29 رجب الأصب 1438
يمكن الجواب ببساطة عن هذا السؤال بأن نبحث في الروايات الشريفة عن شخص كان يفعل مثل الشيخ الحبيب وننظر كيف كان موقف الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) منه، حيث إن من أبرز ما يفعله الشيخ في منهجيته الدعوية هو تعمد هتك رموز المخالفين وإعابتهم وكشف مثالبهم مع ما يتبع ذلك من خصومات ومنازعات كلامية، وهنالك اليوم جهات متعددة تزعم أن هذا السلوك غير مرضي عند الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأنه لم يكن من سيرة علمائنا، ولكن هل هذا صحيح حقا؟
لو بحثنا في رواياتنا الشريفة لوجدنا أن العكس هو الصحيح، فمثلاً لقد كان من علمائنا الأقدمين شخص صار زعيماً للطائفة بحيث وصفه الشيخ النجاشي بقوله: «شيخ هذه الطائفة و فقيهها و وجهها» وقد أجمع العلماء على وثاقته وجلالة قدره حيث يقول الشيخ الطوسي عنه أنه: «جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة»، ويقول فيه الشهيد الثاني: «لا خلاف بين أصحابنا في ثقته وجلالته وغزارة علمه». [وسائل الشيعة ج20 ص205]
هذا العالم الكبير هو الشيخ سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي رضوان الله تعالى عليه، والذي كان معاصرا للإمام العسكري (عليه السلام) وتشرّف بمقابلته حيث أطلعه الإمام على ولده الحجة المهدي (عجل الله فرجه الشريف).
الآن دعونا نستمع لهذا الشيخ الأجل كيف يحدثنا عن نفسه وعن منهجه وسلوكه؟ إنه يقول كما يرويه الشيخ الصدوق عنه: «كنت أمرءا لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها، كلفاً باستظهار ما يصح من حقائقها، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحاً على ما أظفر به من معاضلها ومشكلاتها، ومتعصباً لمذهب الإمامية! راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم! والتعدي إلى التباغض والتشاتم! معيباً للفرق ذوي الخلاف! كشّافاً عن مثالب أئمتهم! هتّاكاً لحُجُب قادتهم»! [كمال الدين ج1 ص454]
هكذا يتحدث شيخ الطائفة في ذلك الزمان عن نفسه في رواية طويلة حكم بصحتها واعتمد عليها الكثير من العلماء منهم: الصدوق، الشيخ الطوسي، المجلسي الأول، المجلسي الثاني، الوحيد البهبهاني، الشيخ المازندراني صاحب منتهى المقال، العلامة المامقاني صاحب تنقيح المقال، لطف الدين الصافي الكلبايكاني، وغيرهم.
تتضمن هذه الرواية الشريفة قصة ورود الشيخ سعد القمي سامراء المقدسة ولقاءه بالإمام العسكري (عليه السلام) وعرضه عليه مسائل عديدة منها المسألة التي دارت ضمن مناظرة جمعت بين الشيخ القمي ورجل ناصبي حول نفاق أبي بكر وعمر لعنهما الله، حيث كان الشيخ يقول أنهما منافقان إلا أن ذلك الرجل الناصبي جادله بسؤاله عمّا إذا كانا أسلما طوعاً أم كرهاً؟ حيث احتار الشيخ ولم يعرف كيف يجيب بدقة لأنه إذا قال أنهما أسلما طوعاً فبذلك يثبت إيمانهما وإذا قال أنهما أسلما كرهاً فهذا غير مقبول لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن لديه قوة قاهرة في فترة وجوده في مكة المكرمة حتى يسلم أحدٌ كرهاً.
عندما أراد الشيخ سعد القمي أن يسأل الإمام العسكري (عليه السلام) عن مسائله قال له الإمام: «سل قرة عيني عمّا بدا لك منها» وأومأ الإمام إلى ولده الحجة (عليه السلام) الذي كان غلاماً صغير السن آنذاك.
يقول الشيخ: «فقلت: مولانا وابن مولانا، إنّا روينا عنكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة: إنك قد أرهجت على الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك. ونساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان طلاقهن بوفاته. قال (عليه السلام): ما الطلاق؟ قلت: تخلية السبيل. قال: فإذا كان وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلّى سبيلهن فلِمَ لا يحل لهن الأزواج؟ قلت: لأن الله عز وجل حرَّم الأزواج عليهن. قال: كيف وقد خلّى الموت سبيلهن؟ قلت: فأخبرني يا بن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوَّض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). قال: إن الله تقدس اسمه عظَّم شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله) فخصّهن بشرف الأمهات، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلق لها في الأزواج، وأسقطها من شرف الأمهات ومن شرف أمومة المؤمنين».
هكذا نجد الإمام الحجة (عليه السلام) يجيب الشيخ سعد القمي بما يفضح الحميراء عائشة ويسقطها عن شرف أمومة المؤمنين.
وأما المسألة التي دارت في المناظرة حول نفاق أبي بكر وعمر فلقد قال الإمام للشيخ: «لما قال: أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعا أو كرها؟ لِـمَ لم تقل: بل أسلما طمعا؟ وذلك أنهما كانا يجالسان اليهود، ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة، وفي سائر الكتب المتقدمة، الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلى الله عليه وآله) ومن عواقب أمره، وكانت اليهود تذكر أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) تسلطاً على العرب، كما كان لبخت نصر على بني إسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه أنه نبي. فأتيا محمداً (صلى الله عليه وآله) فساعداه على قول شهادة أن لا إله إلا الله، وتابعاه طمعاً في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أموره واستتبت أحواله. فلما أيسا من ذلك تلثّما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين على أن يقتلوه، فدفع الله كيدهم وردّهم بغيظهم، لم ينالوا خيراً. كما أتى طلحة والزبير علياً (عليه السلام) فبايعاه، وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين. قال سعد: ثم قام مولانا أبو محمد الحسن بن علي الهادي (عليه السلام) للصلاة مع الغلام، فانصرفت عنهما». [كمال الدين ج1 ص463]
وهكذا أجاب الإمام الحجة (عليه السلام) عن شبهة ذلك الناصبي بما يقطعه ويقطع أمثاله، ولكن فلننتبه إلى شيء مهم وهو أن الإمام الحجة وأبوه العسكري (عليهما السلام) لم ينكرا على الشيخ سعد القمي ما كان يفعله، لم يقولا له: إننا لا نرضى منك بأن تتعمد مخاصمة المخالفين ومنازعتهم بهتك رموزهم وقادتهم ورميهم بالكفر والنفاق وكشف مثالبهم بالتباغض والتشاتم! بل على العكس لقد قام الإمام الحجة (عليه السلام) بتعليم الشيخ القمي كيف يواصل هذا السلوك بحجج جديدة ينال بها من أبي بكر وعمر وعائشة ويفحم بها أتباعهم، مما يكشف عن رضاه التام عن هذه المنهجية والسلوك.
إن هذا مجرد مثال من أمثلة عديدة تبين أن القول بعدم رضا الأئمة (عليهم السلام) عن منهجية وسلوك الشيخ الحبيب هو قول ضعيف، فالشيخ لم يختلف عما كان عليه أكابر الطائفة القدماء الذين دعمهم الأئمة (عليهم السلام) وأثنوا عليهم، وما جريمة الشيخ عند الضعفاء والمتملقين إلا أنه يريد أن يعود بالشيعة إلى سيرتهم العطرة الأولى حيث كانوا يتفانون من أجل قول الحق بكل شجاعة وصراحة ووضوح.