تطرق السيد الحيدري إلى نهجكم وهو إعلان البراءة واستدل بروايات مفادها أن منهجكم مخالف للأئمة عليهم السلام.
برجاء عرض أدلته على الشيخ الحبيب لنسمع إلى تفنيدها حسب رؤية الشيخ.
الروايات التي أشكل بها عليكم :
1. ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في الروضة للكافي في أول حديث "... وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم وقد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله كيف هو؟ إنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله ومن أظلم عند الله ممن أستسب لله ولاولياء الله، فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2. ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا عليه السلام "وإذاسمعوا مثالب أعدائنا بأسمآئهم ثلبونا بأسمآئنا ، وقد قال الله عزوجل : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم.
3. ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ..."
أخوكم أبوحسين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عظم الله أجورنا وأجوركم بذكرى استشهاد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ولعنة الله على قاتليها وأعدائها.
لا ضرورة لعرض هذه الإشكالات على الشيخ لأن سماحته تطرق لها منذ سنوات عديدة في محاضراته وأجاب عنها تفصيليا، فهو كان يعلم بأن مثل هذه الإشكالات سيتهافت عليها أعداء هذا المنهج فاستبقهم بطرحها حيث أشكل على نفسه وأجاب، لكن المشكلة هي أن الآخرين لا يتعبون أنفسهم في المتابعة ومنهم هذا الشخص المذكور فإنه لو كان تابع محاضرات الشيخ أو اطلع على كتابه (تحرير الإنسان الشيعي) لأدرك أن هذه الإشكالات بهذه الصورة التي طرحها في برنامجه تعتبر ركيكة جدا وقد أجيب عنها.
مثلا بالنسبة للشبهة الأولى فقد جاء في كتاب (تحرير الإنسان الشيعي - الصفحة 141):
"■ شبهة إطلاق النهي عن السب بما جاء في الكتاب
بعدما تأكد لنا ذلك نعود الآن للإجابة على شبهة غير ذوي الفطنة التي حكيناها في إحدى الحلقات الماضية من هذا المبحث، تلك الشبهة التي تعتمد على قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حيث يقول هؤلاء: إن هذه الآية توجب علينا أن نكف ألسنتنا عن مقدسات الآخرين حتى يحترموا مقدساتنا، وعليه لا يجوز مثلاً النيل من أبي بكر أو عمر أو عائشة أو من أشبه وإن كانوا عندنا من أئمة الكفر وأعلام الضلالة، فما داموا عند أهل الخلاف من أئمة الدين وأعلام الهداية فلا بد لنا من احترامهم وتجنب النيل منهم!
وترى هؤلاء المشتبهين يستشهدون ببعض الروايات الشريفة في تفسير هذه الآية والتفريع عليها، من قبيل ما جاء من أن سب أولياء الله كسب الله، فتشمل الحرمة ما لو سُبَّ أحد أعداء الله فيحمل ذلك العدو أو مناصره على أن يسب أولياء الله، فيكون الأمر محرّماً، «ومن أظلم عند الله ممن استسبّ لله ولأوليائه» كما قال الصادق عليه السلام.(الكافي للكليني ج8 ص402)
هكذا يروّج هؤلاء المشتبهون لشبهتهم الناشئة من جهل وقلة فهم، أما الجهل فلأنهم يجهلون عشرات الأحاديث والروايات التي عرضنا بعضها في الحلقات الماضية والتي أثبتت نيل الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من أعداء الله بأحد الألفاظ مع كونهم رموزاً كبيرة عند بعض الطوائف. هؤلاء المشتبهون لم يقرأوا هذه الأحاديث والروايات، لم يعرفوها، ولذلك رأينا كثيراً منهم يتفاجأ حين نعرض عليه هذه الأحاديث والروايات، ويتفاجأ أكثر حين يعلم أنها معتبرة.
هذا هو الجهل الذي جعلهم يقعون في هذه الشبهة ويوقعون الناس فيها، وأما قلة الفهم أو لنقل قلة الفقه؛ فلأنهم ما فهموا الآية الكريمة جيداً، ولا فقهوا ما في الأحاديث المرتبطة بها أيضاً، فأسّسوا قولهم بحرمة النيل من رموز الآخرين مطلقاً على قاعدة الجهل وقلة الفهم أو الفقه، ولهذا سبق منا القول أنّا نشفق عليهم، إلا أنّا من واقع المسؤولية لا نعذرهم إذ قصّروا في التعلم والتفقه مع تصدّيهم لتوجيه الناس، فإنهم بذلك سبّبوا تأخر الأمة إلى الوراء قروناً وقروناً، وهذا طبيعي، فالأمة التي يقودها أناس غير فطنين، غير متعلمين، لا بد لها من أن تتراجع ولا تتقدّم.
