أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمان الرحيم
القول مني في جميع الأشياء قول آل محمد )عليهم السلام( في ما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وما لم يبلغني ,الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأزكى السلام على المبعوث رحمة للخلائق أجمعين سيدنا المصطفى محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم وأعدائهم وجاحدي إمامتهم ومخالفيهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين..آمين
الموقف الثالث للعزّة وترك المهانة ..
هذا هو الموقف الثالث والموقف الأخير الذي وعدنا بعرضه في سياق ذكر مواقف أئمتنا (عليهم الصلاة و السلام) في مواجهة من تقصد الإهانة والإذلال. هذا الموقف يرويه الطبرسي صاحب الإحتجاج وابن شهرآشوب صاحب المناقب رحمهما الله ،وفي هذا الموقف درس عظيم لنا في كيفية التعامل مع من يريد الإنتقاص منا. تقول الرواية عن محمد ابن السائب:" قال مروان ابن الحكم(لعنة الله عليه) يوماً للحسين ابن علي (عليهما الصلاة و السلام) : لولا فخركم بفاطمة بما كنتم تفتخرون علينا ". مروان )لعنه الله( كان آن ذاك حاكماً للمدينة من قبل معاوية )لعنه الله( ، وأراد مروان بهذا الكلام أن ينتقص من شأن الإمام الحسين )عليه افضل الصلاة و السلام( ومن شأن أهل البيت )صلوات الله و سلامه عليهم) بدعواه أن ليس لهم شيء يفتخرون به سوى انتسابهم إلى فاطمة (عليها أفضل الصلاة و السلام) ومنها إلى النبي (صلى الله عليه و آله).
قد لا تبدو هذه الكلمة جارحة إلا أن المراد منها هو الإنتقاص وهذا الإنتقاص ,وإن كان أخف من الإذلال إلا أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لم تجزه أيضا. أي لم يسمح لنا أئمتنا (عليهم السلام) بأن نتجاوز عن انتقاص المنتقصين لنا ما دام هدفهم من وراء ذلك انتقاصنا بما يعود إلى انتقاص ديننا أوكرامتنا. لهذا نجد الإمام الحسين (عليه الصلاة و السلام) رد على مروان (لعنه الله) بأسلوب هو من أشد ما يكون ، إنه لم يكتفي بالرد عليه لفظياً وإنما أضاف إلى ذلك الرد عليه جوارحياً أضاف إليه الرد عليه عملياً.
تقول الرواية:" أنه بعد ما قال مروان للإمام (عليه افضل الصلاة و السلام) هذا الكلام وثب الحسين (عليه افضل الصلاة و السلام ) عليه وكان (عليه السلام) شديد القبضة فقبض على حلقه فعصره ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه ثم تركه. وأقبل الحسين (عليه افضل الصلاة و السلام) على جماعة من قريش فقال : أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن صدقت ، أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني ومن أخي أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي. قالوا لا قال: وأني لا أعلم في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه طريدي رسول الله صلى الله عليه وآله ، والله ما بين جابرس وجابلق أحدهما بباب المشرق والآخر بباب المغرب رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان) ]يخاطب مروان ابن الحكم[ وعلامة قولي فيك أنك إذا غضبت سقط ردائك عن منكبك قال فوالله ]الراوي يقول[ ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض وسقط رداءه عن عاتقه".
