الإسلام رسالة عالمية شاملة، ومنهج لصياغة حياة بشرية مثلى، ونظام للدين كما للدنيا. ولم تتوقف هذه الرسالة العظيمة عند حدود مكانية أو حواجز زمنية ولم يكن لها أن تنغلق في إطار قوم دون قوم؛ أو عصر دون عصر؛ أو مصر دون مصر، بل هي رسالة ممتدة ومستمرة مدى ما طلعت شمس ولاح قمر. ذلك لأنها محصلة خير الرسالات والشرائع السماوية، التي شكلت في مجموعها أرضية مهّدت لقيام الإسلام، وروافد صبت في مصبه، حيث أن رب العالمين جلت قدرته أراد لدينه الخاتم أن يتسم بالكمال الأسمى ليكون الأنموذج الأرقى والأعلى.
وتظهر معالم كمالية الإسلام؛ بتفجر علومه، ومتانة أحكامه، وعلو مبانيه ومرتكزاته، ومجد حضارته. تلك الحضارة التي ضمنت الحرية والعدالة والمساواة والرفاه والتقدم، وهي مقومات المجتمع السوي السليم المتحضر. ولا يكاد أحد يجد قيمة سامية؛ أو عطاء نهضوياً؛ في دستور ما، إلا ويجد ما يتعالى عليه رقياً في دستور الإسلام، إذ هي كمالية احتوت كل حق وفضيلة، ونبذت كل باطل ورذيلة.
خذ دليلاً على ذلك، تلكم النصوص العظيمة التي جاء بها الإسلام لتكريس حقوق الإنسان، ما بين (رسالة الحقوق) للإمام السجاد (عليه السلام) لترى كيف أن هذا الدين العظيم سبق مفكري العصر الحديث إلى هذه الحقوق، فقننها وربط في ما بينها وحفظها وكفلها وطبقها عندما أمكن ذلك، في تلك الدولة النموذجية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). ثم فلتأت إلى الوثيقة المعلنة من الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان، ولتنظر إلى نصوصها وبنودها لتقارن بينها وبين ما جاءت به الحضارة الإسلامية، ولترى كيف أن الضمانات هاهنا أوسع وأرقى وأكثر تطوراً وحكمة.
ويكفيك شهادة؛ ما دوّنه المفكر النصراني جورج جرداق في سياق مقارنته، إذ يقول: "ليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان، التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلاً في دستور علي بن أبي طالب. ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد! أما إذا كان هنالك من فرق صحيح فارق فهو إنما يتعلق بواضعي الوثيقتين، ويتلخص في نظرنا بنقاط أربع:
الفرق الأول: هو أن الوثيقة الدولية لإعلان حقوق الإنسان وضعها ألوف من المفكرين، ينتمون لمعظم دول الأرض، أو لها جميعاً، فيما وضع الدستور العلوي عبقري واحد هو علي بن أبي طالب!
والفرق الثاني: هو أن علي بن أبي طالب يسبق واضعي هذه الوثيقة ببضعة عشر قرنا!
والفرق الثالث: هو أن واضعي هذه الوثيقة، أو جامعي شروطها والقول أصح، قد ملأوا الدنيا عجيجاً فارغاً حول ما صنعوا وما يصنعون. وأكثروا من الدعاية لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعاً. وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم وما إليه. وحملوه ألف منة وألف حمل ثقيل، فيما تواضع ابن أبي أطالب للناس ورب العالمين فلم يستعل ولم يستكبر بل رجا الله والناس في أن يغفروا له ما عمل وما لم يعمل!
أما الفرق الرابع؛ والأهم: فهو أن معظم هذه الدول المتحدة التي أسهمت في وضع وثيقة حقوق الإنسان، واعترفت بها، هي التي تسلب الإنسان حقوقه، فينتشر جنودها في كل ميدان تمزيقاً لهذه الوثيقة وهدراً لهذه الحقوق، فيما مزق ابن أبي طالب صور الاستبداد والاستئثار حيث حطت له قدم، وحيث سمع له قول، وحيث أشرق سيفه مع نور الشمس، وسوى بها الأرض ومشّى عليها الأقدام، ثم قضى شهيد الدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات بعد ما استشهد، في حياته، ألف مرة"!
وما دامت كفة الميزان تميل - هكذا - لصالح حضارة الإسلام وتشهد بتفوقها على غيرها، ليس في مجال واحد فحسب، بل في مختلف المجالات، وشتى الموارد، فما بال الإنسانية لا تأخذ بها؟ وما بال أصحابها في آخر أطوار التراجع والتقهقر؟ أليس في ذلك من تناقض يبعث على العجب ويثير الدهشة؟
لا شك أن هناك أمراً ما يحول دون جريان هذه الحضارة العظيمة في غدائر هذا العالم ومناهله، لابد أن ثمة ما يعيق انطلاقها وسيادتها في هذا الزمان. وهذا الحائل والعائق، لا شك أنه ماثل فينا نحن، معشر المسلمين، إذ نحن من يفترض أن نكون حملة مسؤولية نشر هذه الرسالة الحضارية، وتراجم إعمالها، كسفراء نهضة يعبرون بها مبشرين بما تحمله من خير للبشرية جمعاء، على أسس الإيمان والحرية والرفاه والسلام.