إن أول ما يرد على هؤلاء شبهتهم أنّا لو أخذنا بها على إطلاقها لوجب حينئذ كما ذكرنا تخطئة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، لأن ما أثبته القرآن الحكيم وما أثبتته السنة الشريفة من مواقفهم وأعمالهم تصادم القول بحرمة النيل من رموز الآخرين مطلقاً، إذن لا بد لنا من أن نتخلّى عن هذا الإطلاق، فلا نقول بأنه يحرم النيل من رموز الآخرين مطلقاً، بل لا بد من التقييد، وهذه أول نقطة ترد على هؤلاء، فمشكلتنا معهم هي في إطلاقاتهم وتعميماتهم. لماذا يتحدثون بهذه اللغة الإطلاقية ويفسدون أفكار الناس؟
■ قيود تحريم السب لأنداد الله وأنداد أوليائه
لا يمكن لأحد أن يفتي بأنه يحرم مطلقاً النيل من رموز الآخرين، نعم له أن يفتي بالحرمة مع التقييد. أين نجد القيود؟ نجدها في نفس الآية الكريمة، وفي نفس الأحاديث الشريفة، ولكن وا أسفاه على من لا يتعلم!
ماذا تقول الآية؟ إنها تقول: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. هنا نجد أن حرمة السب أو النيل معلقة على إفضائها لارتداده على الله تعالى، فكأن الله تعالى يقول: يحرم عليكم أن تسبوا الأصنام ما دام ذلك يفضي إلى سب الله. فهذا قيد أول.
أما القيد الثاني فقوله تعالى: ﴿عَدْوًا﴾. العَدْوُ هنا بمعنى أن الكافر أو المخالف يعدو أي يتجاوز عن حالة سابقة هي سكوته عن الله وأوليائه، فيكون سبّ المؤمن لمن يعتقد به هذا الكافر أو المخالف موجباً لعدوه أي تجاوزه عن تلك الحالة السابقة إلى حالة جديدة أو طارئة يهتك بها حرمة الله وحرمة أوليائه. فهذا قيد ثان.
أما القيد الثالث فقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. أي أن هذا الكافر أو المخالف يكون جاهلاً ولذا يعدو أو يعتدي، والجاهل هنا ليس هو الجاحد أو المعاند، وإنما هو ذاك المخدوع، المستضعف، الذي تربّى على شيء يظنه حقاً وليس بحق. فهذا قيد ثالث.
إذاً، في الآية الكريمة نفسها نجد ثلاثة قيود لحرمة السب أو النيل من أنداد الله أو أعدائه على ما نزّلته الأحاديث الشريفة التفسيرية. وعليه يمكن لنا أن نُخرج فروضاً لا يحرم فيها السب أو النيل، فبأي وجه قيل بالإطلاق؟!
● الفرض الأول:
أن لا يكون النيل مفضياً لارتداده على الله تعالى أو أوليائه، فلو افترضنا أن امرئاً يقدح في الطاغية عمر بن الخطاب مثلاً، وهو عالمٌ بأن المخالف لن يردّ بالقدح في أمير المؤمنين (عليه السلام) لكونه معتقداً به كخليفة رابع، أو أنه لن يرد بالقدح في أحد من الأئمة (عليهم السلام) لكونه لا أقل يعتقد فيهم الجلالة، فلا حرمة للنيل في هذا الفرض.
● الفرض الثاني:
أن لا يكون النيل موجباً لتجاوز المخالف عن حالة سابقة، فلو افترضنا أن المخالف كان قد عدا أولاً، أي كانت حالته السابقة هي هتك حرمة الله وأوليائه، فالنيل هنا ممن يعتقد بهم المخالف لا يكون استفزازاً له لأن يعدو، لأنه يفعل ذلك سواء نلنا ممن يعتقد بهم أم لم نفعل، فنيلنا لا يجعله يبدأ بالنيل لأنه بادئ به أصلاً، فلا حرمة لنيلنا في هذا الفرض أيضاً.