ماذا نلاحظ؟
نلاحظ هنا أن مروان قال كلمة خفيفة بالقياس إلى غيرها ،إنه لم يقل سوى لولا فخركم بفاطمة(صلوات الله و سلامه عليها وآلها الطيبين الطاهرين) بما كنتم تفتخرون علينا. هذه كلمة خفيفة بالقياس إلى غيرها لكن حيث أراد بهذه الكلمة الإنتقاص فإن الإمام (عليه افضل الصلاة و السلام) رد عليه بأشد أسلوب ,حتى لا يتجرأ مروان(لعنة الله عليه) على ما هو أعظم من هذا في المستقبل. لقد وثب الإمام (صلوات الله و سلامه) وقبض على حلقه وعصره حتى كاد يخنقه ,ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه وطرحه أرضاً ,وأهانه ولعنه ولعن أباه وأستهزأ به. كل هذا لأن الرجل قال لولا فخركم بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا ,هذا فقط ماذا نتعلم من هذا الموقف ؟
نتعلم منه أنه لا يصح أن نغضي عن من يحاول انتقاصنا من الظالمين والمنافقين أو رؤوس الكفر والضلالة. فما يقال إذاً وما يروج عن ضرورة الإغضاء عن هؤلاء من باب الإغضاء عن المسئ أو الإحسان إلى المسئ هذا الذي يقال هو نوع من التجهيل ،التجهيل الذي يمارسه البعض لإبقاء الشيعة أذلاء جبناء. إن هؤلاء الذين يمارسون عملية التجهيل يقولون للشيعة أحسنوا إلى من أساء إليكم وأعرضوا عنهم فهكذا كان أئمتنا (عليهم السلام) يعفون عن المسيئين ويتجاوزون حتى عن من يسبهم. وترى معظم الخطباء اليوم ينقلون قصة الحسين (عليه افضل الصلاة و السلام) مع ذالك الرجل الشامي الناصبي الذي أساء إليه وكيف أن الإمام (عليه افضل الصلاة و السلام) عامله برفق ولطف ولم يرد على إساءته بالإساءه بل قابلها بالإحسان ,مما سبب أن يترك ذالك الرجل نصبه ويتحول إلى محطة أهل البيت (عليهم افضل الصلاة و السلام) حاصل القصة معروفة.
ومع ذالك نحن ننقل نصها وهي مروية عن عصام ابن المصطلق قال:" دخلت المدينة فرأيت الحسين ابن علي (عليهما السلام) فأعجبني سمته ورواءه ]يعني هيبته[ وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض ]لأن الرجل ناصبي كان ناصبيا[ فقلت له أنت ابن أبي تراب فقال نعم فبالغت في شتمه وشتم أبيه فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف ثم قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمان الرحيم خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين وإن ما ينزغنك نزغ من الشيطان فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون واخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ثم قال لي ]يقول الحسين لعصام[ خفّظ عليك أستغفر الله لي ولك أنك لو استعنتنا لأعناك ولو استرفدتنا لرفدناك ولو استرشدتنا لرشدناك قال عصام فتوسم مني ]يعنى رأى الحسين(صلوات الله و سلامه عليه) مني توسم مني الندم على ما فرط مني شعرت بالندم لأن الإمام(عليه افضل الصلاة و السلام) إنما قابلني بالعطف وبالرأفة والمودة[ فقال (عليه السلام) لما توسم منه الندم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. أمن أهل الشام أنت ؟ يساله الإمام قلت نعم فقال : شنشنة أعرفها من أخزم ]هذا عجز بيت لرجل هو أبو أخزم كان في الجاهلية وكان ابنه أخزم معادياً عاقاً بأبيه ومات هذا الإبن فأحفاده أو ابناء هذا الإبن وهم أبناء أخزم كانوا يعاملون جدهم بخشونه وبأسلوب وقح وكانوا يؤذونه إلى أن بلغت بهم الوقاحة أن يشجوا رأسه[ فقال: وقد كان قد عمي ]هذا أبو أخزم كان قد عمي[ فقال: شنشنة أعرفها من أخزم ]أي هذه عادة أعرفها من ابني أخزم وقد انتقلت إلى أبناءه فمقصود الحسين (عليه افضل الصلاة و السلام) من الاستشهاد بهذه المقولة أنك أنت حيث أنك من أهل الشام وقد تربيت على النصب والعداوة والكره والبغض لنا أهل البيت ,فهذه شنشنة أعرفها من أخزم أنك لما شتمتني وتطاولت عليّ عرفت أنك من أهل الشام[ قال أمن أهل الشام أنت قلت نعم فقال شنشنة أعرفها من أخزم حيانا الله وإياك انبسط الينا في حوائجك وما يعرض لك تجدني عند أفضل ظنك ان شاء الله تعالى قال عصام فضاقت علي الأرض بما رحبت وودت لو ساخت بي ثم سللت منه لواذاً ]يعني انسحبت من المكان وبسرعة انسحبت وما على الأرض أو تسللت[ وما على الأرض أحب إلي منه ومن أبيه ثم سللت منه لواذا وما على الأرض وأنا بحياء] كلي حياء وخجل[ ثم سللت منه لواذا وما على الأرض أحب إلي منه ومن أبيه".
