الإنسان المسلم في هذا العالم، كالأسير في سجن كبير أطبق سجانوه فيه على حياته وصادروا حرياته وسلبوا كرامته وعزته وجعلوه عبدا مستعبَدا لا حول له ولا قوة، ولا قيمة له أو مكانة. إنهم يريدونه ذليلا مستكينا لا حرا أبيا حتى لا يهدد سلطانهم ولا يقوض بنيانهم ولا يقف بوجه أطماعهم ونزواتهم.
هكذا تعلم السجانون من أسيادهم الذين أدركوا أن المسلم المؤمن يمثل تهديدا لمصالحهم وخطرا على مراميهم يصعب تجاوزه، إلا في حال تكبيله وتقييده واستعباده وإذلاله.
أما السجانون فهم هؤلاء الحكام الظالمون الذين يجثمون على صدر الأمة، وأما الأسياد فهم أولئك الذين استعمروا واستكبروا وطغوا.
فأي ذل وهوان أصاب المسلمين بعدما كانوا في طليعة الأمم؟ وأي تخلف وتراجع حلّ بهم بعدما كانوا في قمة الحضارة؟ وأي فساد وتلوث استشرى بينهم بعدما كانوا في منتهى الرقي؟ فلم كل هذا الانحدار؟ أليس هو من تدبير الاستعمار وأذنابه من السلاطين الفجّار؟!
هاهو صدام مثالٌ للحجاج ويزيد، فمن أتى به ومن حرّكه ومن استعمله ومن أوكل إليه أن يفعل ما فعله؟ إنهم أسياده الذين يلعق أحذيتهم. ولا يحتاج الأمر إلى الفهم العسير، فسؤال واحد يكفي لاستجلاء الحقيقة، ألا وهو: من المستفيد من كل ما حدث؟ أليسوا هم فقط؟!
لقد أرادوا لهذه الأمة أن تتأخر وتضعف وتنكفئ وتتصدع أركانها، أرادوا ونجحوا في ما أرادوا، فانظروا إلى حالنا البائس: ظلمة يحكمون.. وتشتت وفرقة.. وفساد وظلام.. وجهل وتقهقر.. وقيود وأغلال.. وفقر وأمراض.. وعزة مسلوبة.. وكرامة مهدورة.. وإيمان مفتقَد.. وعدالة غائبة.. وحرية مصادرة.. إلى آخر ذيل القائمة!
فهل من إفاقة بعد رقدة؟ وهل من وعي بعد غفلة؟ وهل من صحو بعد سبات؟ وهل من إنقاذ بعد استنهاض؟ نعم.. بإمكاننا أن نعود إلى الصدارة، ونعيد مجد الحضارة، حضارة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، هذا إذا توافرت فينا فقط.. الإرادة!
وإذا ما تمكنا من تشخيص الداء، أمكننا معرفة الدواء. فأما الداء الذي نراه في هذا السياق فيكمن في تلك القوانين الوضعية التي فرضها السجانون بأوامر الأسياد من أجل كسر شوكة الأمة والحيلولة دون نهوضها، فجل هذه القوانين الجائرة إنما سُنَّت على خلاف شرع الله تعالى كي تصادر الحريات وتحبط الهمم وتكبّل التطور وتقيد جهود البناء والاستعلاء. إنها قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وهي التي انتهت بنا إلى ما نحن فيه، لأننا رضخنا لها والتزمنا بها فوقعنا في هذا الشرَك وهذه المصيدة!
فمن يريد منّا أن يصبح "إنسانا معترفا به" فلا بد له من الحصول على بضع وريقات يطلق عليها "الجنسية" حتى ينتسب لهذه الدويلة أو تلك! ومن يريد أن يتنقل بين بلاد الإسلام عليه أن يستخرج ما يسمى بـ "الجواز" حتى يسمح له بذلك، ولا يسمح له حتى يدفع رسم دخول تحت عنوان "فيزا" وإلا فلا! ومن يخطط لبناء منزله بغية السكنى فلا بد له من أن يحصل على إجازة من الدولة أو أن يشتري منها الأرض الفضاء مع أن الأرض لله ولمن عمرها! ومن يبغي زراعة أرض خالية فيتوجب عليه كذلك الاستئذان وكأنهم ملكوا الأرض ومن عليها!
وهم إذ ذاك؛ جعلوا لكل شاردة وواردة قيدا تحت ستار القانون، فلا يصح الزواج إلا لمن أتم الثامنة عشرة! ولا تجوز التجارة إلا برسوم وجمارك! ولا المعاملة إلا بضرائب! ولا إقامة المصانع إلا بشروط تكبت الصناعة وتميتها! ولا يمكن الاحتكام إلا إلى القاضي المعين من النظام! ولا تودع الأموال إلا في البنوك الربوية التي مالها من حرام! ولا يوظّف إلا من له حظوة أو شأن أو شهادة! وعلى كل من أتم سنا معينة الخدمة العسكرية الإجبارية! وعلى كل مريض أن يراجع مراكز الطب الحالية ومن يراجع أهل الطب الإسلامي يؤاخذ ويحاسب!
