جواب الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لهذا الإشكال جوابان، أحدهما نقضي والآخر حلّي.
أما النقضي؛ فبأن ما جرى أثناء الحملة البكرية العمرية على دار علي والزهراء (صلوات الله عليهما وآلهما) قد جرى مثله أيضاً على دار عثمان وزوجته نائلة حين نشبت ثورة المسلمين عليه، وأنتم تروون أن عثمان لم يحرّك ساكناً ولم يدافع عن نفسه وأهله ولم يتصدّ للذين اقتحموا عليه داره وانتهكوا حرمة نسائه وعياله بدعوى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أوصاه بالصبر. فما بال بائكم تجرّ وباؤنا لا تجر؟!
روى ابن الأثير في أحداث الهجوم على دار عثمان: "فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه، فجاؤوا بنـار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب، وثار أهل الدار، وعثمان يصلي قد افتتح طه فما شغله ما سمع، ما يخطئ وما يتتعتع، حتى أتى عليها، فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه، وقرأ : آلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فقال لمن عنده بالدار : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهداً فأنا صابر عليه، ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرّج على رجل أن يستقتل أو يقاتل". (الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص17)
وروى ابن خلدون: "ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبّت عليه نائـلة إمرأته تـتقي الضرب بيدها، فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها، ثم قتلوه وسال دمه على المصحف". (تاريخ ابن خلدون ج2 ص150)
وروى ابن كثير: "أن الغافقي بن حرب تقدّم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه ورفس المصحف الذي بين يديه برجله، فاستدار المصحف ثم استقرّ بين يدي عثمان رضي الله عنه وسالت عليه الدماء، ثم تقدّم سودان بن حمران بالسيف فمانعته نائلة فقطع أصابعها فَولّت فضرب عجيـزتها بـيده وقال: إنها لكبيرة العجيزة! وضرب عثمان فقتله". (البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص210)
وروى الطبري: "وجاء سودان بن حمران ليضربه فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها فتعمدها ونفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت فغمز أوراكها وقال إنها لكبيرة العجيزة وضرب عثمان فقتله". (تاريخ الطبري ج2 ص676)
فها أنت ترى أن عثمان قد ترك الرجال يحرقون باب داره ويقتحمونه وينتهكون حرمة امرأته حتى قطعوا أصابعها، بل وقام أحدهم بتحسّس مؤخّرتها وغمزها قائلاً: "إنها لكبيرة العجيزة"! وعثمان كأن على رأسه الطير لا ينتفض مدافعاً عن نفسه وعرضه! وحجته في ذلك: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليّ عهداً فأنا صابر عليه".
ولا يُقال: إن الهجوم جرى بغتة فلم يكن عثمان عالماً بالأمر ولو علم لتصدّى للمهاجمين ومنع نفسه ونساءه وعياله منهم. إذ يُقال: بلى إنه كان عالماً، فقد طال حصاره أربعين يوماً على ما ذكره المؤرخون، وقد رآهم يحرقون باب داره وهم يهمّون بالدخول، وعَلم أنهم يطلبون قتله بعد ذلك، ومع هذا لم يتصدَّ لهم ولم يقاتلهم بل حرّج على مَن يناصره أن يفعل ذلك دفاعاً عنه، قائلاً: "لم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرّج على رجل أن يستقتل أو يقاتل".
ولا يُقال: إن هتك حرمة امرأته جرى بعد مقتله ولو كان جرى أمام عينه لنهض وقاتل وما سكت. إذ يُقال: هذا خلاف الروايات أعلاه التي نطقت بأن قتله كان بعد أن حاولت نائلة الدفاع عنه، ولذا قُطعت أصابعها، فقد كان إذن ينظر لما يجري على امرأته، ورأى بأم عينه كيف قد غُمزت عجيزتها، غاية ما هنالك أنه قد جُرح قبل ذلك. ولا أقل من أنه كان عالماً بأن دخول الرجال عليه بيته يلازم بالضرورة انتهاك حرمة نسائه، فلماذا تركهم يدخلون ولم يحمل السيف دفاعاً عن نفسه وعرضه؟!
فجوابكم على هذا نجيب به - من باب الإلزام - على سؤالكم عن علة ما تزعمون - ولا حقيقة له - من قعود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن التصدّي لعمر وأوباشه أثناء هجومهم على داره.
هذا مع أن ههنا فروقاً بين الحادثتيْن، منها أن الهجوم على دار علي والزهراء (صلوات الله عليهما) جرى بغتة، أما الهجوم على دار عثمان ونائلة فقد جرى بعد حصار طويل ومقدمات طويلة، كان عثمان أثناءها قابعاً مرتعباً في بيته ينتظر المدد من معاوية.
والفرق الآخر هو الجواب الحلّي؛ ففي حادثة الهجوم على الدار النبوية هبَّ علي (صلوات الله عليه) كالليث من داخل بيته بمجرد أن سمع استغاثة الزهراء (صلوات الله عليها) عند الباب، فأخذ بتلابيب عمر وطرحه أرضا ووجأ أنفه ورقبته وجلس على صدره وهمّ بقتله لولا أنه تذكر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: "يا ابن صهاك! والذي أكرم محمدا - صلى الله عليه وآله - بالنبوة؛ لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليَّ رسول الله لعلمتَ أنك لا تدخل بيتي". (كتاب سُليم بن قيس الهلالي ص387).
فمن ذا يقول بأن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لم يدافع عن زوجته بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فالأمير (عليه السلام) هبّ لنجدة زوجته وحامى عنها بمجرّد أن سمع استغاثتها، بل وهمّ بقتل عمر لولا أن تذكر الوصية، لا كما يتوهّم هؤلاء الجهلة من أنه كان ساكتاً ينظر والعياذ بالله. أما ما وقع قبل ذلك من أحداث فإنما جرت فلتة وبشكل متسارع بعدما تطوّر الموقف فجأة واقتحم الأوغاد الدار.
أما أنه لماذا لم يقتص علي (صلوات الله عليه) من أبي بكر وعمر عليهما اللعنة؟ فجوابه: أنه (عليه السلام) حاول ذلك، غير أن القوم كانت لهم عصابة، وهو واحد، فينبغي أن يعدّ لهم عدّة من الرجال. وبالفعل فقد تحرّك أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في هذا الاتجاه ودعا الناس إلى مبايعته على جهاد القوم، لكن العدة التي بها يمكن تحقيق الانتصار عليهم لم تكتمل، وهي عدة الأربعين رجلاً، فقد علم أمير المؤمنين من أخيه رسول الله (صلى الله عليهما وآلهما) أنه بغير تحقق هذا العدد من الرجال لا يتحقق الانتصار.