معظم الخطباء ينقلون هذه القصة وقد لا يعرفون شيئا عن القصة الأخرى قصة كيفية تعامل الإمام (صلوات الله و سلامه عليه) مع مروان التي نقلناها آنفاً لا يجري الخطباء مقارنة بين الموقفين حتى يعلم الناس كيف يتصرفون ومتى يغضون الطرف إلى الإساءة أو يبادلوا صاحبها بالإحسان ومتى لا يغضون الطرف عنها بل يبادلوا صاحبها بما هو أشد وأعظم. إن الإمام (عليه وآله الصلاة و السلام) هو الإمام في كلا الموقفين فلماذا تغيّر تعامله في كل منهما؟ هذا هو الذي يحتاج إلى بيان من الخطباء حتى يتحقق التوازن عند المستمعين والمتلقين.
توضيف ادعياء التشيّع قصّة الحسين صلوات الله وسلامه عليه مع الرجل الشامي ..
إن بعضهم يوظّف قصة الحسين (عليه وآله الصلاة و السلام) مع الرجل الشامي المخدوع توظيفاً في غير محله, ويأخذها بعض الماكرين المنتحلين للتشيع أيضا ليلقّنوا بها الشيعة تلقيناً ماكراً يبقيهم جبناء أذلاء أمام القوى المعادية للتشيع. حتى يدعون الناس إلى أن لا ترد على من يهينهم من كبار المعاندين كبار المعادين. ليس الأمر هكذا بل الأمر أن الإغضاء عن المسيئ مقابلة المسيئ بالإحسان إنما يكون هذا في حال احتملت أن يهتدي ذلك المسيئ. أي أنك إذا رأيت من أساء إليك أنه مجرد مخدوع بسبب الدعاية وهو قابل للهداية أو تحتمل فيه الهداية فأحسن إليه وقابل إساءته بالإحسان ,وتعامل معه بلطف كما تعامل الحسين (عليه وآله الصلاة و السلام) مع الرجل الشامي.
مع من يكون اللين و مع من تكون الشدّة ؟
أما إذا وجدت من أساء إليك غير قابل للهداية أي أنه كان معادياً أصيلاً ناصبياً لعيناً رأساً من روؤس أهل الكفر والنصب والخلاف ,أو كان طاغية من الطغاة فينبغي عليك حين ذاك أن تتعامل معه مثلما تعامل الحسين (عليه وآله الصلاة و السلام) مع مروان (لعنه الله) ,في ذلك الموقف الذي عصر فيه حلقه ولوى عليه عمامته وطرحه أرضاً حتى غشي عليه هؤلاء الطغاة ورؤوس الكفر والنصب لا يصح أن تغضي عنهم إذا ما أرادوا إذلالك ,بل لا يصح أن تغضي عنهم إذا ما أرادوا الإنتقاص منك بمجرد الانتقاص. لا تغضي عنهم بل تعامل معهم بأشد ما يكون من أساليب التعامل لا تمرر لهم كلمة حتى تقابلها لهم بعشر استعمل معهم أشد الألفاظ وأذهب إلى أبعد مدى في جرحهم وثلبهم وتعييرهم والإستهزاء بهم. لأن الشارع المقدس أسقط كل حرمة لهؤلاء المجرمين. هذه هي الروح الحسينية الأصيلة هذا ما ينبغي لكم أيها الشيعة أن تتعلموه من أئمتكم (عليهم افضل الصلاة و السلام). إن الأمة التي يتحلى أفرادها بهذه الروح هي الأمة التي يمكن لها أن تسود العالم. إن مشكلتنا مشكلة نفسية بالأساس ,معظمنا يجبُن ويضعف ويستمرء الذل والهوان ويظن أن ذالك من الصبر أو التقية أو مجازاة الإساءة بالإحسان ,هذا المفهوم نحتاج إلى تصحيحه في أعماق أنفسنا. علينا أن نعوّد أبنائنا على الشجاعة والإباء. نعوّدهم إلى عدم الرضوخ لأحد مهما يكن الأمر . علينا أن نفهم متى يكون اللين ومتى تكون الشدّة ؟ اللين مع المخدوعين مع العوام مع المستضعفين مع الكافر الذمي مع المخالف المسالم هؤلاء نعاملهم باللين. أما الطاغي أو المجرم أو الناصب أو الكافر أو المخالف الحربي أو المنافق المضلّل الذي يفسد الدين من الداخل فليس لهؤلاء إلا الشدة والغلظة {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبأس المصير} {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} شدة و غلظة على من يستحق.