● الفرض الثالث:
أن يكون النيل المرتد؛ من المخالف الجاحد المعاند، لا الجاهل، فمع علمه بحرمة الله تعالى وحرمة أوليائه عليهم السلام؛ إلا أنه ينال إذا نلنا. وبعبارة أخرى، إن نيلنا منه أوممن يعتقد به يجعله يعدو بعلم، لا بغير علم، فهذا امرئ غير قابل للهداية، جاحد معاند، عدو، فالنيل منه أو ممن يعتقد به لا يشكل حائلاً لهدايته وإن أدّى إلى أن يقابلنا النيل، لأنه عالم بالإثم الذي يفعله. فلا حرمة لنيلنا في هذا الفرض أيضاً، وعلى هذا شاهد من سيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فإنه هو الذي بدأ بلعن معاوية وأصحابه، فقابله هؤلاء باللعن، وتلك حقيقة لا يعرفها معظم الناس بل معظم الخطباء! فالخطباء على منابرهم يهاجمون معاوية وبني أمية لأنهم سنّوا للناس لعن أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، إلا أنهم لا يعلمون أن الذي دفع معاوية وبني أمية إلى ذلك هو أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه! فلولا أنه بدأ بلعنهم لما ردّوا عليه باللعن وطال ذلك ثمانين عاماً!
■ أمير المؤمنين عليه السلام هو من بدأ لعن الآخرين فردوا عليه بالمثل
روى الطبري وكذا البلاذري ضمن ما جرى بعد التحكيم: «وانصرف أهل الشام إلى معاوية فسلّموا عليه بالخلافة وبايعوه، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي بالخبر، فكان علي إذا صلّى الغداة قنت فقال: اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيب بن مسلمة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة. فبلغ ذلك معاوية، فكان يلعن عليا والأشتر وقيس بن سعد والحسن والحسين وابن عباس وعبد الله بن جعفر»!(تاريخ الطبري ج4 ص52 أنساب الأشراف للبلاذري ص351)
وروى نصر بن مزاحم: «كان علي بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب وفرغ من الصلاة وسلّم قال: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا موسى وحبيب بن مسلمة وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة. فبلغ ذلك معاوية فكان إذا صلى لعن عليا وحسنا وحسينا وابن عباس وقيس ابن سعد بن عبادة والأشتر»!(شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص260 عن وقعة صفين لنصر بن مزاحم)
وبطبيعة الحال انقسمت الأمة إلى قسمين يلعن كل واحد منهما رموز الآخر! فالشيعة من أهل الكوفة اقتدوا بإمامهم علي (عليه السلام) فكانوا يقنتون بلعن معاوية وأصحابه، والمخالفون من أهل الشام اقتدوا بإمامهم معاوية (لعنه الله) فكانوا يقنتون بلعن علي وأهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم!
يقول الشافعي في كتابه الأم: «إن عليا رضي الله عنه قنت في حرب يدعو على معاوية فأخذ أهل الكوفة عنه ذلك، وقنت معاوية بالشام يدعو على علي رضي الله عنه فأخذ أهل الشام عنه ذلك»!(الأم للشافعي ج7 ص140)
ويقول ابن حجر العسقلاني في كتابه الدراية: «أهل الكوفة إنما أخذوا القنوت عن علي، قنت يدعو على معاوية حين حاربه، وأهل الشام أخذوا القنوت عن معاوية، قنت يدعو على علي»!(الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر العسقلاني ج1 ص196)
■ هل يتجرأ الخطباء على لوم أمير المؤمنين عليه السلام؟
إذاً؛ إن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو السبب! لولا أنه بدأ بلعن معاوية وأصحابه لما ردّ عليه هؤلاء اللعن! ولما سنّوه في الأمة إلى أن طالت مدته ثمانين عاما! ولما انقسمت الأمة إلى قسمين يلعن كل منهما رموز الآخر مع ما ينشره هذا من أجواء الشحناء والبغضاء ومع ما يخلِّفه من أوغار في الصدور!
