سلامه عليهم) فحتى حكومة امير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) جاءت بعد تلك المقدمات ، بعد صبر دام ربع قرن تقريباً سعى فيها الامير(صلوات الله و سلامه عليه) بهذا البناء الحضاري على مستوى الافراد و على مستوى الجماعات ايضا. لهذا نلاحظ مثلا في أواخر زمان الطاغية عثمان (لعنه الله عليه)، كانت اكثرية المسلمين تلهج باسم عليا خليفة وحاكما مع أنّ اكثرية تلك الاكثرية لم تكن عارفةً بحقيقة كون عليا اماما معصوما وحجة لله على خلقه ، انما اللافت إنها التجأت اليه مع انها من حيث النشأة خرجت من رحم الخلاف على اهل البيت (صلوات الله و سلامه عليهم) ، وجاءت من خط كان من أشد المحظورات عنده أن تعود السلطة الى اهل البيت (عليهم افضل الصلاة و السلام) ، على هذا لم يكن التجاءها الى علي (عليه افضل الصلاة و السلام) رغم ذلك البعد في المسافة الفكرية إلا انها كانت قعد خضعت تاليا للفكر الحضاري الشيعي الذي ساد آنذاك في خطوطه العريضة .
لقد جاء هذا بعد جهود مضنية بذلها تلامذة الإمام وشيعته القلائل ، من أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد و عمار و أبناء سعيد ابن العاص و حكيم ابن جبله ومالك الأشتر ، ومحمد ابن ابي بكر وامثالهم (رضوان الله عليهم) ..
الذي طفقوا يلفتون الأمة إلى حق علي (عليه افضل الصلاة و السلام) ويروّجون علمه وتعالميه من جهه ، ويتصدون من جهة أخرى لتصديع البناء الثقافي المنحرف الذي أقامه أبو بكر و عمر وعائشة وعثمان ومعاوية وأبو هريرة وأمثالهم (لعنة الله عليهم) ..لقد حمل أولئك الشيعة الاوائل مهمة تصديع بناء هؤلاء المنحرفين والمنافقين حتى تتحقق السيادة الحضارية الشيعية التي تكون هيمنتها على أجواء كفيلة لألفات الناس الى حق علي (عليه افضل الصلاة و السلام). من هنا ساد الشيعي وإن تفاوتت مستويات استيعاب هذا الفكر عند افراد الامة و قبائلها وجماعتها ، إلا أنّ المهم انه بعد ربع قرن من الجهود المضنية المتواصلة وبعد سيادة شيعيه حضارية امتددت لسنوات قلائل في الاخير وجدنا حكومة عادله يتزعمها الامام (عليه افضل الصلاة و السلام) كانت نابعه من الاكثرية التي خضعت لتلك السياده الحضارية .
إذاً المطلوب اولا وقبل كل شي ، تحقيق السيادة الحضارية الشيعية وهذا يكون بطلب العلو والاعداد المحكم لوصول الشيعة لأعلى المواقع في شتى الابعاد والمجالات ،وينبغي أن نكون اصحاب نفس طويل، أعني انه ينبغي لنا لتحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي الكبير أن نتحلى بالصبر، الاهداف الكبيرة لا تتحقق برهة كما هو واضح انما تحتاج الى مراحل ومراحل ..
لا اعني هاهنا .. أن نتباطأ أو نتماهل !
كلا على العكس من ذلك .. أني ادعو الى تسارع في وتيرة العمل بأقصى طاقة ممكنه ، انما الذي اقصده .. أنه لا يصح أن نختزل المراحل وننشد تحولا سريعا ونتوقع نجاحا قريبا بسبب مللنا من بقاء الوضع الحالي !لا يصح أن نتجاوز الواقع ونقفز على مراحل العمل لاننا نتأمل أن نشهد النجاح بانفسنا ..المهم هو أن نبدأ المسير في هذا الاتجاه بعد وضوح الرؤية فإن لم يتحقق النجاح ولم نصل الى المطلوب في زماننا .. فسيصل اليه أبناءنا في زمانهم وأن لم يصلوا فسيصل اليه احفادنا في زمانهم ..