روى سُليم بن قيس في حديث أن الأشعث بن قيس (لعنه الله) قال لأمير المؤمنين عليه السلام: "ما منعك يابن أبي طالب حين بويع أخو تيم بن مرة وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهما؛ أن تقاتل وتضرب بسيفك؟ وأنت لم تخطبنا خطبة - منذ كنتَ قَدِمْتَ العراق - إلا وقد قلتَ فيها قبل أن تنزل عن منبرك: والله إني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض الله محمدا صلى الله عليه وآله. فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟ فقال له علي عليه السلام: يابن قيس! قلتَ فاسمع الجواب: لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية للقاء ربي، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وعهده إلي، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا - حين عاينته - بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله أشد يقينا مني بما عاينت وشهدت، فقلت: يا رسول الله؛ فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك؟ قال: إنْ وجدتَ أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا". (كتاب سليم بن قيس ص214)
وروى أيضاً عن سلمان الفارسي المحمدي رضوان الله تعالى عليه: "فلما كان الليل حمل علي فاطمة على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهم السلام فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا الأربعة (سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير)فإنّا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته". (كتاب سليم ص146)
وروى أيضاً أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر وعمر عليهما اللعنة: "أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي؛ لجاهدتكم في الله". (كتاب سليم ص275)
ومن مصادر أهل الخلاف؛ قال ابن أبي الحديد: "وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم و تظلم واستنجد واستصرخ حيث ساموه الحضور والبيعة وأنه قال وهو يشير إلى القبر: يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي! وأنه قال: وا جعفراه! ولا جعفر لي اليوم! وا حمزتاه! ولا حمزة لي اليوم". (شرح النهج لابن أبي الحديد ج11 ص111 وقريب منه رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص31)
وروى أيضاً: "إنّ علياً عليه السلام لمّا استنجد بالمسلمين عَقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمِل فاطمة عليها السلام ليلاً على حمارٍ، وابناها بين يدي الحِمار وهو عليه السلام يسوقه، فيَطْرُق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النُّصرة والمَعُونة، أجابه أربعون رجلاً، فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يُصْبِحوا بُكرةً مُحلّقي رُؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يُوافِهِ عليه السلام منهم إلا أربعة: الزبير، والمِقداد، وأبو ذرّ، وسلمان. ثمّ أتاهم من الليل فناشدهم، فقالوا: نُصبّحك غُدوة، فما جاءه منهم إلا الأربعة، وكذلك في الليلة الثالثة، و كان الزبير أشدّهم له نُصرة، وأنفذهم في طاعته بصيرةً، حلق رأسه وجاءه مِراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة الباقون، إلّا أنّ الزبير هو كان الرأس فيهم". (شرح النهج لابن أبي الحديد ج11 ص14)
ومن مجموع الروايات يُستفاد أن عليا (صلوات الله عليه) قد بدأ حملة التحشيد للاقتصاص والأخذ بالثأر وإرجاع الحق إلى نصابه عبر قتال أبي بكر وعمر وعصابتهما الانقلابية، وبايعه أربعون رجلاً على ذلك، فاكتملت العدة، إلا أنه لم يفِ منهم إلا أربعة، فاضطر للعدول عن القتال. فدعوى أنه (عليه السلام) لم يحاول جهاد المجرمين الغاصبين باطلة، أما قعوده بعد ذلك فهو فيه معذور لأنه لم يجد أعواناً بعدة أربعين رجلاً يكفون للقتال كما أمره الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) بذلك. وهذا نظير قعود رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن قتال قريش قبل بدر رغم إجرامها بحق المسلمين، وما ذلك إلا لأن العدة المطلوبة - وهي ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً - لم تكتمل، وحين اكتملت أعلن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجهاد بأمر الله تعالى.
فلا يُقال: ولماذا الأربعون؟ إذ يُقال: إن الله تعالى هو مَن يحدّد، وكما حدّد عدة الثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً شرطاً لقتال قريش، كذلك حدّد عدة الأربعين رجلاً لقتال أبي بكر وعمر والمنافقين. فإذا لم يتحقق الشرط سقط القتال. ولهذا نظائر كثيرة في سيرة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام. والله هو العالم العارف بالمصالح، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، فليس لأحد الاعتراض على ما يحكم به.
وأما أنه لماذا لم يستخدم علي (عليه السلام) قوته الإعجازية المودعة فيه من قبل الله تعالى فيكتفي بنفسه في قتال أبي بكر وعمر؟ فجوابه: إنه لم يؤذن له في ذلك، وإلا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لديه أضعاف تلك القوة الإعجازية، ومع ذلك لم يستخدمها في غزواته وحروبه، وقاتل برجاله حتى خسر معركة أحد، وكان (صلى الله عليه وآله) يكفيه أن يدعو الله تعالى أن يزلزل الأرض تحت أقدام أعدائه فيستغني بذلك عن دعوة رجاله إلى القتال وخيانتهم له بفرارهم، لكنه لم يفعل ذلك إجمالاً، وما هذا إلا لأن الله تعالى أبى في مثل هذه الموارد إلا أن تجري الأمور بين أوليائه وأعدائه بحسب السياقات الطبيعية لا الإعجازية، ليعلم الذين جاهدوا ويعلم الصابرين، وليعلم أيضاً من يتخلف وينكث. ولو أنه سبحانه أذن لنبيّه أو وليّه وأجرى الإعجاز على يديه في مناجزة أعدائه على الدوام؛ لبطل الامتحان الإلهي للبشر، إذ كيف يُختبر الناس ليُرى وفاؤهم بالعهد الذي عاهدوا الله عليه إذا لم يُدعوا إلى القتال؟!
فهذا ما صنعه علي (عليه السلام) بأمر الله تعالى، إنه دعا الناس إلى القتال انتصاراً للحق والعدل، وثأراً لرسول الله وبضعته الزكية صلوات الله عليهما وآلهما، غير أن القوم خذلوا ولم يستجب منهم إلا أربعة. فماذا يفعل وليس مأذوناً له أن يقاتل بنفسه وذلك أمر محرّمٌ عليه بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله؟! إذ الأولوية شرعاً عليه هي حفظ نفسه.