فهل يتجرأ أحد من هؤلاء الخطباء المساكين على تخطئة أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه كان البادئ باللعن؟! هل يجرؤون على توجيه النقد له قائلين: إنك يا أمير المؤمنين تناقض نفسك! أولست الذي نهيت حجر بن عدي وعمرو بن الحمق من لعن وشتم أهل الشام؟ أولست القائل لهما: «كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين تشتمون وتتبرأون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم وذكرتم حالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا؛ كان أصوب في القول وأبلغ في العذر. وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به؛ كان هذا أحبَّ إليَّ وخيراً لكم».(نهج السعادة للمحمودي ج2 ص104 عن نصر بن مزاحم. وشبهه في نهج البلاغة ج2 ص185 - ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين).
أنت يا أمير المؤمنين (صلوات الله عليك) تنهى هنا عن لعن وشتم أهل الشام، فكيف تنهى عن شيء أنت واقع فيه إذ تلعنهم في قنوت صلاتك وأنت تؤم الناس؟!
هكذا يمكن للجاهل أن يعترض على أمير المؤمنين عليه السلام، إلا أن العالم لا يعترض، لأنه عالم لا جاهل، ومشكلتنا هي أن كثيرين يصعدون المنابر اليوم ولم يتعلموا جيداً بعد، لذا تراهم يطلقون أقوالاً من قبيل حرمة النيل، ويستدلون بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: «كرهت لكم أن تكونوا سبابين»، ثم يشنعون على معاوية وأصحابه بأنهم سنوا اللعن والسب لأهل البيت عليهم السلام، ويقولون للناس: هذا هو الفرق بين منهج أهل البيت ومنهج بني أمية! منهج أهل البيت هو الموعظة الحسنة، أما منهج معاوية فهو اللعن والشتم! ثم تراهم يؤسسون على ذلك إدانة لمن هم مثلنا ممن ينتهجون منهج إظهار البراءة فيقولون: هؤلاء بعيدون عن أخلاق أهل البيت ومدرستهم!
واقعاً؛ كنت حين أحضر بعضاً من مجالس هؤلاء الخطباء - غفر الله لهم - وأسمع منطقهم هذا أحبس في نفسي ضحكة لا أريدها أن تظهر! ثم تنقلب هذه الضحكة إلى حسرة وألم على هذا الواقع، واقع التقصير في اكتساب العلوم والمعارف، واقع السذاجة وقلة الفطنة.
لست أدري لماذا لا يبذل هؤلاء جهدهم في اكتساب العلوم والمعارف ليعرفوا كيف يتحدثون وكيف يوجهون الأمة، ليعلموا مثلاً أن كلامهم هذا غير دقيق، بل غير صحيح، فإنه لا شك أن منهج أهل البيت (عليهم السلام) هو منهج الموعظة الحسنة، ولكن من الجهة الأخرى، منهج أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً هو منهج النيل من أعداء الله تعالى بما يجعلهم مطرودين عن دائرة الاعتبار في أعين الناس، وبما يجعل الناس تحترس من الاقتراب منهم ومن مناهجهم الوضعية المنحرفة. كما أن ذاك منهج أهل البيت، هذا أيضاً منهجهم.
■ لا تناقض في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام
لو تعلّم هؤلاء وتفقّهوا لعرفوا كيف يزيلون هذا الالتباس الذي قد يصيب أحدهم حين يتصوّر أن ههنا تناقضاً بين ما دعا إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين ما كان يفعله، ففي حين ينهى أصحابه عن اللعن والسب، هو بنفسه يلعن ويسب، حتى في الصلاة! ويقتدي به أصحابه أيضاً!
لا تناقض هنا، فكما بيّنا أولاً، إن النيل من أعداء الله تعالى حتى إذا كان يرتدّ على أولياء الله تعالى فلا حرمة فيه إذا كان مَن يُنال منه سيعدو بعلم، أي أنه عدو معاند أو رمز ضلالة عالم بالحق لكن يجحده.
معاوية وأصحابه كانوا من هذا الصنف، لذا فمع علم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن ابتداءه بلعنهم سيحملهم على تأسيس اللعن له ولأهل بيته وأصحابه وسيستمر ذلك ثمانين عاماً تقريباً؛ مع علمه بذلك أظهر لعنهم في قنوت صلاته، وفي خطبه، وفي مواقفه المختلفة، فلا يختلف اثنان على أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لعن معاوية وعمرو بن العاص وأضرابهما، ونال منهم أشد النيل. لماذا؟ لأن هؤلاء جاحدون، فلن يكون الكف عن لعنهم سبباً لهدايتهم، كما أن لعنهم لن يكون منفراً لهم عن الحق، لأنهم قد أبوه وتأصل ذلك في نفوسهم، فلا تُحتمل هدايتهم.
