تزلزلت المدينة على صدى صرخات سيدة القداسة والطهارة إذ نادت: "وا أبتاه.. وا محمداه.. هذا ما لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة"!
واجتمع الناس حول بيت النبوة ليروا كيف لُطِمت بنت النبي على خدها! وكيف جُلِدت بالسوط على معصمها! وكيف عُصِرت بين حائط وباب دارها! وكيف أُنبِت المسمار في صدرها! وكيف وُكِزت في بطنها! وكيف أُسقِط جنينها من رحمها! وكيف أُريقت دماؤها وانتُهِكت حرمتها!
جرى ذلك كله على مرأى ممن حضر رغم أن وصايا نبيهم بابنته مازالت ترن في أسماعهم! إلا أنهم لم يبدوا في ساعتهم تلك سوى الأسف! ولم يحركوا ساكنا لنصرة سيدة نساء العالمين! واكتفوا ببضع دموع انهمرت من أعينهم لفداحة المأساة التي عاينوها!
أولئك الذين عشش الجبن والخذلان في قلوبهم ما كانوا على استعداد للتضحية بدنياهم في سبيل دينهم، وما كانوا في وارد نصرة بضعة المصطفى ما دام ذلك سيجلب لهم المتاعب وسيُغضب عليهم حكام العهد الانقلابي الجائر! لقد فضل هؤلاء الخونة أن يلتزموا الصمت وأن يبتعدوا عما جرى، رغم أن مشاعرهم كانت تتأثر بأنات الزهراء - بأبي هي وأمي - ورغم أنهم كانوا يسمعون نداءات استغاثتها واستنجادها بهم، ورغم أنهم كانوا يدركون مدى فداحة الظلم الواقع عليها، ولكنهم ما كانوا مستعدين للمجابهة وما كانوا يملكون الجرأة لفضح الظالمين وقول كلمة (لا) في وجوههم! وهكذا لم يجد الإمام الشرعي له ناصرا إلا الثلة القليلة من المخلصين، من أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار ومن إليهم. فالتزم بأمر الله له وعهد رسول الله إليه، بأن يصبر ويتحمّل ويتجرع الآلام، لئلا ينقضي عهد الإسلام ويندثر هذا الدين إلى الأبد. فصبر الإمام وترك أمر القصاص لحفيده الموعود والممهدين له، حيث سيتحقق الوعد الإلهي بالانتقام من القتلة المجرمين.
هؤلاء الجبناء الخاذلون لم ينقطع لهم دابر قط، إذ بقوا هم وأمثالهم على مر التاريخ، فهم الذين تخلوا عن أمير المؤمنين - عليه السلام - وانقلبوا عليه! وهم الذين تخلوا عن الحسن - عليه السلام - ودفعوه إلى الصلح ثم طعنوا به! وهم الذين امتنعوا عن نصرة الحسين - عليه السلام - وانسحبوا ليلة العاشر من معسكره حتى لم يبق له إلا ثلاثة وسبعون رجلا! وهم الذين تركوا الأئمة من آل الرسول - صلوات الله عليهم - ولعقوا نعل الخلفاء والسلاطين أملا في حياة هانئة سعيدة! وهم مع ذلك كله يزعمون أنهم موالون لأهل البيت - عليهم السلام - معتقدون بولايتهم!
ومازال أمثال هؤلاء يعيشون بيننا اليوم، وهم يكررون أفعال وأقوال أسلافهم، فما إن يعلو صوت ولائي يفضح قتلة الزهراء - سلام الله عليها - حتى ينبروا وتشرئب أعناقهم قائلين: "دعونا مما مضى.. دعونا من الخلافات.. نريد أن نعيش بسلام.. نريد أن نهنأ في حياتنا"!! إنها المبررات نفسها التي تجعلهم يتخذون موقفهم المتخاذل هذا، وليتهم يلتزمون بالصمت والسكوت.. كلا! بل إنهم - بكل صفاقة ووقاحة - يدعون إلى نسيان ما جرى على الزهراء - صلوات الله عليها - من الظلم والجور، بل ويؤطرون دعوتهم تلك بإطار تنظيري غث! ثم لا يعجبهم أن يفسد أي اتجاه ولائي إيماني صفقاتهم الاستسلامية المهادنة مع المعسكر الآخر فيعمدون إلى محاربة ذلك الاتجاه بضراوة وشراسة موجهين إليه شتى النعوت الشائنة من قبيل: "إنهم طائفيون.. إنهم متطرفون.. إنهم لا يمثلون التشيع.. إنهم يزرعون الشقاق والفتنة.. إنهم يربون جيلا على أساس الثأر والانتقام"!!
إن هؤلاء يزعمون حرصهم على مصلحة التشيع، والحال أن حرصهم ليس إلا على مصالحهم، وانكبابهم ليس إلا على دنياهم. فالحريص على التشيع لا يسمح للسانه بأن يمتدح قتلة الزهراء ويترضى عليهم، كما فعل بعض مرتدي العمائم ومدعي العلم والمرجعية! إلا إذا وصل السيف إلى رقبته وأوجبت التقية ذلك، ولا تقية في عصرنا هذا. والحريص على التشيع لا يسمح لنفسه بأن يقمع ويوقف مجالس إحياء الفاطمية، كما فعلت الطغمة الحاكمة في ذلك البلد! والحريص على التشيع لا يسمح لنفسه بأن يشكك في مفردات مظلومية الزهراء - صلوات الله عليها - إرضاء لشهوته في حب الظهور الشخصي واستجلاب التأييد من المعسكر الآخر، كما فعل بعض المتموقعين في موقع الفقاهة والاجتهاد! والحريص على التشيع لا يسمح لنفسه بمحاربة أية جهة ولائية تصدت للدفاع عن أهل بيت النبوة - عليهم السلام - والبراءة من أعدائهم، كما فعل بنا بعض مرضى التراجعية والنقص!