ثم إن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقتص ممن حاولوا قتله بنفر ناقته على العقبة مخافة أن يُقال أن محمداً لما ظفر بأصحابه أخذ يقتّلهم، فكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام، لأن محمداً وعلياً وكذا أهل البيت الطاهرين (صلوات الله عليهم) إنما يفدون بأرواحهم دين الله تعالى، فيضحّون ويصبرون على مَن ظلمهم - إن لم تكتمل العدة -انتظاراً لأمر الله وانتقامه، وتقديماً للأهم على المهم.
ولو أن عليّاً (صلوات الله عليه) ناجز القوم القتال والحال هذه لما كان هو علي الذي نعرفه! إنما يكون رجلاً آخر، فعلي الذي قد عرفته صفحات المجد في الإسلام إنما هو ذلك الرجل الذي يقدّم الدين على نفسه، فلو تزاحم أمر حفظ الدين مع أمر اقتصاصه ممن ظلمه وظلم أهله؛ فلا شكّ أنه يقدّم الأول على الثاني، فداءً لدين الله تعالى وقرباناً إليه. ذلك هو أبو الحسن (عليه السلام) الذي كان قادراً على أن ينتقم لكنه صبر، وتلك هي خصال العظماء، فأن تكون عاجزاً فتصبر فأنت معذور، أما أن تكون قادراً فتصبر مراعاةً لما هو أهم والتزاماً بالشرط ووفاءً بالعهد، فأنت حينذاك تُجلُّ إجلالاً وتُرى بعين الإعظام والإكبار.
وأما استدلالك بالآية الكريمة فليس في محله، لأن الأمر خاص برسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس عاماً، ولم يقل أحد من فقهاء الإسلام قط أنه يعم سائر الناس فيجب على الواحد أن يبرز لقتال جيش بأكمله! وهو بعد مقيد بما يتحقق به التكليف لرسول الله صلى الله عليه وآله، فإنه مثلاً لم يخرج للقتال في كثير في من سراياه، ولم يخرج للقتال في حملة أسامة على الروم. فإن قلتَ: إنه كان مريضاً فهو معذور. قلنا: كذلك علي (عليه السلام) كان معذوراً لعلة فقدان الشرط، وكما سقط التكليف هناك عن النبي سقط ههنا عن الوصي صلوات الله عليهما، هذا إن تنزّلنا وقلنا أن الآية في العموم، لكنك عرفتَ أنها في الخصوص. وقد قال إمامنا الصادق صلوات الله عليه: "إن الله كلّف رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكلّف أحداً من خلقه، كلّفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه إنْ لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلّف هذا أحداً من قبله ولا بعده. وتلا هذه الآية". (الكافي الشريف للكليني ج8 ص275)
هداك الله وإيانا سواء السبيل، والسلام. 29 من ربيع الآخر لسنة 1431 من الهجرة النبوية الشريفة.
السؤال :
السلام عليكم ياشيخ ياسر الحبيب ورحمة الله وبركاته
حقيقة لقد كان جوابكم شافي وافي فالاعتراف بالحق فضيلة
واني مشدد عليكم بالسؤال فلا يضيقن صدركم بي
فقداثار جوابكم اشكالان اتمنى توافيني بجوابهما كما اجبت سؤالي هذا
الإشكال الأول قولكم أن الامام علي إنما قدم حفظ الدين على نفسه واهله
وهذا شيئ لا ننكره على الإمام علي
لكن المشكل انه قد اقول لكم بكل بساطة وأي حفظ للدين قد فعل بصبره هذا
وقد تركت الخلافة للمنافقين - وفق إعتقاد الشيعة - يفسدون في الأرض ولا يصلحون ويبتدعون ويخربون دين الله !!
فهلا وضحتم لنا كيف كان صبر الامام علي حفظا للدين والظاهر لنا أنه كان خلاف ذلك
اليس لو كان فعل كالحسين مثلا لكان ايقظ الضمائر مثلا باكرا او على اقل تقدير سيستشهد فلا يكون شاهدا لهذا الفساد مكتوف الايدي
هل مثلا حفظ حياته هو حفظ للدين ام ماذا
ياريت توضحون هالنقطة بحيث لا يبقى فيها لبث
الإشكال الثاني وهو اشد من الاول حقيقة
فانتم قولتم انه عدة اربعين رجلا من الصحابة لم تكتمل في صدق النصرة للإمام علي على العصابة التي جاهدته
فياشيخ بالله عليك اترى صحابة بالآلاف قد يصلون لمائة الف صحابي لم يتوفر فيهم اربعين رجل مؤمن صادق الايمان لنصرة الإمام علي ؟؟
اليس هذا غريبا
وعدد اربعين كما تعلم جد قليل مقارنة بعدد الصحابة
فهل تراك قصدت اربعين مثلا من صحابة المدينة فقط مثلا ام ماذا
ولو فرضنا انه بالمدينة كان عدد الصحابة قليل الم يكن بإمكانه ان يسير للقبائل التي بايعته يوم غدير خم
ثم هناك نقطة اخرى
هل قلوب الصحابة بالمدينة صارت حجرا لدرجة ان فاطمة تمر عليهم ببيوتهم تناشدهم نصرة علي والوفاء ببيعتهم ليه فلا يستجيب منهم عدد قليل كاربعين شخص
اليس هذا امر يثير الاستفهام والاستغراب
ايه كل الصحابة كانوا منافقين حريصين على الدنيا اما ماذا
حقيقي امر غريب
نقطة اخرى بمناسبة الحديث عن الصحابة فقد ادعيتم أن ابوبكر وعمر وجماعتهم خططوا جيدا لقضية الخلافة لكننا نرى أن اول من اجتمع بالسقيفة هم الانصار لا سيدناابوبكر وسيدنا عمر
وقد جاءا الشيخان بعد ماعلموا بما يجري بالسقيفة
فكيف تفسرون هذا
الا يدل هذا على سلامة نية الشيخان
ثم ماذا الانصار بعدهم كانوا طمعانين بالخلافة ام ماذا
ننتظر جوابكم
ونرجو ان لا يضايقكم جوهر اسئلتي العميق
رزقنا الله واياكم رضى اهل البيت رضي الله عنهم والعمل بما يرضيهم
والسلام عليكم
سني
الجواب :
جواب الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ج1: هذا الإشكال مردود بأنّا حيث علمنا أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أمره بالصبر إن لم يجد أعواناً؛ علمنا أن المصلحة الدينية كانت فيه، أي أن حفظ وبقاء الدين كانت في هذا الصبر، فحتى لو لم نعلم وجه الحكمة في هذا، وأنه في أي شيء كان حفظاً للدين؟ وجب علينا التسليم بأنه كان حفظاً للدين، لسبق أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك.