المهم هو أن يكملوا هم ما بدأناه نحن ، وأن لا يحدث انقطاع في مسيرة العمل على استعاده السيادة الشيعية ، وهذا يتطلب منا بطبيعة الحال أن نربي ابناءنا على هذه الروح الثائرة وأن نزرع فيهم هذا الامل ليكون حاضرا في أذهانهم ، لا ينسونه على مر الايام الى ان يتحقق باذن الله (تعالى) ..
السيادة الشيعية وعقدة النقص ..
مشكلة كثيرين منا هي عدم وجود مثل هذا الامل في نفوسنا !الامل بأن يكون الشيعة سادة العالم!بل لعل كثير منا إذا طرح عليهم مثل هذا الطرح يعتبرونه ضربا من الخيال ، وما ذلك إلا لأنهم يعانون من تلك الآصار والأغلال التي تحبسهم عن التطلع الى القمه بل وتمنعهم عن اية خطوة تغيرية للواقع .كثيرون يتصوّرون أنّ السيادة الشيعية لا يمكن أن تتحقق إلا مع ظهور مولانا المهدي الموعود (صلوات الله و سلامه عليه و عجل الله فرجه الشريف و نحن معه) ولذلك هم يحرمون أنفسهم من العمل على استعادة السيادة لتوهمهم إما حرمة هذا العمل ، أو انه لا يمكن أن يفضي هذا العمل الى نتيجة ؛ فالسيادة لا تكون إلا في زمن الظهور اما قبل ذلك فما علينا إلا قبول الوضع السائد والتكيف معه وتحمل الويلات والمصائب و الاحتساب بالاكثار من قولنا حسبنا الله ونعم الوكيل لا اكثر ولا اقل ..هذا التصور خاطئ على اطلاقه ويحتاج الى تصحيح ، وهو أحد الاغلال التي يجب التخلص منها .
بدايةً لا يمكن انكار أنّ السيادة الشيعية في صورتها الاكمل لا تتحقق إلا بظهور صاحبنا (عجل الله فرجه الشريف) حين يُذهب الله عن الشيعة عاهة الخوف والجبن والانهزامية والتقية المغلوطة التي حبستهم عن التطلع الى القمم ، ويجعل قلبوهم كزبر الحديد في القوة والبأس فيصبحون اثر ذلك حكام الارض .هذا المعنى ثابت في الروايات الشريفة ومنها ما رواح شيخنا الصدوق بسنده عن امامنا زين العابدين (صلوات الله و سلامه عليه) يقول : { إذا قام قائمنا أذهب الله عزوجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد ، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلاً ، ويكونون حكام الاَرض وسنامها }.
ومعناه :
إذا قام قائمنا أذهب الله (عز وجل) عن شيعتنا عاهه الانهزام والخوف والجبن ، وجعل قلوبهم كاحجار الحديد الضخمة التي يضرب بها المثل في القوة و الباس وجعل قوة الرجل منهم قوة اربعين رجلا ويكونون حكام الارض وسنامها، والسنام هو اعلى ظهر الناقة فالمراد أنهم يمتلكون حينئذٍ السيادة العليا على العالم ويغدون في القمة ، وهذا ما يؤكد أنّ السيادة في صورتها الاكمل لا تتحقق إلا في زمن الظهور وهي تلك السيادة المطلقة، السيادة في صورتها الاكمل التي تعم كل ارجاء الارض بحيث لا يبقى شبرٌ خارج عن تلك السيادة .