قد تقول هنا إنه لم يكن في زمان موسى وهارون (على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام) أكفر وأطغى من فرعون (عليه اللعنة) ,ومع ذاك كان التوجيه الإلهي لموسى وهارون (على نبيّنا و آله وعليهما الصلاة و السلام) {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا} فإذا كان الإمر هكذا من دعوة موسى وهارون(على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام) إلى أن يقولا القول اللين لأطغى وأكفر من كان في زمانهما فكيف يدعى إلى الشدة مع الطاغي وأضرابه؟ الجواب تجدونه في تتمة الآية. ماذا يقول الله (تبارك و تعالى) في تتمة هذه الآية ؟ {لعله يتذكر أو يخشى} فلأجل هذه وحتى لاتكون حجة على فرعون يوم القيامة إذا بُدء معه بالشدة والعنف. لأجل هذا أمر الله (تعالى) أن تُبدء فرعون بدعوته إلى الإسلام والكف عن الظلم باللين. وهكذا الحال مع كل من يوجه إليه خطاب الإسلام في بادئ الأمر يبدأ معه باللين ,ثم إذا جحد وعاند واستمر في كفره وطغيانه حلّت الشدة محل اللين والغلظة محل الرقة.
تواجه هؤلاء الجاحدين المعاندين الظالمين بأقسى خطاب ممكن لأنه لايمكن مواجهة تعديهم وظلمهم إلا بذلك. يستحقون خطاباً قاسياً يستحقون تعاملاً قاسياً هكذا تعامل إبراهيم الخليل (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) والذين معه من المؤمنين. هكذا تعاملوا مع قومهم الظالمين يقول الله (تعالى): {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده} ,من الواضح أن هذا ليس من القول اللين. هذا ليس من القول اللين في شيء خطاب فيه {إنا برآء منكم} {كفرنا بكم بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا} مثل هذا الخطاب ليس خطاباً ليناً بل هو خطاب غليظ شديد وهذا هو محله أن يوجه إلى أؤلائك الجاحدين المعاندين الظالمين المعتدين.
إذاً هذا هو الميزان الرقة واللين والمودة للمسالمين للمستضعفين للخيرين للقابلين لأن يهتدوا. أما الغلظة والشدة والعداوة فَللمعتدين والمعاندين وأهل السوء {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين *إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم عن دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون} {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} {يا ايها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور}. المؤمن هو الذي يتوازن في أفعاله بميزان الشرع. فلا يفرّط يعرف كيف يقرأ منهاج نبيه وأئمته (عليهم افضل الصلاة و السلام) دون أن يقع في تعميمات خاطئة من هذا القبيل الذي وقع فيه بعض الناس. مع الأسف حين يروجون لاللّين في كل المواقف والمواضع ,ويوجّهون الشيعة إلى أن يعطوا خدهم الأيسر إلى من لطهم على الخد الأيمن. يقول هؤلاء أو يتحجج هؤلاء بقولهم هكذا أوصى الله لنبيه عيسى (على نبيّنا و آله وعليه الصلاة و السلام) حينما خاطبه وقال له {وإن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر} بهذه الحجة يتحججون. نعم صحيح ،صحيح أنّ الله (تعالى) أوصى عيسى(على نبيّنا و آله وعليه الصلاة و السلام) بذلك ولكن في التعامل مع من ؟
هذا ما توضحه الوصية نفسها حيث فيها بعد هذه العبارة مباشرة {وتقرب إلي بالمودة جهدك وأعرض عن الجاهلين}. إذاً هذا التعامل إنما هو مع الجاهل ,إذا صَفَعَنا الجاهل على خدنا الأيمن أعطيناه الأيسر ,لا إذا صفعنا الظالم أو العدو الناصب على خدنا الايمن أعطيناه الأيسر وذللنا رقابنا له. بل مثل هذا ليس له منا إلا رد الصاع صاعين بل أصواعاً كما تعلمنا من أئمتنا (عليهم افضل الصلاة و السلام) في هذه المواقف الثلاثة التي عرضناها آنفا في هذه الحلقة والحلقة السابقة. المسيئ نبادله بالإحسان إذا كان جاهلا أو إذا كان ظالما نحتمل أن يهتدي ويرتدع عن ظلمه ,فإذا ما جربناه ووجدناه مصرا على ظلمه وبغيه وإساءته وعدوانه ,علمنا بأنه غير مستحق للإحسان وحينها نبادل إساءته بالإساءة {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. هكذا علّمنا القرآن الحكيم ,هكذا علمنا الرسول الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله و سلامه عليهم). وفي نفس الوصية الإلهية لعيسى (على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام) ما تعرف به كيفية التعامل مع هذا الصنف من البشر فقد جاء فيها {يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل غسلتم وجوهكم ودنّستم قلوبكم). دقّقوا إن الخطاب لظلمة بني إسرائيل كيف تخاطبهم يا عيسى المسيح ؟ {غسلتم وجوهكم ودنّستم قلوبكم أبي تغترون أم علي تجترأون تتطيبون بالطيب لأهل الدنيا وأجوافكم عندي بمنزلة الجيف المنتنة كأنكم أقوام ميتون}.