ثم إن الإمام (صلوات الله عليه) أشار في بعض الأحاديث إلى أنه لو لم يلتزم الوصية بالصبر لذهب حتى شعار الإقرار بنبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، ولاندثر اسمه الذي يُرفع على المنابر. ومن تلك الأحاديث ما رواه مخالفونا أيضاً، فقد روى ابن أبي الحديد أنه: ”لامته فاطمة على قعوده وأطالت تعنيفه وهو ساكت، حتى أذَّنَ المؤذن، فلمّا بلغ إلى قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) قال لها: أتحبّين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟ قالت: لا. قال: فهو ما أقول لكِ“. (شرح النهج لابن أبي الحديد ج20 ص326)
لو أن الإمام (صلوات الله عليه) حارب دون اكتمال العدة، لأجهزوا عليه وعلى الثلة القليلة من أهل بيته وأصحابه، ثم لاتخذوا سبيل الانتقام توسّعاً، فأسقطوا كل ما يمت إلى بني هاشم بصلة، ولأسقطوا شعار نبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، انتقاماً من أهل بيته. وقد كان القوم على وشك ذلك إنْ تأمَّلْتَ جيداً في التاريخ، فهذا معاوية (لعنه الله) حين يطلب منه المغيرة بن شعبة الكف عن تعقّب بني هاشم بالقتل والإيذاء يقول: ”هيهات هيهات! أي ذكرٍ أرجو بقاءه؟! مَلَكَ أخو تيْمٍ فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره! إلا أن يقول قائل: أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره! إلا أن يقول قائل: عمر. وإن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات: (أشهد أن محمدا رسول الله) فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا؟! لا أبا لك! لا والله إلا دفناً دفناً“! (الموفقيات للزبير بن بكار ص576 ومروج الذهب للمسعودي ج3 ص454 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج9 ص238)
وهذا عبد الله بن الزبير، قد أسقط ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) من خطبة الصلاة نكاية بعلي (عليه السلام) وبني هاشم! قال الزهري: ”كان من أعظم ما أُنكر على عبد الله بن الزبير تركه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وقوله حين كُلِّمَ في ذلك: إن له أُهَيْلَ سوء إذا ذُكِرَ استطالوا ومدّوا أعناقهم لذكره“! (أنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص418 ونحوه في العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي ج4 ص413)
وكل هذا حصل مع أن عليّاً (صلوات الله عليه) صبر وتحمّل، فما بالك لو أنه لم يصبر وحارب؟! أتراهم يُبقون على اسم محمد (صلى الله عليه وآله) أم تراهم يُبقون على اسم الإسلام؟!
وهذا الصبر وهذه التضحية منه (عليه السلام) لأجل الإبقاء على الاسم والشعار؛ هو أمر ممدوح عند العقلاء، فإن ذهاب الدين بتحريفه من مضمونه لا شك أنه أمر خطير شديد، إلا ان ذهاب اسمه وشعاره هو أخطر وأشد، فإذا ما رام امرئ الحفاظ على هذا القدر بالتضحية والصبر؛ امتدحه العقلاء، لأن بقاء الاسم والشعار أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن تالياً تصحيح مضمونه، أما ذهاب الاسم والشعار واندثاره فذلك يوجب التأسيس من جديد، وهو أصعب من التصحيح.
والمقارنة بين ظرف الأمير (عليه السلام) وظرف الحسين (عليه السلام) مقارنة خاطئة في موضوعها، لأن الحسين (عليه السلام) إنما نهض وحارب بعدما ترسّخ اسم النبي (صلى الله عليه وآله) وشعار الإسلام بما لا إمكان لمحوه، وذلك بعد نحو ستين سنة من بدء الدعوة وانتشارها، حيث وُلدت أجيال على الإسلام. أما علي (عليه السلام) فقد كان في مرحلة لم يمض فيها على قيام الإسلام إلا عشر سنين فقط، ولم يولد عليه إلا من هم معدودون على الأصابع، فلم تكن الدعوة مستقرة تمام الاستقرار، والدليل على ذلك أنه بمجرد أن استشهد النبي (صلى الله عليه وآله) وقعت هزة عنيفة أدت إلى ارتداد كثير من العرب وتبديلهم دينهم.
فلو أنه (عليه السلام) في ذلك الظرف الحساس رفع السيف محارباً بلا اكتمال العدة، لما تبقّى شيء، ولانهدم كل شيء، إذ يكفي أن يرى العرب أن عاصمة الإسلام يحدث فيها اقتتال داخلي على السلطة ليكفر جميعهم بالإسلام والنبوة، علاوة على أن ذلك كان فيه الإجهاز على أمير المؤمنين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) فلا يبقى علم للدين يُرجع إليه، عدا عن أنه سيدفع أبا بكر وعمر وأصحابهما (عليهم اللعنة) لمحو اسم النبي (صلى الله عليه وآله) انتقاماً، وذلك ليس مستبعداً، فإنّا وجدنا عمر حين تولّى السلطة يدوس برجله كُتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التولية قائلاً: ”ما هو إلا ملك انصرف“! (تاريخ المدينة لابن شبة ج1 ص596) وحين يُنكَر عليه الإحداث في الدين والغلظة على الرعية يقول: ”أنا زميل محمد“! (تاريخ الطبري ج3 ص291)
فرجل له مثل هذه الجرأة على عهود رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعتبر مرحلته مجرد ”ملك انصرف“ كما ويعتبر نفسه زميلاً للنبي له أن يفعل ما يشاء.. رجلٌ مثل هذا مع ما عُرف منه من الغلظة وقسوة القلب؛ لا يُستبعد منه إن ثار ضده علي (عليه السلام) أن يقتله ثم يشفي غليله بمحو اسم ابن عمه من أن يُذكر على المنابر والمنائر!