أما تحقق شيءٍ ولو الجزئية ، فهذا ممكن في زمان الغيبة وليس محالاً، وإلا لما حدثتنا الروايات عن قيام حكومات شيعية قبيل الظهور، كحكومة اليماني و حكومة المغربي وحكومة الخراساني .. كثيرون مع الاسف لا يدقّقون في هذا الامر، و يتعاملون في هذه الرويات في اطار ذكر علامات قرب الظهور فقط، ويتصوّرون أنّ اليماني مجرد قائد كتيبة وكذلك الخراساني والمغربي وأنّ هؤلاء يبايعون صاحب الامر (صلوات الله و سلامه عليه) عند ظهوره .. هذا فحسب .
المطلوب هو التدقيق في مجموع الروايات حول هؤلاء وماذا نستفيد منها ،هؤلاء ليسوا إلا رجالا صالحين يدعون الى آل محمد (صلوات الله و سلامه عليهم) ويؤلمهم بقاء الشيعة تحت الظلم والجور والاضطهاد فينهضون ثائرين فيؤسسوا كل واحد منهم حكومة تملك قطعه من الارض ، فاليماني يحكم اليمن وما حولها، والخراساني يحكم خراسان وما حولها والمغرمي يحكم المغرب شمال افريقيا حتى يصل الى الشرق، الروايات الشريفة اثنت على هؤلاء واعتبرت راياتهم رايات هدى ، إلا أنّ اليماني أهداهم أي أكثرهم صلاحا وإيمانا وقربا من الحق، وإن كان الكل على الصلاح والإيمان والحق إلا انه الاقرب .
الشاهد .. أنّ هؤلاء كما نرى يتركون التقية وينهضون لإستعادة السيادة الشيعية وتنبؤنا الروايات عن أنهم سينجحون في ذلك .. كلٌ في نطاقه وحدوده الجغرافية وقد نالوا بذلك الثناء من الائمة الاطهار (عليهم افضل الصلاة و السلام)، بل الحث على مبايعتهم والدخول معهم والزحف اليهم، وكل ذلك قبيل ظهور (صلوات الله و سلامه عليه وعجل الله فرجه الشريف ونحن معه) ، فكيف يقال بعد هذا بأنّ تحقيق السيادة الشيعيه في زمن الغيبة محال !
هؤلاء انما يسعون لتحقيقها وسيحققونها ولو في بعض نطاقاتها الجزئية وهم محل ثناء الائمة الاطهار (صلوات الله و سلامه عليهم). هكذا أنبأتنا الروايات بل اني استفيد من مجموع هذه الروايات الشريفه انها في مقان الحض على أن يبني كل منا نفسه ايمانا وعملا ليكون احد هؤلاء القادة العظام . كل شيعي يمني يمكن أن يصبح هو اليماني، وكل شيعي خراساني يمكن أن يصبح هو الخراساني، وكل شيعي مغربي يمكن أن يصبح هو المغربي وهكذا ...
المطلوب من كل واحد منا أن يسعى لإستكمال حقيقة الايمان ويمهد لظهور مولانا صاحب الزمان (صلوات الله و سلامه عليه) وليس التمهيد للظهور بمثل هذا العمل على تحقيق السيادة الشيعية، على اننا على ما قلنا آنفا لا نحصر تحقق السيادة بمتلاك حكومة على الارض، بل ولا نجعل ذلك هو صلب هذه الأطروحة، إنما نطلب سيادة حضارية يكون فيها الاكثرية شيعة، وفكرهم هو السائد وثقافتهم هي السائدة يعيشون احرار في القمة لا يخشون احدا إلا الله (سبحانه و تعالى)، ينعمون بالتقدم والرفاه في كل المجالات وهم في كل موقع ديني أو علمي أو دنيوي في القمة دائماً ! هذا هو الهدف الذي نتجه اليه ، وهو هدف كما بينا معقول ومشروع ..