من الواضح ما في هذا الخطاب من شدة في التقريع وكان هذا لازماً لمن جحد نبوة عيسى (على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام) وقذفه وقذف أمه الطاهرة (على نبيّنا و آله و عليها الصلاة و السلام) أو أقام على الجحود والعصيان بما شكّل تعدياً لدين الله (سبحانه و تعالى) ومصادرة لحقوق الله وحقوق أنبياءه (عليهم السلام) خطاب يستحقونه. فيه شدة وقسوة نعم لكنهم يستحقونه لا يدفع ظلمهم ولا يؤدّب من يستحق التأديب منهم إلا بمثل هذا. لنكن إذن متوازنين نعرف متى نستخدم اللين ولا يكون ذالك ضعفاً ,ونعرف كذلك متى نستخدم الشدة ولا يكون ذلك تهوراً. المهم هو أن نقيّم الموقف إذا كان عدم الرد ينطوي على إذلال لنا فعلينا أن نرد ولو بأضعاف الفعل ,أمّا إذا كان عدم الرد ينطوي على خير كأن تتحقق هداية صاحب الفعل فحين ذاك نصمت. فإذا اهتدى فخير ونعمة وأما إذا لم يهتدي وجدد فعلته في الإساءة والإعتداء فحين ذالك نبسط إليه أيدينا وألسنتا. المهم هو أن لا نظهر في كلا الموقفين في موقف الذليل أو الضعيف حتى ولو أدى ذالك في كثير من المواقف إلى أن نضحي بأنفسنا. نعم ,تعالوا نتعلم مثالاً من قنبر ابن حمدان (عليه السلام) هذا الرجل الذي كان خادماً مخلصاً لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) وتخرّج من مدرسته بامتياز وقد استحضره أمير المؤمنين (عليه افضل الصلاة و السلام) حين ألقى وصيته إلى الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله و سلامها عليهما) وهذا يكشف عن كونه ذا منزلة جليلة عندهم ,إذ أشهده على وصيته واستحضره. كيف لا يكون لقنبر المنزلة الجليلة والعظيمة وهو الذي كان يذكره أمير المؤمنين(صلوات الله و سلامه عليه) في شعره المعروف الذي يقول فيه :
إني إذا الموت دنا أو حضرا * شمرت ثوبي ودعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا
يذكره أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) في شعره (شمرت ثوبي ودعوت قنبرا) الله أكبر!!! لقد كان هذا الرجل فدائياً لأمير المؤمنين (عليه افضل الصلاة و السلام) يلازمه ملازمة الظل. كان حين يخرج الإمام (عليه الصلاة و السلام) من بيته يخرج قنبر(عليه السلام) من وراءه حاملا سيفه لأنه كان يخاف على أمير المؤمنين(صلوات الله و سلامه عليه) من الإغتيال ,ولم ينته قنبر(عليه الصلاة و السلام) عن ذاك إلا عندما نهاه أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه). قال الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه عليه) :{كان لعلي صلوات الله و سلامه عليه غلام اسمه قنبر وكان يحب علي عليه السلام حباً شديداً فإذا خرج علي عليه السلام خرج على أثره بالسيف فرآه ذات ليلة فقال يا قنبر مالك قال جئت لأمشي خلفك فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك فقال ويحك - وهي كلمة رحمة تقابلها كلمة ويلك وهي كلمة عذاب - أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض ؟ قال لا بل من أهل الأرض قال إن أهل الأرض لا يستطعيون لي شيئا إلا بإذن الله (عز وجل) من السماء فارجع فرجع قنبر}.