فتحصّل من هذا أن صبر الإمام (صلوات الله عليه) حيث لم تكتمل العدة كان لأجل:
(1) إبقاء اسم النبوة وشعار الإسلام.
(2) حفظ نفسه وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام.
(3) دفعاً لما هو أفسد من انتقاض أمر الإسلام عند العرب جميعاً.
وهذه كلها من وجوه حفظ الدين بالمعنى الأعم كما لا يخفى، ولولاه لاندرس الدين بالكلية. ومهما يكن فلا تغفل عمّا قدّمناه من أن علينا التسليم بأن المصلحة الشرعية كانت في هذا الصبر ما لم تكتمل العدة، حتى وإنْ لم نعرف وجهها، لأن الأمر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواجب الطاعة، وهو الأعرف بالمصلحة.
ج2: هنا أكثر من نقطة في الجواب:
الأولى؛ أن هؤلاء الذين تسميهم (صحابة) والذين يصلون إلى مئة ألف، ما هم إلا البشر الذين جاء هذا النبي (صلى الله عليه وآله) لدعوتهم إلى دينه، وقد كانوا من قبل غارقين في أوحال الكفر والجاهلية، فآمن أكثرهم إيماناً قشرياً. يشهد بذلك الكتاب العزيز وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله. فتصوير هؤلاء بصورة (الحواريين) أو بصورة أنهم رجال الدعوة المتفانين؛ هو تجاوز على الحقيقة والواقع. ومثل هؤلاء لا يعوَّل عليهم.
الثانية؛ أن المستظهر من الروايات أن عدة الأربعين إنما كانت مطلوبة من المهاجرين والأنصار لا من غيرهم، باعتبار أن أي تغيير في واقع المجتمع المدني لا يمكن تحققه من سواهم، فهم أهل الحل والعقد، وإليهم تشخص الأنظار.
الثالثة؛ أن الروايات تذكر أن ثمة أربعين رجلاً قد أبدوا استعدادهم لنصرة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في بادئ الأمر على الثورة ضد أبي بكر وعمر ورجالهما، إلا أنهم لم يفوا حين اختبرهم أمير المؤمنين (عليه السلام) طالباً منهم حلق الرؤوس إيذاناً بالحرب.
روى المفيد عن عمرو بن ثابت عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث: ”إنه لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وآله جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعةً بعدك أبداً. قال: ولِمَ؟ قالوا: إنّا سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله فيك يوم غدير خم. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال: فأتوني غداً محلّقين. قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة (سلمان والمقداد وأبو ذر) قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال له: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة؟! ارجعوا فلا حاجة لي فيكم! أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد؟! ارجعوا فلا حاجة لي فيكم“. (الاختصاص للمفيد ص6)
الثالثة؛ لم يكن لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن يسير إلى القبائل، فهو من جهة محكوم بالوصية التي تبَيَّن لك أن المطلوب فيها عدة من المهاجرين والأنصار لا من سواهم، وهو من جهة أخرى مضطر للمكوث في المدينة حفظاً لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانتيْه ودرءاً لما هو أفسد مما يقع في الدين، وهو من جهة ثالثة محاصَر أصلاً في بيته، وهو من جهة رابعة عارف بأن من هم خارج المدينة من الأعراب لا يُتوقّع منهم شيء، فإن فيهم المؤلفة قلوبهم، ومن هم أشد كفراً ونفاقاً، ومن يعبد الله على حرف، ومن أعلن الكفر الصريح، ومن رجع القهقرى، ومن يؤثر السلامة، ومن يقول: حشرٌ مع الناس عيد! ومثل هؤلاء لا يُرتجى منهم شيء.
إنه إن لم تأتِ النصرة من مثل المهاجرين والأنصار؛ أتراها تأتي من الأعراب ومن يلونهم؟!
الرابعة؛ لا ينبغي استبعاد أن تكون قلوبهم قد صارت كالحجارة أو أشد قسوة؛ أوما علمتَ بخذلانهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أحد وحنين حتى لم يبقَ منهم معه إلا واحد أو اثنان أو أربع على أعلى الفروض؟! ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أعظم حرمةً في نفوسهم من علي والزهراء صلوات الله عليهما! قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستصرخهم يوم أحد وحُنين طالباً نجدتهم وقد احتوشه المشركون من كل جانب.. فإذا بهم لمّا رأوا الموت فرّوا وتركوه وحيداً! وكان في مقدمة مَن فرّ أبو بكر وعمر وعثمان! فيا لقلوب هي أشد قسوة من الحجارة! ويا لنفوس جبانة لم يستقر فيها دين الله!
أوما علمتَ كيف خذل أصحاب موسى (عليه السلام) نبيّهم وخليفته النبي هارون (عليه السلام) فاتبعوا السامري وعبدوا العجل! هذا ولم يكن قد غاب عنهم إلا أربعين ليلة! كفروا فيها بأصل دعوته وهو التوحيد! فيا لأصحاب خونة! ويا لأتباع منافقين قد أُشربوا في قلوبهم العجل!
أجل؛ إنها الدنيا! قد كان هؤلاء الذين تطلق عليهم اسم (الصحابة) عبّاداً لها، نعم إنهم يتظاهرون حين اليُسر والرخاء بالدين والإيمان! ويحملون لك السيف مقاتلين كي يظفروا بالغنائم! حتى إذا حرمهم منها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضجّوا واعترضوا واتهموه بأنه يغلّ! فيردّ الله سبحانه عليهم بقوله: ”وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ“.
إذا أردتَ معرفة نفوسهم الحقيقية وكيف أنها كانت نفوساً ملوّثةً بحب الدنيا، فأعد قراءة قوله تعالى: ”وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّـهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّـهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ“. هاهم (الصحابة) الذين ملأ المفتونون بهم الدنيا مديحاً وثناءً، قد بلغ من عمق إيمانهم وتعلقهم بالآخرة أنهم يُبطلون صلاتهم خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينفضّون إلى اللهو والتجارة ويتركونه قائماً لوحده! فما أعظم إيمان هؤلاء (الصحابة) وما أبعدهم عن الدنيا!