هؤلاء؛ وتلك الأصوات الشاذة التي بدأت تظهر في أوساط الشيعة المؤمنين، والتي تدعو إلى نسيان الماضي وترك قضايا المظلومية، والسكوت عن لعن القتلة المجرمين، وعدم إثارة الحقائق من أجل الحفاظ على ما يعتبرونه "وحدة" و"وئاما" و"مراعاة" رغم إدراك بعضهم لحقيقة أن التنازل عن ذلك لا يؤدي إلى هذه الأهداف.. هؤلاء يتوجب علينا أن نلقنهم درسا حتى ننقي أمتنا منهم ومن أمثالهم، من الذين دمروا التشيع وميعوه حتى صرنا نرى مواكب تهتف بحياة قاتل الزهراء - لعنة الله عليه - و"عدالته" في قعر دار التشيع حيث قم المقدسة عش آل محمد صلوات الله عليهم!!
ليكن في علم هؤلاء أن هذا الاتجاه الولائي المهدوي لن يسكت على مؤامرتهم الكبرى ضد الشيعة والتشيع، وأننا سنتصدى لكل من يحاول المساومة على كرامة الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها عليهم الصلاة والسلام. فإذا كان الشيطان قد زيّن لهؤلاء أن يتناسوا تلك الجرائم، فنحن لا نقبل أبدا أن ننسى.. كيف ننسى تلك اليد اللئيمة التي صفعت بحقد وقسوة لا نظير لها ذلك الوجه الطاهر الملائكي لبضعة رسول رب العالمين؟! كيف ننسى تلك الآهات التي أطلقتها الصديقة الكبرى عندما رفس أولئك السفلة الأوباش بطنها وأسقطوا جنينها؟! وكيف ننسى ما حلّ بأئمتنا من الظلم والقهر طوال التاريخ دون أن نعري ظالميهم ونكشف مساوئهم أمام الملأ.. لعلهم يتذكرون؟!
كلا وألف كلا.. فليرشقنا أمثال هؤلاء بما حلى لهم، فإننا بأعمالنا هذه نبرئ ذمتنا أمام الله والميامين الأطهار - صلوات الله عليهم - ولا يهمنا ما نتلقاه من سهام في ذلك، فنحن على يقين من ربنا إن شاء الله تعالى.
إن ما نقوم به من فضح لأعداء الله ورسوله وأهل بيته، ليس سوى جزء يسير من الواجب الشرعي الذي يحتم علينا الانتقام، وليس إلا محاولة متواضعة لرد جزء من تلك الصفعة التي وجهها أولئك الأنذال لقطب رحى الوجود، صلوات الله وسلامه عليها. فعن مولانا أبي عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "إن قوما يبعثهم الله قبل قيام القائم - عليه السلام - لا يدعون وترا لآل محمد إلا أحرقوه". ولعل من مصاديق هذا الحديث الشريف؛ أن يقوم ثلة من المخلصين بجهادهم لحرق ونسف وإبطال القداسات الزائفة، حتى تنجلي الغمامة عن أعين العامة ويعرفوا الحقيقة الناصعة. وهذا من أعظم أنواع الانتقام والثار.
أجل.. إن "خدام المهدي عليه السلام" يغذون روح الانتقام والنسف والإبطال، وهم في ذلك مأمورون شرعا. فهذا سيدنا ومولانا المستور عن الأنظار؛ الإمام الحجة المنتظر - صلوات الله عليه - قد رآه أحد نوابه وهو محمد بن عثمان - رضوان الله عليه - وهو متعلق بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول: "اللهم انتقم لي من أعدائك".
وإذا أردنا التعجيل في الفرج فلا بد أن نسعى إلى ما يسعى إليه إمامنا القائم - عجل الله فرجه الشريف - فلا نتوانى عن (الانتقام) و(النسف) و(الإبطال) بقدر ما نستطيع، ولعل إحدى فقرات الزيارة المخصوصة لصاحب الأمر تدلل على هذا المعنى بوضوح، إذ تجعل ظهوره - صلوات الله عليه - مرتكزا على إبطال الجبت والطاغوت، وذلك بالطبع وظيفة من وظائف "خدامه" صلوات الله عليه وإلا لما قُرنوا به في الصلاة عليه، حيث نقرأ في الزيارة: "أشهد أن الله اصطفاك صغيرا، وأكمل لك علومه كبيرا، وأنك حي لا تموت، حتى تبطل الجبت والطاغوت. اللهم صلِّ عليه وعلى خدّامه وأعوانه على غيبته ونأيه، واستره سترا عزيزا، واجعل له معقلا حريزا، واشدد وطأتك على معانديه، واحرس مواليه وزائريه".
فهذه وظيفتنا.. أما الانتقام الكلي؛ فلن يتحقق إلا على يده المقدسة، يوم يظفر بأبي بكر وعمر (عليهما اللعنة) فيخرجهما ويذريهما، كما يقول الصادق عليه السلام: "إذا قدم القائم - عليه السلام - يخرجهما غضّين طريّين فيلعنهما ويتبرأ منهما ويصلبهما ثم ينزلهما ويحرّقهما ثم يذريهما في الريح".
.. وها نحن ندعو ربنا بأن يرينا ذلك اليوم لتقر العيون وتفرح القلوب إن شاء الله تعالى. اللهم آمين.