بيد أن الواقع يخالف ذلك، فأنّى لأهل هذا العالم أن يسلكوا مسالك هذه الحضارة ويؤمنوا برسالتها العظيمة وقد انطبعت في أذهانهم صورة قاتمة مظلمة عن الإسلام وأهله؟ كيف لهم أن يعتقدوا به ديناً ومنهجاً وهم يرون الأمة التي تدعيه في أفعالها وتصرفاتها وأحوالها؛ على نقيض من معاني الكرامة والحرية والتقدم والعدالة والسلام؟! بل لقد اقترن اسم الإسلام - والقلب يعتصر ألماً - بمعاني الإرهاب والاستبداد والظلم والجور والتخلف والرجعية! فبعد هذا.. أيعقل أن تقبل شعوب هذه الأرض عليه بعدما لمست من مدعيه ما نفّرها منهم؛ ومنه؟!
ثمة جذور تاريخية لعبت دوراً أساسياً في تشويه صورة الإسلام المحمدي الخالص النقي، وهي جذور ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحكم ودوله التي تعاقبت على مر الأزمان. فمنذ أن انقلبت الأمة على نبيها وآله صلوات الله عليهم، تبدلت تعاليم الإسلام وانحرفت عن مسارها، وتكوّن إسلام جديد يخالف الإسلام الحقيقي، ذاك هو (إسلام الخلفاء) الذي انعكس سلباً على واقع المسلمين إلى يومهم هذا، وهذا الانعكاس هو ما ولد أفكاراً تتقاطع مع الحضارة من قبيل (طاعة ولي الأمر على كل حال) و(الصلاة خلف كل بر وفاجر) و(سنة التبول وقوفاً على مزابل الطريق)! وغيرها من أفكار تقع في محيط التهاوي والتدني، دينياً وثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً.
ومن بين الآثار التي خلفها ذلك الإسلام المشوه المنحرف، فكرة (اللجوء إلى العنف والإرهاب) التي استمرأتها جماعات قامت بما قامت به من مساوئ ومنكرات، باسم الدعوة إلى الله ودين الله. وأي دين هذا الذي يجيز هتك الحرمات وقتل الأبرياء وترويع الأطفال والنساء غير دين أمثال يزيد بن معاوية وأضرابه.. لا دين الحسين وآبائه وأبنائه؟!
إن من البداهة معرفة أن أية سلعة أو منتوج، على صانعيه أن يفقهوا بادئ ذي بدء كيفية ترويجه، وهو ما يسمى بحسب العلوم الحديثة (فن التسويق)، فبمقدار ما تتقن هذا الفن؛ تحصد الإقبال من الناس، ولذا فإن عليك - إن أردت لسلعتك أن تحظى بمثل ذلك - أن تهتم بتجميلها وتحسينها وتجويدها، بل الواجب أن يتعدى اهتمامك إلى أن يكون المحل الذي تعرض فيه تلك السلعة، نظيفاً مرتباً حسن الشكل، والبائع حسن اللياقة والمظهر، وإلا فإنك لن تحصل على مبتغاك إن لم تهتم بكل ذلك، بتفاصيله ودقائقه.
وعلى هذا؛ هل أن (سلعة حضارة الإسلام) حظيت بمثل هذا الاهتمام؟ أم أنها تعرضت إلى الصدأ والتشوه بفعل ما جناه عليها مسوقوها؟! الذين استبدلها بعضهم بسلعة أخرى مقلّدة ابتاعها من خلفاء يقول أولهم وهو أبو بكر بن أبي قحافة: (إن لي شيطاناً يعتريني)! ثم يبلغ كفر آخر منهم – وهو عمر بن الخطاب - أن يتهم الرسول المعصوم (عليه وعلى آله صلوات الله) بالهجر وضعف القوى العقلية! بل أن يبلغ الكفر بواحد منهم – وهو يزيد بن معاوية - مبلغ أن يقول:
لعبت هاشـــم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل!
إن أردنا حقاً لحضارتنا أن تشيع وإسلامنا أن ينتشر، ليعم هذا العالم، فعلينا أن نعيد صياغة منهجنا بالانتهال من المناهل الحقيقية لهذا الدين العظيم، والينابيع الأصيلة لهذا الصراط المستقيم، وهي ينابيع ينبئنا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (تركت فيكم ما تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي (...) أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي). (صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة).
فانظر كيف يذكر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله)، بأهل بيته ثلاثاً في حديث واحد، ومراراً في أحاديث ومواضيع ومواقف وموارد، يصعب إحصاؤها وتعدادها. وما ذاك إلا لأن أهل البيت (عليهم السلام) هم المعين الصافي الحقيقي، الذي على الأمة أن ترتوي من رحيقه.
إن ما نطرحه محوراً يترجم هذا السعي لإيقاظ الأمة وإعادتها إلى المسار الصحيح، وهو مسار لا يمكن له أن يتقوّم أو ينعدل دون العودة إلى محمد وعلي (عليهما الصلاة والسلام)، تلك العودة كفيلة بأن تجعل شمس الإسلام تشرق من جديد، لتلقي بأشعتها الذهبية على أرجاء هذا الكوكب فينعم بالخير كله. عندها فقط نتمكن من إقناع البشرية بإسلام يصادق كل القيم الرفيعة والركائز الحضارية والمعاني الفضيلة، ويباين كل مظاهر التخلف وأسباب التقهقر والرذائل الأخلاقية.
هذا هو السبيل لإنهاض المسلمين.. أما أن نطلب من سكان هذا الكوكب الأرضي الإيمان برسالتنا وفي جعبتنا فتاوى صماء بكماء لأناس يفتون فيها أن (الأرض مستوية مسطحة لا كروية) فمعناه أننا ما زلنا على مسير مليار عام من الوصول إلى هذا العالم!