إنّ من حق الانسان أن يتطلع الى التفوق الحضاري ، ومن حق الانسان الشيعي أن يعد نفسه ليكون في موقع القيادة والصدارة ، فهو يحمل معه نور محمد وال محمد (صلوات الله و سلامه عليهم) ! من حق الامة الشيعيه أن تطرح نفسها امة مهيمنة كما تطرح الامم الاخرى نفسها .. يبقى طرح الامة الشيعيه لذلك لا يكون عبر الجبر والاكراه والقهر والغلبة ، انما هو طرح ينبي على القناعة والاقناع ! نريد أن نقنع الامم اننا نملك صياغه جديدة لهذا العالم هي الصياغه الافضل. نريد أن يتعرف العالم على المنهج الحضاري الشيعي الذي هو افضل منهج لمعالجة المشكلات البشرية ولانقاد البشرية من الدمار والخراب والتخلف والامراض على اختلاف انواعها سواء كانت امراض بدنية او نفسية او فكرية او اخلاقية .نريد أن يفهم الجميع أنّ هاهنا صياغة فكرية هي المثلى تتفوق على ما جاء به الشرق والغرب .
بمثل هذه الثقة العالية يجب أن نقدّم انفسنا الى الامم العالمية، أننا نحن القادة ، نحن المفكرون الذين نحمل معنا الحلول والافكار التي تنهض للواقع البشري الى اعلى مستوياته، لقد جربت البشرية جميع الصياغات والاطروحات الفكرية الاخرى ، شيوعية واشتراكية وليبرالية رأسمالية وغيرها ، ولا اريد أن اسمي الاطروحات البكرية لما فيها من ووهن وضعف يجعلها بعيدة عن مضمار السباق الحضاري. انما اريد أن اقول أنّ البشرية جربت جميع هذه الصياغات المطروحه ورأت الفشل .
التي اعتمدت على المادة والمال اساس لكل شيء ولولا أنّ أزمة الامور العالمية بيد حكوماتها من جهه ، ولولا أنّ فيها شيئا من الانصاف الاجتماعي من جهه اخرى لما استمرت هذه البرالية الراسمالية ولسقطت كما سقطت الشيوعيه ، وليس بين هؤلاء وهؤلاء إلا ما اسميه الانسان الآلة التي تعتمدها تلك الدول الآسيوية كالصين واليابان وكوريا ، والتي حولت البشر هناك لمجرد آلآت يعملون ليل نهار في التصنيع والتصنيع إلى أن تنقضي حياتهم ولا مجال لهم للسمو الذاتي ابدا بل ولا حقوق لهم ولا كرامة، انما هم الالات. قيمة كل امرء منهم مقدار ما يقضيه في ساعات العمل في التصنيع ثم يكب كالنفاية عندما يضعف عن العمل وتنتهي صلاحيته !
إذا آن الاوان للبشرية لأن تكتشف أطروحة جديدة ، وتجرب المنهجية الشيعية التي هي منجية الاسلام الحق المأخوذ عن الرسول الاعظم والعترة الطاهرة (صلوات الله و سلامه عليهم) التي تعامل الانسان كانسان لا يُظلم ولا يَظلم ، وتحقق لهذا الانسان السمو الذاتي والرفعه الدنيوية ايضا بلا مصادرة لإنسانيته ولا استعبادٍ له ولا اغراء له بالقبيح والانفلات عن كل ضابط اخلاقي ، نحن إذاً نبشّر بعالم جديد يسود فيه الشيعة لسيادة حضارتهم وينعم فيه الجميع ظل تلك السيادة بالخير والسمو والسعادة و الرفاه ، إنّ مهمتنا نحن الشيعة أن ننظر بهذه العين الشمولية إلى آفاق الحياة ولا ننغلق على انفسنا و مجتمعاتنا المحلية.
علينا أن نتخلص من العاهات والاغلال التي تمنعنا من أن نتقدم في هذا الركب الحضاري لنسود ونقود .
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم و أعدائهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم اجمعين الى قيام يوم الدين .. آمين