هؤلاء فليُلعنوا، وإن ردّوا اللعن إلى أولياء الله تعالى، لأنه لا يمكن تأسيس موقف شرعي واضح، يفيد الأمة بأن هؤلاء على كفر وضلالة، ويدفع الأمة إلى البراءة منهم، ويقيها الانخداع بمنهجهم؛ لا يمكن تحقيق كل هذا - على أتم وجه وأثبته - بغير إظهار اللعن لهم، فإن اللعن هو بمثابة إعلان رسمي من حجة الله وسفيره بطرد الملعون عن عالم الحق، فلا يغتر أحدٌ بأنه على حق، بل الجميع يحكم بأنه على باطل، لصدور اللعنة من الحجة المعصوم له. وهذا وإن ترتّب عليه أن يقوم هذا الملعون بالعدو مع العلم فيلعن أو يسب أولياء الله تعالى؛ إلا أنه مطلوب، لأن المصلحة المترتبة على تثبيت الموقف الشرعي الصريح من المعصوم تجاه الملعون، فيسلم دين الناس؛ أعظم وأولى من المفسدة المترتبة على قيام الملعون برد اللعن والسب.
■ سنة اللعن العلوية بقت بينما اندثرت سنة اللعن الأموية
وهذا الواقع الذي نعيشه اليوم دليل على صدق هذا، فإن معاوية وحزبه (لعنهم الله) رغم كل ما بذلوه لتشويه صورة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بحملهم الأمة على لعنه حتى شبّ على ذلك الصغير وهَرِمَ عليه الكبير؛ ها هو ذا علي (عليه السلام) لم يزدد إلا مجداً وتألّقاً وعظمة، حتى استقر إجلاله في قلوب الأمة، بينما هو هو ذا معاوية (لعنه الله) لم يزدد إلا خسة ودناءة، وشطر عظيم من هذه الأمة يلعنه مضياً على سنة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في لعنه، فالسنة العلوية بقت، والسنة الأموية اندثرت!
مع من تكون الموعظة الحسنة؟ تكون مع ذاك الذي نراه مخدوعاً، مضلّلاً، جاهلاً، نحتمل فيه أن يهتدي إلى الحق. هذا يخاطَب بأدب، ولا يُستفزُّ باللعن أو الشتم لنفسه، فإن هذا هو ما كرهه أمير المؤمنين صلوات الله عليه، هذا هو ما نهى عنه حجرَ بن عدي وعمرو بن الحمق رضوان الله عليهما، فإنهما كانا يلعنان ويسبان أهل الشام، أولئك الذين خدعهم معاوية. وهذا الأمر واضح من نفس النص الشريف، ولكن وا أسفاه على من لا يتأمل!
بماذا علّل أمير المؤمنين (عليه السلام) كراهيته للعن والسب؟ علّله بقوله: «حتى يعرف الحق منهم من جهله». فهل كان معاوية ممن جهل الحق أم كان ممن يعرف الحق لكنه يجحده؟ الجواب واضح، ومنه يتضح أن هؤلاء الذين كره أمير المؤمنين (عليه السلام) لعنهم وشتمهم كانوا جهلة، لا معاوية وأصحابه ممن ﴿جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾(النمل: 15) فلا ينبغي لعن الجهلة والمخدوعين، ولكن يوقفون على ضلالهم، ويُبصَّرون بذلك، دون استفزاز بلعنهم أو شتمهم، حتى لا يكون ذلك منفراً لهم عن قبول الحق. أما معاوية وأمثاله، فيُلعنون ويُشتمون، لأن ذلك لن ينفرهم عن الحق ولم يمنع تحقق هدايتهم، فهم من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.(البقرة: 7)
■ ثلاثة أمور إضافية في رد الشبهة
هذا الكلام كله كان في الفرض الثالث، الخارج من حرمة سب الذين يدعون من دون الله، أو الذين يوالون من دون أولياء الله، وبقي هنا أن نشير إلى أمور في رد الشبهة:
● الأمر الأول:
أنه حتى لو افترضنا أن النيل من أعداء الله سيكون مشتملاً في آثاره على القيود الثلاثة، من إفضائه إلى ارتداد السب، وكونه مخرجاً المخالف من حالة سابقة، وكون هذا المخالف جاهلاً.. فمع هذا يمكن أن لا يكون هذا النيل محرّماً إذا انطوت عليه مصلحة راجحة، إذ تسقط الحرمة ههنا سقوط الأحكام الأولية، وذلك كأن يتوقف على هذا النيل تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل، كما فعله إبراهيم (عليه السلام) حين كسر الأصنام وكما فعله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) حين نال من آلهة المشركين، مما فصّلناه في المحاضرات السابقة.