نعم؛ ما أبعدهم عن الدنيا واستعدادهم للتضحية بها في سبيل الآخرة، ولذا حين أمرهم الله تعالى بأن يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة في قوله سبحانه: ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ“ تراهم أحجموا عن ذلك إذ أشفقوا على أموالهم! فنزل قوله تعالى: ”أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ“!
نعم، هكذا يكون التعلق بالآخرة والإعراض عن الدنيا.. وإلا فلا!
إن الذين يبخلون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأموالهم، والذين يتركونه من أجل اللهو والتجارة قائماً وهو يصلّي بهم، والذين يخذلونه ويفرّون من بين يديه بعدما يحتوشه المشركون.. هم أصحاب قلوب هي أشد قسوة من الحجارة، ونفوس هي أكدر من الطرق، فكيف تستبعد أن يخذلوا علياً وفاطمة (صلوات الله عليهما) وكيف تستغرب أن يتذرّعوا لهما بالقول: ”قد مضت بيعتنا لهذا الرجل“! (السقيفة وفدك للجوهري ص63)
قال سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله عليهما: ”إن الناس عبيد الدنيا! والدين لَعِقٌ على ألسنتهم! يحوطونه ما درَّتْ معائشهم! فإذا مُحِّصوا بالبلاء؛ قلَّ الديّانون“! (تحف العقول لابن شعبة البحراني ص245)
أجل؛ كان الدين لعقاً على ألسن هؤلاء، إنما يوجّهونه حيث تدرّ معائشهم ومصالحهم الدنيوية، وحين أراد الله تمحيصهم بالبلاء، ليعلم مَن ينصر وليّه منهم؛ قلّ الديّانون وانصرفوا! إنما هم عبيد الدنيا! فلا تتعجّبنَّ!
ج3: قد ذكرنا في سلسلة محاضرات (
كيف زُيِّفَ الإسلام؟) أن الطامعين من الأنصار (كسعد بن عبادة وأسيد بن حضير) حين علموا بأن الطامعين من المهاجرين (كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة) يريدون نيل السلطة؛ أدركوا أن الخليفة الشرعي (عليه السلام) لم تعد له فرصة إذ خذله كبار قومه من قريش وما عادت لهم فيه رغبة، فقالوا حينئذ: ”نحن أحق بها“ فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فلمّا بلغ نبأ اجتماعهم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة؛ تركوا جنازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتراكضوا نحو السقيفة لئلا تفلت الخلافة من بين أيديهم إلى الأنصار!
فكيف جعلتَ هذا دليلاً على سلامة نية (الشيخين) وهو على العكس أدلّ؟! إذ لو كانا غير طامعيْن في السلطة لاهتموا بجنازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما فعل علي (عليه السلام) ولتركوا الأنصار يفعلون ما يحلو لهم، وما الذي كان يضير أبا بكر وعمر أن يتولّى سعد بن عبادة مثلاً، إنْ قلتَ: إنها لم يُرِدا أن تستأثر طائفةٌ من المسلمين بالأمر دون الأخرى، وأرادا أن تتشاور الأمة جمعاء لتنصيب الخليفة؛ قيل لك: فإنهما وقعا في ذلك حين قَبِلا بنصب أبي بكر في ذلك الاجتماع بعينه! وقد غابت عنه أكثرية الأمة بما في ذلك رؤوس المهاجرين!
إن قلتَ: إنهما وجدا قريشاً أحق بالخلافة لقربهم من النبي (صلى الله عليه وآله) من الأنصار الذين هم أبعد؛ قيل لك: فإن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) أقرب وأقرب فما بالهما لم يسلّما الأمر إلى علي صلوات الله عليه؟!
إن قلتَ: إنهما وجدا أنفسهما أحق بها؛ قيل لك: وكذلك علي (عليه السلام) فما بالك أخذت جانبهما ولم تأخذ جانبه وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: ”علي مع الحقّ والحقّ مع علي، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة“. (تاريخ بغداد للخطيب ج14 ص320 ومستدرك الحاكم ج3 ص134 ومجمع الزوائد للهيثمي ج7 ص135 وغيره كثير بألفاظ متنوعة).
ثم إن كونهما قد وجدا أنفسهما أحق بها يعني أنهما قد طمعا فيها! ولا يُقال: فكذلك علي عليه السلام؛ إذ يُقال: هذا قياس مع الفارق، فإنه مكلّف بالنهوض بالخلافة نصّاً من الله تعالى ووصيّةً من رسوله صلى الله عليه وآله. ولم يدِّعِ أبو بكر ولا عمر أن لهما النص والوصية، اللهم إلا غلاة البكرية الذين زعم بعضهم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) نصّ على أبي بكر وعمر وعثمان، فأبطلوا بذلك القول بالشورى، ولا نظنك من هؤلاء.
رزقنا الله وإياك ما دعوتَ به حقّاً من نيل رضا أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، وأنت على الرحب والسعة دوماً، ولا تضايقنا أسئلتك بل تفرحنا لأن السؤال هو ما يقود بالمرء إلى الهدى والبصيرة. بوركت، والسلام. ليلة خمس بقين من جمادى الأولى لسنة إحدى وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة.
السؤال :
السلام عليكم ياعالم الرافضة
حقيقة لا ادري ماذا اقول لكم وبما ارد عليكم وبما اطعن بمقالتكم
فبعد قراءتي لجوابكم على اشكالي الاثنين لم يعد لدي مفر
للأسف لقد القمتموني حجرا
وانا في اصحابي اعد داهية
فلا اعلم كيف لو تناقش معك عامة السنة وهم ادنى من ان يكونوا دواهي كحالتي
لم يعد لدي اي اشكال على جوهر كلامكم
فقط اسأل حول بعض تفاصيل جوابكم
قولتم سماحة الشيخ (فتصوير هؤلاء بصورة (الحواريين) أو بصورة أنهم رجال الدعوة المتفانين؛ هو تجاوز على الحقيقة والواقع)
فهل كان الحواريين اكثر ايمانا من الصحابة وبقوا على ايمانهم بإعتقادكم ام انك تقصد مجرد المثال من حيث الاعتقاد السائد في كلمة حواريين انها مرادف الاخلاص التام والرجال المخلصين
وقولتم (ولم يدِّعِ أبو بكر ولا عمر أن لهما النص والوصية، اللهم إلا غلاة البكرية الذين زعم بعضهم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) نصّ على أبي بكر وعمر وعثمان، فأبطلوا بذلك القول بالشورى، ولا نظنك من هؤلاء.)