قنبر هذا كما كان ذائباً في حب أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) كان تلميذه الذي تخرج من مدرسته بامتياز ,في احدى مراحل تلك المدرسة تعلّم قنبر أن لا يرد على من أساء إليه ,لكن بشرط أن يكون ذالك المسيء أحمق لأن الرد على الأحمق حماقة يصرف فيه الإنسان جهده فيما لا ينبغي. تقول الرواية التي رواها شيخنا المفيد (رضوان الله (تعالى) عليه) عن جابر قال :" سمع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليهما الصلاة و السلام) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يرد عليه فناداه أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة و السلام) مهلاً يا قنبر دع شاتمك مهاناً ترض الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم ولا أُسخط الشيطان بمثل الصمت ولا عُوقب الأحمق بمثل السكوت عنه".
قد حفظ قنبر (عليه السلام) هذا الدرس جيداً ولهذا نراه قد التزم بكلام أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) ولم يرد على ذالك الأحمق الذي شتمه ,وكذا لم يسجّل له التاريخ رداً على شتائم أمثال هؤلاء الحمقى والجهلة والسفهاء ,ولكن التاريخ نفسه سجّل لنا موقفاً عظيماً من مواقف هذا الرجل العظيم في مواجهته للطاغية الحجاج ابن يوسف الثقفي (لعنه الله) هذا الموقف كان آخر موقف في حياة قنبر. هذا الموقف هو الذي كلّفه حياته ,هذا الموقف الذي أدّى به إلى أن يذبح على مذبح الحب والولاء لعلي أمير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه) تقول الرواية عن مولانا الإمام الهادي (صلوات الله و سلامه عليه): "إن قنبراً مولى أمير المؤمنين (عليه و آله الصلاة و السلام) دخل على الحجاج ابن يوسف(لعنة الله عليه) ]مولى أمير المؤمنين(صلوات الله و سلامه عليه) أي عبده[ إنّ قنبرا مولى أمير المؤمنين (عليه افضل الصلاة و السلام) دخل على الحجاج ابن يوسف فقال له ما الذي كنت تلي من علي ابن أبي طالب ]بماذا كنت تخدم علياً؟[ فقال كنت أوضّيه ]أوضيه هاهنا محمول على تهيئة مقدمات الوضوء بما لا ينافي المباشرة يعني مباشرة الأمير (صلوات الله و سلامه عليه) للوضوء بنفسه لأنه لا يجوز أن يوضّء الإنسان غيره فإذاً يُحمل قوله كنت أوضيه على تهيئة المقدمات أو المعاونة[ فقال له ]يقول الحجاج )لعنه الله( لقنبر(عليه السلام) بعد ما قال كنت أوضيه[ ما كان يقول إذا فرغ من وضوءه ؟ فقال كان يتلو هذه الآية {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغته فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فقال الحجاج أظنه كان يتأولها علينا ]أي أظن عليا(صلوات الله و سلامه عليه) كان يقصدنا نحن بنو أمية وأتباعهم وأوليائهم وأشياعهم وولاتهم(لعنة الله عليهم) ,كان يقصدنا علي ويتأوّل هذه الآية لاحظوا هنا بماذا أجابه قنبر[ قال نعم ]من الطبيعي أن يستفز الحجاج بمثل هذه الكلمة كلمة نعم هذه تكلف قنبر الكثير[ قال نعم فقال الحجاج ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك ؟ ]يعني رأسك ضربت عنقك ورأسك طيرته [(قال إذاً أسعد وتشقى فأمر به فقتل".
سلام الله على قنبر لاحظوا أيها الإخوة إن قنبراً )سلام الله (تعالى) عليه) مع علمه بطغيان الحجاج وتعطشه للدماء لم يقبل حين دخل عليه إلا أن يعامله باستصغار واحتقار ,أي أنّ قنبراً استصغر واحتقر الحجاج ولم يرهب جانبه ولذا حين سأله الحجاج عن ما سأل أجابه بكل ثقة وشجاعة نعم. أي نعم كان يقصدكم أمير المؤمنين (عليه افضل الصلاة و السلام) حين يقرأ هذه الآية فأنتم الظالمون الذين سيأخذكم الله بغتة وسيقطع دابركم عما قريب. لم يسكت قنبر(سلام الله (تعالى) عليه) هنا من باب "لا عوقب الأحمق بمثل السكون عنه" لأن الحجاج لم يكن أحمق بل كان متجبراً طاغياً فالتعامل معه يكون مختلفاً عن التعامل مع الأحمق أو التعامل مع السفيه الجاهل. لم يعمل قنبر هنا بالتقية وقد كان بامكانه أن يعمل بها وأن يمتنع عن إجابة الحجاج بنعم حتى يتخلص من سفك دمه ,إلا أنه (سلام الله (تعالى) عليه) أبى إلا أن يمض شهيدا تزهق روحه لكنع يبقى عزيزاً غير ذليل لأمثال الحجاج (لعنة الله عليه) يبقى عالي الشأن مرفوع الرأس يبقى مرفوع الرأس ,وإن فصل الحجاج رأسه عن جسده لا نعرف أحداً من أئمتنا (عليهم افضل الصلاة و السلام) لام قنبراً(عليه السلام) على تركه العمل بالتقية بل لسان الرواية هذا عن الإمام الهادي (صلوات الله و سلامه عليه) هو لسان المدح والثناء كما لا يخفى على أحد.