أما الأحزاب والجمعيات والنقابات فهي محرمة إن لم توالِ النظام! ومن يكتب مقالا نقديا فله الإعدام! والكتب التي تتحدث عن عظمة الإسلام فهي سواء والإجرام! الرأي رأي السلطة والرأي الآخر هدّام! وثقافات الانحلال والكفر والشيوعية والقومية هي الحلال وغيرها حرام! نعم.. هذه هي حال بلاد الإسلام!
لقد احتالوا علينا وقيدونا بهذه القيود ونحن نظن أنها تطور وتقدم وهي في واقع الحال تأخر وتراجع وتقهقر، فقوانين الإسلام التي جاء بها أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين هي روافد الحضارة وركائزها. إن نظرة واحدة إلى واقعنا والمشاكل المستعصية التي تحيط بنا كفيلة بأن نكتشف بأنها جميعها تعود إلى هذه القوانين الهدّامة التي ذلّت الإنسان وجعلته عبدا للسلطان!
وأي ذل أسوأ من أن يحتاج كل من يريد أداء فريضة الحج إلى "فيزا" تمكنه من الدخول إلى الديار المقدسة؟! وأي هوان أصعب من أن تجبر الفتاة المسلمة على خلع حجابها للعمل في شركة طيران أو محطة تلفاز أو حتى يسمح لها بالدراسة أو تتمكن من دخول البرلمان؟! كل ذلك الذل يقع علينا باسم القانون.. ألا سحقا لمن وضعه ومن طبقه ومن التزم به، فالله تعالى يقول: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"!!
فما السبيل إذن لإلغاء هذه القوانين وتطبيق قوانين الإسلام وإقامة نظامه العالمي؟ إنه ما من سبيل إلا بالعصيان المدني حيث يخرق كل مؤمن هذه القوانين الجائرة ويمتنع عن الالتزام بها فتسقط تلقائيا كما حدث لكثير من القوانين الوضعية. إننا لو اتحدنا على ذلك لحققنا الكثير الكثير، ولاستطعنا أن نغير كل المعادلات. ماذا يضيرنا لو أننا سافرنا بلا مرور على نقاط الحدود ولا استخدام للجوازات؟ ماذا يضيرنا لو أننا أقمنا مسجدا بلا رخصة؟ ماذا يضيرنا لو أننا أنشأنا محطة إذاعية بلا إذن من الحكومات؟ قليل من المشاكل أو كثير.. بعض الصعوبات والعراقيل.. بعض المساءلات الأمنية.. ما المهم في كل ذلك مقابل الهدف الاستراتيجي المتمثل بإسقاط هذه القوانين وكسر هذه القيود؟!
نعم قد تكون بعض الالتفاتات مهمة في هذا الخصوص، من قبيل التعقل والأمن من وقوع الضرر ومراعاة الظروف والتقية وما أشبه، إلا أنها إن كانت ضربة رجل واحد فاجتمعت الأمة بكل فئاتها على ضرب هذه القوانين المصطنعة؛ تحقق الأمل وعادت العزة والكرامة وزهق المستعمرون والسجانون من عملائهم.
وحتى لا تكون دعوة غير متشرعة، هاهو الإمام الشيرازي الراحل (رضوان الله عليه) يفتي في "الفقه - طريق النجاة" بما نصه: "مما يلزم الاهتمام به على كل المسلمين فضلا عن القائمين بالإنقاذ خرق القوانين الموضوعة في بلاد الإسلام، سواء من قبل من سموا أنفسهم بالإسلاميين أو بالعلمانيين أو بسائر الأسماء، فإنها كلها صيغة أخرى عن قوانين الغرب والشرق صبغها الحكام باسم الإسلام تارة وباسم الشيوعية أو القومية أو البعثية أو الوطنية أو ما إلى ذلك تارة أخرى، فعباراتهم شتى وقانونهم واحد، وكلٌ إلى تلك الحقيقة قاصد".
وبعدما يثبت سماحته بالمقارنة أن أكثر القوانين الحالية متعارضة مع الشرع وأن ذلك يسبب نقمة الرب يفتي دام ظله العالي بأن: "من اللازم على الذين يريدون إنقاذ المسلمين بسلوكهم طريق النجاة أن يهتموا لإزالة القوانين المنافية للإسلام، وقد عرفت في البحث السابق أن أكثر القوانين في الحال الحاضر منافية للإسلام، وما دام عملاء الاستعمار يقننون مختلف القوانين باسم الإسلام أو باسم العلمانية أو بأسماء أخر لا يعود إلى المسلمين عزهم الغابر، وسلطانهم الذاهب، وسيادتهم الغاربة. وتكون الإزالة بأمور؛ الأول: فضح القوانين بمختلف الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة وغيرها، كلٌ حسب قدرته. الثاني: فضح القائمين بهذه القوانين تقنينا وتنفيذا ومساعدة. الثالث: خرق القوانين بأنفسهم، فلا يطبقون القانون بأنفسهم، ويحرضون الآخرين على خرقها".
إن العصيان المدني أداة من أدوات الضغط السلمي، وهو ممارسة حضارية تؤتي بثمارها لو اتحدت القوى، فعلى الأمة أن تتحرك، وتحركها لا يتأتى إلا من خلال قيام حركة إسلامية عالمية منظمة تساندها شورى الفقهاء المراجع حتى تستنهض وتغير وتعيد صياغة هذا العالم ليصبح عالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام. فهلاّ نهضنا لينهض إمامنا الغائب صلوات الله عليه معنا؟!