كان من أكثر ما هضم حق الشيعة وجمّد انتشار عقيدتهم في ما مضى عدم توافر فرص حقيقية للاحتكاك بالآخر ومناظرته في أصول العقائد والمفارقات المذهبية، وكان ذلك يعود إلى تسلّط الأنظمة الجائرة وجلاّديها على رقابهم، ومنعهم من أبسط الحقوق الإنسانية التي من بينها حق التعبير.
كان من حق غير الشيعة فقط أن يتكلّموا ويعبّروا عن أنفسهم ويبثوا ما تختزنه عقولهم من عُقد ومغالطات هي من نسج الخيال والتوهّم والمرض الفكري، فيما كان على الشيعة وحدهم أن يلتزموا الصمت، حتى وإنْ رأوا غيرهم يطعن فيهم ويكيل لهم الاتهام بالباطل، وكان من أشد الممنوعات والمحرّمات أن ينطق الشيعة معبّرين عمّا ملأ قلوبهم وأرواحهم وعقولهم من إيمان حقيقي، وولاء صادق، وفكر نيّر، وتطلّع سامٍ. هذا مع أن عندهم ما يفتقده الآخرون، فإلى أئمتهم (عليهم الصلاة والسلام) انتهت كل العلوم، ومنهم نبعت كل الحقائق، وبهم استنار العالم، ولأجلهم يستمر إلى ما شاء الله تعالى. والشيعة قد ورثوا من أئمتهم (عليهم الصلاة والسلام) بعضا من هذا، وهو يكفيهم لأن يعيدوا البشرية إلى جادة الصواب، حيث الأمن والسلام، والعدالة والمساواة، والرفاهية والتقدم، والنعيم في الدارين.. يكفيهم إلى أن يظهر مولاهم صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حيث سيحقق جنة الله الموعودة على الأرض.
كانت هذه هي وضعية الشيعة سابقا، وهي الوضعية التي جمّدت المد الشيعي وعرقلت انتشاره، أما اليوم وبفعل المتغيّرات العالمية فإن سيف الظالمين لم يعد مسلطا على رقابهم إلا قليلا، بل لقد أضحت الأبواب أمامهم أكثر شراعة، وسنحت لهم فرص عديدة للتبليغ عن رسالتهم والتعبير عن أفكارهم والدعوة إلى طريقهم، واقتنص بعض الشجعان منهم هذه الفرص، وطفقوا يعملون ويتحرّكون، فإذا بهم يحققون نجاحا ملموسا في هذا المضمار، إذ تنامت موجة التشيّع والاهتداء بهدي أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) في المحيط المخالف، وخطى عدد لا بأس به من المخالفين نحو عقيدة الأطهار (صلوات الله عليهم) ملتزمين بولايتهم وشريعتهم، تاركين وراء ظهورهم ما وجدوا عليه آباءهم من قبل.
إلا أنه رغم هذه التحوّلات الإيجابية لصالح التشيع؛ مازال الاستثمار الأمثل لهذه التحوّلات وهذه الفرص غائبا في محيط الإمامية، وقد أشرنا غير مرة إلى أن سبب ذلك هو أن الشيعة مازالوا - في ذهنيتهم العامة - يعيشون في أجواء العهد الماضي، حيث كانوا ملاحقين مطلوبين مضطرين إلى التكتم والإخفاء والتقية.
تغيّرت الأجواء بشكل شبه كلي، ومع ذلك فإن الشيعة - في عمومهم - لم يجاروا هذا التغيير من خلال إعادة تقويم مسارهم ورسم خطة جديدة مبنية على الظروف الجديدة، التي تحتّم عليهم - في جملة ما تحتّمه - أن يسلكوا سبيل الشجاعة والجرأة في الدفاع عن آل رسول الله (عليهم الصلاة والسلام) وأن يتخلّوا عن الإحساس بالخوف والخشية من الطرح الصريح للعقيدة الإسلامية الشيعية، ويُلحَق بذلك طبيعيا؛ التخلي عن الانزوائية والانطوائية التي فُرِضت عليهم في العهد الغابر.
وهنا نسجّل إضافة إلى ما سبق وظيفة ضرورية أخرى نرى أن من الواجب الاهتمام بها لدفع موجة التشيّع إلى الأمام وتسريع وتيرتها، وهي أن يعمد كل شيعي موالٍ لأهل بيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام) لاكتساب الثقافة الولائية وتحصيل الأدبيات الإمامية في مجال مناظرة أهل الخلاف وغيرهم من أتباع الملل والأديان الأخرى، وهذا يتطلّب منه انكبابا على المطالعة والفهم، والحضور في مجالس الكلام ومنتديات النقاش، لامتلاك مهارات الاحتجاج والتناظر، ثم عليه بعد ذلك أن يغتنم الفرص - بل أن يخلقها إنْ انتفت - لنقاش غيره من الناس، سعيا في إرشادهم إلى الصراط المستقيم وأملا في هدايتهم إلى دين الله العظيم.
لو أصبح كل شيعي مناظرا متمرسا ماهرا، يتقن فنون الكلام، ويتسلح بخلفية علمية وثقافية رصينة، فلن تمرّ إلا سنوات قلائل حتى يحدث تغيير جذري في عقائد الشعوب التي لن ترى سبيلا قويما سوى التشيّع.
وبهذا الخصوص من المهم التنبيه إلى أمور؛ منها أن التسلح الثقافي المطلوب لا ينبغي أن ينحصر في دائرة فضائل أهل البيت (صلوات الله عليهم) وإثباتها من كتب أهل الخلاف، فإن ذلك مما طغى على الناشطين الإماميين في زماننا، ومن غير الصحيح أن ينحصر الاهتمام بهذه الدائرة فحسب، فهي أصغر من أن تحتوي الآخرين الذين قد لا يجدون غضاضة في الإيمان بهذه الفضائل والمناقب، وإنما اللازم أن يشمل الاهتمام دائرة مثالب ومساوئ أعداء أهل البيت أيضا، فإن في إسقاطهم إسقاطا للعقائد الباطلة التي ابتدعوها، ولا يتحرّجَنَّ المرء من ذكر المثالب فإن ذلك مما أوصى به أئمتنا عليهم السلام، فهذا مولانا العسكري يروي عن مولانا الصادق (عليهما الصلاة والسلام) أنه قال: "من كان همّه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين، حميّة لنا أهل البيت بكسرهم عنهم، ويكشف عن مخازيهم، ويبيّن عوراتهم، ويفخّم أمر محمد وآله؛ جعل الله تعالى هِمّة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوّة كل واحد يفضل عن حمل السماوات والأرضين، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين"! (بحار الأنوار ج2 ص10 والاحتجاج ج1 ص19).
فمثل هذا الثواب العظيم لا يناله إلا من لديه ثقافة ذات شقين؛ شق الولاء، وشق العداء. الولاء لآل محمد عليهم السلام، والعداء لأعدائهم عليهم اللعنة والعذاب.
إن تحقيق النصر على أعداء الله، وكسر وقهر النواصب المخالفين، لحقيق بأن يجزل الله تعالى عليه المثوبة، وأن يسرّ مقام بقية الله الأعظم أرواحنا فداه. وليس الكسر والقهر إلا بالحجة والبرهان والدليل والمنطق، فمن يمتلك هذه المَلَكة، ويحصد هذه الثمرة، كان فائزا فوزا عظيما.
فلنكن جميعا من هؤلاء.. ليكن كل شيعي فارسا مناظرا.