نحتاج شجاعة قنبر عليه السلام لكي نسود العالم ..
إذاً ماذا نستفيد من هذا الموقف العظيم ؟ نستفيد أن المؤمن ينبغي أن يرد على الظالم المتكبر ويصك وجهه لا أن يسكت أو يتناسى ،إنّ الحجاج هاهنا لم يشتم قنبراً(عليه السلام) ولم ينل منه إنما سأله سأله هكذا أظنه كان يتأولها علينا ؟ سأله أولا ما الذي كنت تلي من علي ابن أبي طالب(صلوات الله و سلامه عليهما وآلهما) ؟ فقال كنت أُوّضيه فقال له ماذا كان يقول إذا يفرغ من وضوءه؟ فقال كان يتلوا هذه الآية {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}. فقال الحجاج(لعنة الله تعالى عليه) في سؤاله الثاني أظنه كان يتأولها علينا؟ فقال نعم إذا فإن الحجاج(لعنة الله عليه) هاهنا لم يشتم قنبراً لم ينل من قنبر(عليه السلام) ,وإنما سأله لكن كان سؤاله سؤال المتجبر الطاغي المتقصد الإذلال والإهانة ,فإن تهرّب قنبر(عليه السلام) من الإجابة كان ذالك منه خنوعاً وإذلالاً لنفسه بل ولمعشر الموالين لأمير المؤمنين (عليهم السلام). كان إذا تهرب عن الإجابة أذلّهم لأن قنبراً(عليه السلام) كان ممن يقتدى به آن ذاك كان رمزاً من رموز الشيعة. لهذا لم يكن لقنبر(سلام الله (تعالى) عليه) أن يجازف بكرامة الموالين فأجاب بشجاعة وصدق وضحّى بروحه في سبيل المحافظة على هذه الكرامة ، كرامة أتباع علي (صلوات الله و سلامه عليه).
نحن نحتاج إلى مثل هذه الروح في أبنائنا حتى يتحطم حاجز الخوف ومن ثم تتحطم جميع الحواجز التي تحول بيننا وبين تحقيق السيادة للأمة الشيعية. ازرعوا روح علي والحسن والحسين (عليهم افضل الصلاة و السلام) في نفوس أبناءكم وسترون التشيع غداً يسود العالم ،ازرعوا روح قنبر(عليه السلام) في نفوس أبناءكم وسترونهم غداً سادة العالم. إذا تحلّينا وتحلى أبناءنا بهذه الروح فعندها فقط يمكن لنا أن نرى اليوم الذي نحرر فيه الحرمين الشريفين من قبضة المشركين الوهابيين ونعيد بناء مقدساتنا. عندها فقط يمكن لنا أن نحرر أرض فدك ،عندها فقط يمكن لنا أن نحرر هذه الأمة المخدوعة ،نحررها من العقائد الباطلة الفاسدة ، عندها فقط يمكن لنا أن نأمن في ديننا ودنيانا ويعيش العالم بأسره في سلام.
نحتاج أولا إذا إلى أن نحرر أنفسنا ، كل شيعي على موعد الآن مع فكر جديد وثقافة جديدة ونفسية جديدة ترفض الذلة رفضاً مطلقاً وتعتمد على الثقة العالية بالنفس والشجاعة المطلقة والإباء والعزة والكرامة والتفاني لإحقاق الحق وإزهاق الباطل إنه العصر الذي سيشهد بإذن الله (سبحانه وتعالى) تحرير الإنسان الشيعي.
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على قتلتهم واعدائهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم اجمعين الى قيام يوم الدين .. آمين