أو أن يتوقف على هذا النيل محاججة الخصم وإلزامه، فإنه ههنا لا يحرم النيل أيضاً كما تشهد به سيرة المتشرعة في الاحتجاجات، ودونك كتاب الاحتجاج للطبرسي مثالاً، ثم سائر كتب علمائنا الأقدمين ومصنفاتهم الكلامية.
أو أن يتوقف على هذا النيل تحصين المجتمع الإسلامي من الاغترار بالشخصيات المنحرفة، وهذا مقتضى الحديث الشريف الذي أشرنا إليه سابقاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه قوله: «أكثروا من سبهم.. كي يحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم».(الكافي الشريف للكليني ج2 ص375 بسند صحيح)
أو أن يتوقف على هذا النيل حفظ التراث الإسلامي بما فيه من أحاديث شريفة وأخبار واحتجاجات وأشعار وما إلى ذلك، مما يشكل رافداً أساسياً لحفظ الحق وفرزه عن الباطل، وهذا ما يفسّر إصرار علمائنا الأقدمين على تدوين ونشر أحاديث المثالب وروايات المطاعن وأشعار الهجاء وكل ما يتصل بذلك في جوامعهم الحديثية ومصنفاتهم رغم ما كانوا يعيشونه آنذاك من ظروف جائرة عرّضت بعضهم لأن يُسفك دمه ويُقتل لأجل ذلك. ولعلنا نفصّل في هذا ونعرض نماذج منه في محاضرات لاحقة من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.
فالحاصل؛ أن حرمة السب أو النيل المأخوذة من هذه الآية الشريفة تجري مجرى الأحكام الأولية التي قد يطرأ على موضوعها عنوان ثانوي يرفع عنها الحرمة ويؤول الأمر حينئذ إلى الإباحة أو الاستحباب أو حتى الوجوب، وذلك كحرمة الغيبة، فرغم أنها أيضاً مأخوذة من الكتاب العزيز كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾(الحجرات: 13) ورغم كونها من الكبائر المؤكدة، إلا أنها بالنتيجة حكم أولي، قد يطرأ على موضوعه عنوان ثانوي آخر فتصير الغيبة واجبة! كما ذكره بعض الفقهاء من أنه إذا توقف على الغيبة إبطال المقالات الباطلة الصادرة من قائل مؤمن فإنها تجوز بل تجب وإن أدّى ذلك إلى تنقيص القائل والقدح فيه بقلة التدبر وضعف الفهم ونحو ذلك.
● الأمر الثاني:
إنه لا يبعد أن تكون الآية الكريمة التي تمنع من سب الذين يدعون من دون الله، وكذا الروايات الشريفة التي تمنع من سب أعداء الله حيث يسمع المخالف؛ كلها صادرة بلحاظ القضية الخارجية لا الحقيقية، أي أن الحرمة كانت حرمة ظرفية لتجنب مفسدة يمكن أن تقع في تلك الأزمنة حيث الغلبة للمشركين كما في وقت نزول الآية، والغلبة للمخالفين كما في وقت صدور الروايات. وعليه فمع تبدّد تلك الغلبة في الواقع الخارجي فلا حرمة، ولذا نال المسلمون من آلهة المشركين دون نكير عليهم من النبي (صلى الله عليه وآله) بعدما هاجر المسلمون من مكة ولم تعد للمشركين عليهم غلبة وإن بقيت دولتهم في مكة وما جاورها.
● الأمر الثالث:
أنه على التخلي عن القول بالقيود، والقول بالحكم الأولي، والقول بالقضية الخارجية؛ فإنه يمكن أن يُقال أن مطلق اللعن والثلب والنيل ليس سباً بالخصوص حتى يدخل في منطوق تحريم الآية، إذ يمكن أن يُسار بالنحو الذي سار فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النكير على آلهة المشركين وعبادتها رغم نزول الآية، فإنه لم يسب، ولكنه سار في إبطالها بضرب من التوهين لا أقل من بيان أن هذه الأصنام من المنكر والباطل.