نعم صحيح اكثر علماؤنا على انه لا وصية
لكن البعض يقولون هناك ترجيح من النبي لكفة ابي بكر وليس وصية بشكل مباشر بالشكل الذي تقول به الشيعة ويذكرون نصوص عديدة اختصاص ابي بكر من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته ادعوا ابابكر مر ابابكر فاليصل بالناس الخ من نصوص لا نظنها تخفى عن سماحتكم
فكيف تبطلونها وتسقطونها بمنطقية وعقلانية دون تعصب او تحامل كما عهدناكم
وحقيقة لقدت شعرت واحسست بقولت سيدنا الحسين رضي الله عنه التي نقلتموها
\"إن الناس عبيد الدنيا! والدين لَعِقٌ على ألسنتهم! يحوطونه ما درَّتْ معائشهم! فإذا مُحِّصوا بالبلاء؛ قلَّ الديّانون“
فانا المسها بواقع كثير من اخواني السنةهنا الذين اخالطهم واعمل معهم للأسف الشديد
رغم ظاهرهم الذي كله سنة في سنة سواك ولحى وقال الله وقال الرسول دوما على افواههم لكن واقعهم حين المواقف لا يكون موافقا لتلك السنن ابدا فيغضبون لأبسط الامور ولا يكظمون غيظا مثلا ففعلا ياشيخ المواقف هي التي تظهر الايمان الحقيقي وليس الرخاء
لكن ياشيخ بما انكم ذكرتم هذه النقطة
فإننا نلاحظ ابوبكر وعمر لم يتغيبا مثلا عن غزوة تبوك رغم صعوبتها وقسوتها وتغيب اكثر المنافقين عنها حتى ان علماء شيعة قالوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص الامام علي كرم الله وجهه لرئاسة المدينة فيها دون الخروج معه بسبب ان اكثر المنافقين تخلفوا عنها
فبما تفسر هذه شدة وموقف صعب ولم يتغيب عنها ابوبكر وعمر فبما تفسرون هذا
اليس حريا بهما التغيب لو كانا منافقين باعتقادكم كسائر المنافقين الذين تغيبوا عنها
واشكر دعائكم واسأل الله لكم بمثله
السني
الجواب :
جواب الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أسعد الله أيامنا وأيامكم بالأعياد الثلاثة، ذكرى ميلاد إمامنا سيد الشهداء الحسين بن علي، وإمامنا سيد العابدين علي بن الحسين، وسيدنا قمر بني هاشم العباس بن علي، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ج1: الحواريون هم الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه وكانوا أول المقرّبين. ومعلومٌ أنه لم يكن كل أصحاب عيسى (عليه السلام) كذلك، كما لم يكن كل أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كذلك، كما لم يكن كل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كذلك. بل هم فئة مخصوصة.
روى الكشي بسنده عن أسباط بن سالم قال: «قال أبو الحسن موسى بن جعفر (الكاظم) عليهما السلام: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواريّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر. ثم ينادي منادٍ: أين حواري علي بن أبي طالب وصي محمد بن عبد الله صلوات الله عليهما وآلهما؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد وأويس القرني. قال: ثم ينادي منادٍ: أين حواري الحسن بن علي بن فاطمة ابنة محمد بن عبد الله رسول الله صلوات الله عليهم؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني وحذيفة بن أسيد الغفاري. قال: ثم ينادي منادٍ أين حواري الحسين عليه السلام؟ فيقوم كل من استشهد معه ولم يتخلّف عنه. قال: ثم ينادي منادٍ: أين حواري علي بن الحسين عليهما السلام؟ فيقوم جبير بن مطعم ويحيى بن أم الطويل وأبو خالد الكابلي وسعيد بن المسيب. قال: ثم ينادي منادٍ: أين حواري محمد بن علي وحواري جعفر بن محمد عليهم السلام؟ فيقوم عبد الله بن شريك العامري وزرارة بن أعين وبريد بن معاوية العجلي ومحمد بن مسلم وأبو بصير ليث بن البختري المرادي وعبد الله بن أبي يعفور وعامر بن عبد الله بن جذاعة وحجر بن زائدة وحمران بن أعين. قال: ثم ينادي سائر الشيعة مع سائر الأئمة عليهم السلام يوم القيامة، فهؤلاء المتحوّرة أول السابقين وأول المقرّبين وأول المتحوّرين من التابعين». (رجال الكشي ج1 ص40)
وعلى هذا، فحواري محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل من حواري عيسى (صلوات الله عليه) أما أصحابهما فسواء، فيهم المؤمن الصالح، وفيهم المنافق الطالح، وفيهم الوفي، وفيهم الخائن.
ج2: حتى لو صحّ أن النبي قد عيّن أبا بكر إماما للمصلين فإن ذلك لا يلازم بالضرورة أن يكون هو الأحق بالخلافة، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) سبق أن عيّن مثلا ابن أم مكتوم - الضرير - للصلاة بالناس، ولم يقل أحد أنه أجدر الناس بالخلافة بسبب ذلك التعيين، إن صحّ.
روى أبو داود عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وآله استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» (سنن أبي داود ج1 ص98).
وقد اعترف ابن تيمية بعدم الملازمة قائلا: «الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد لكل ولي أمر، وليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يُستخلف بعد الموت، فإن النبي استخلف غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، كما استعمل ابن أم مكتوم الأعمى في حياته وهو لا يصلح للخلافة بعد موته، وكذلك بشير بن عبد المنذر وغيره». (منهاج السنة لابن تيمية ج4 ص91)
نقول هذا إن صحّ أنه (صلى الله عليه وآله) قال: «مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس»، والحال أنه لم يصح، إذ هو مروي عن عائشة، ولا يعتد برواياتها لأنها اعترفت أنها كانت تكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، كما في حديث المغافير وحديث أسماء بنت النعمان. ثم إن في الخبر نفسه نصٌّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد عزله عن الإمامة، فقام يُهادى بين رجليْن. وما قيامه ورجلاه تخطّان بالأرض وتحمّله لكل هذه المشقة إلا دليل على أن أمر نصب أبي بكر إماماً لم يكن منه، وإلا فيقبح من الحكيم أن يُبطل ما أمر به توّاً وهو على هذه الحال. ودعوى عائشة أنه فعل ذلك لأنه وجد في نفسه خفة؛ غير مقبولة، لأن الفاصل الزمني لم يتجاوز لحظات.
ثم إن علياً (عليه السلام) على ما رواه مخالفونا كان يتهم عائشة بأنها زوّرت هذا الأمر عن النبي صلى الله عليه وآله. فقد روى ابن أبي الحديد عن أبي يعقوب بن إسماعيل اللمعاني: «نسب علي عليه السلام عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس، لأن رسول الله كما رُوِيَ قال: ليصل بهم أحدهم. ولم يعيّن. وكانت صلاة الصبح، فخرج رسول الله وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس، حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل، فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاتِه حجةً في صرف الأمر إليه. وقال: أيكم يطيب نفسا أن يتقدّم قدميْن قدّمهما رسول الله في الصلاة؟! ولم يحملوا خروج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن، فبويع علي على هذه النكتة التي اتهمها علي عليه السلام أنها ابتدأت منها. وكان علي عليه السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا، ويقول: إنه لم يقل صلى الله عليه وآله: إنكن لصويحبات يوسف؛ إلا إنكارا لهذه الحال، وغضبا منها، لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب فلم يجدِ ذلك ولا أثّر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهّد له قاعدة الأمر، وتقرّرِ حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار، ولما ساعد ذلك من الحظ الفلكي والأمر السمائي الذي جمع عليه القلوب والأهواء، فكانت هذه الحال عند علي أعظم من كل عظيم، وهي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ولم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها، ولا علّق الأمر الواقع إلا بها، فدعا عليها في خلواته وبين خواصّه، وتظلّم إلى الله منها». (شرح النهج لابن أبي الحديد ج9 ص198)
وقد سأل ابن أبي الحديد شيخه اللمعاني: «أفتقول أنت إن عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه؟! فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، ولكن عليا كان يقوله! وتكليفي غير تكليفه، كان حاضرا ولم أكن حاضرا». (المصدر نفسه)
وأنّى لنا أن نصدّق أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر أبا بكر بإمامة الناس والحال أنه كان قد أمره قبل أيام بأن يلتحق في بعث أسامة لقتال الروم! فقد ذكر ذلك الذهبي في تأريخه – كتاب المغازي ص714، وابن سعد في طبقاته ج1 ص480، وابن الأثير في الكامل ج2 ص180، وابن الجوزي في منتظمه ج2 ص458، وغيرهم، فالمفروض أن يكون أبو بكر خارج المدينة، وما عودته من البعث ووجوده في المدينة إلا عصيان، فكيف يأمره النبي (صلى الله عليه وآله) والحال هذه؟!
فالحاصل أنه لا يمكن التعويل على هذا الخبر الذي ترويه عائشة.
ج3: ولمَ لا يُقال أن عدم تخلّفهما عن تبوك دليل على عِظَم دهائهما النابع من نفاقهما، فإن المنافق الداهية يتحاشى أن يظهر نفاقه فيفضح نفسه، ولو أنه تخلّف مع سائر المنافقين لانكشف وانفضح.
وعلى أية حال؛ مع قيام الدليل القطعي على نفاق أبي بكر وعمر، لا بد من أن لا تُعتبر مشاركتهما في تبوك دليلاً على صدق إيمانهما، وإلا لوجب الحكم على عبد الله بن أبي بن سلول بصدق الإيمان أيضاً، لأنه حين كان على فراش الموت قال للنبي صلى الله عليه وآله: «يا رسول الله، ليس هذا بحين عتاب، هو الموت! فإن متُّ فاحضر غسلي، وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفّني فيه وصلِّ عليَّ واستغفر لي». (السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص65)
فهل لأحد أن يزعم أن هذا دليل على صدق إيمانه؟! لأنه لم يكن بحاجة لأن ينافق وهو على فراش الموت وها هو قد طلب من رسول الله قميصه ليكفَّن فيه، وطلب منه حضور غسله، والصلاة عليه والاستغفار له، وما كل هذا إلا كاشف عن اعتقاده بأنه (صلى الله عليه وآله) يقيه العذاب، فهو إذن مؤمن مقرّ بنبوته صلى الله عليه وآله. وقد لبّى النبي (صلى الله عليه وآله) طلبه كما جاء في السيرة أيضاً، فهذا دليل إضافي على صدق إيمانه!
هل لأحد أن يزعم مثل هذا الزعم بناءً على هذه الافتراضات الاستحسانية؟! بالطبع لا، لأن الدليل القطعي قام على نفاق ابن أبي سلول، فلا بد من توجيه طلبه كفن النبي (صلى الله عليه وآله) وحضوره غسله على ما لا يُحكم بسببه بصدق إيمانه. فكذا الحال مع أبي بكر وعمر وأضرابهما، إذ يكفي في قيام الدليل على نفاق الأول آية الغار إذ حُرم من السكينة، والثاني اتهامه النبي (صلى الله عليه وآله) بالهجر والهذيان في قوله: «إن الرجل ليهجر». كما فصّلناه في المحاضرات والأجوبة.
ومعلومٌ أن المنافقين كانوا قد اشتركوا مراراً في غزوات وحروب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل بعضهم - كالمدعو قزمان المتفق على نفاقه - قاتل باستبسال قتال الأبطال وقُتِل فيها، ومع ذلك كان من أهل النار. فالمشاركة إذن في الحروب والغزوات لا تثبت شيئاً ما لم تحفّها القرائن على صدق الإيمان والإخلاص.
ثم على فرض أن الواحد من هؤلاء كان صادقاً ومخلصاً في بدو أمره، فإنه لا يمتنع أن ينقلب تالياً على عقبيه حين يبتلي الله عباده بعد استشهاد نبيه (صلى الله عليه وآله) ورحيله للرفيق الأعلى، فإنما الأعمال بالخواتيم، وقد وجدنا أبا بكر وعمر وأضرابهما بعد استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله) ممن انقلب على عقبيه، وخان وبدّل وابتدع، ولم يرقب في آل محمد (صلوات الله عليهم) إلاً ولا ذمة. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أنار الله بصيرتك للحق والإيمان وأعاذك من أن تعادي له ولياً أو توالي له عدواً، والسلام. الثاني من شعبان المعظم لسنة إحدى وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية الشريفة.