فليكن عمل العاملين من المؤمنين اليوم على هذا النحو مثلاً في التصدي للدعوة والتبليغ، كأن يكثفوا جهودهم في بيان أن موالاة أبي بكر وعمر عائشة هو من المنكر والباطل، فهذا ليس من السب والشتم في شيء."
وأما بالنسبة للإشكال الثاني فيمكنكم مراجعة جواب سماحته في المحاضرة التالية:
العنوان : إبطال أوهام القاصرين في حرمة ثلب الظالمين (هنا الرابط)
وأما بالنسبة للإشكال الثالث فيمكنكم مراجعة جواب سماحته في المحاضرة التالية:
الليالي الحسينية -7 لسنة 1432 (هنا الرابط)
وهناك العديد من الإجابات على الإشكالات تجدونها متفرقة في محاضرات سماحته وعلى الأخص سلسلة محاضرات تحرير الإنسان الشيعي التي تحولت فيما بعد إلى كتاب، ويمكنكم متابعتها هنا:
تحرير الإنسان الشيعي - رؤى في استجماع القوة لاستعادة السيادة الحضارية الشيعية (هنا الرابط)
كما نلفت نظركم الكريم إلى أن الشخص المذكور من الواضح أنه يتكلم عن جهل بالشيخ ومنهجه، فهو يعرض به بالقول "لا يعرف تاريخهم العلمي ولم يحصلوا على إجازات من أحد" وكلامه بهذا المضمون، بينما الشيخ مجاز من أكابر العلماء (وهنا) تجدون صور إجازاتهم له.
وقول الشخص المذكور بأن هناك حرمة مطلقة للسب مردود عليه من قبل أستاذ الفقهاء والمجتهدين السيد المرجع الشيرازي (دام ظله الشريف) هنا:
وهذا نص كلام سماحته (دام ظله) بهذا الخصوص:
"بعض يستشكل ويقول: لا تسبّوا من انحرف عن أهل البيت صلوات الله عليهم, لأن القرآن الكريم يقول: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولأن أهل البيت صلوات الله عليهم لم يصدرهم منهم مثل ذلك.
أقول: إن المقصود من الآية الكريمة الآنفة الذكر هو: عدم سبّ الأصنام وليس عدم سبّ المنحرفين والكافرين. ففي أي مكان نهى القرآن عن السبّ بنحو مطلق؟ فهذا التشكيك هو تبليس إبليس.
وأضاف سماحته: ألم يقول القرآن الكريم: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)؟
أليس هذا سبّ؟ فراجعوا التفاسير لتعرفوا معنى العتل والزنيم.
ثم إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً, ولكن هناك من يعمل ببعض القرآن ويتركه بعضه, أي يؤمنون ببعض القرآن ويكفرون ببعضه. فالقرآن الكريم أمرنا أن لا نسبّ الأصنام ولم يأمرنا بعدم سبّ الكافرين والمنحرفين.
أو يقولون: إن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين.
أقول: ألم يستعمل الإمام صلوات الله عليه, السبّ, كما هو مذكور في كلامه صلوات الله عليه في نهج البلاغة؟
ألم يقل الإمام الحسين صلوات الله عليه في عاشوراء: فإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؟ والدّعي يعني من لا أب له.
أسأل: أليس هذا سبّ؟
وشدّد سماحته مخاطباً المؤمنين جميعاً, بالخصوص الشباب, وقال: اعرفوا أمثال هذا الأمور وهذه القضايا من العلماء الصالحين فقط, وخذوها من عندهم, لا من غيرهم.
إنّ الله تبارك وتعالى سبّ ولعن أعداء أهل البيت صلوات الله عليهم, فواجب علينا أن نمتثل للقرآن الكريم ولروايات المعصومين صلوات الله عليهم, بالتبرّي من أعداء أهل البيت صلوات الله عليهم. "
وبهذا البيان من السيد المرجع (دام ظله الشريف) تعلمون أن الشيخ الحبيب هو على خط المرجعية الرشيدة، فدعوى الشخص المذكور أن لا أحد من المراجع يجيز هذا المنهج هي دعوى جهل من جاهل.
شكرا لتواصلكم ونسألكم الدعاء.
مكتب الشيخ الحبيب في لندن
1 جمادى الأولى 1434