السلام عليكم ذكر لي البعض إن معركتي اليرموك والقادسية لم تكن بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وانما كانت بقيادة الصحابي الجليل مالك الأشتر أرجو بيان ذلك مع التقدير
جعفر الجراح
باسمه جل ثناؤه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لم يذكر المؤرخون أنهما كانتا بقيادته إسميا (رضوان الله تعالى عليه) إلا أنهم ذكروا أدواره البطولية فيهما بحيث يمكن أن يُقال أنه لولاه ولولا عشيرته التي كان يقودها في تينك المعركتين لما تحقق فيهما نصر، وأن الفضل يعود إليه في المقام الأول.
لقد كانت عشيرة النخع في معركة القادسية نحو ربع الجيش الإسلامي، فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش: ”وكانت النخع ألفين وثلاثمئة.. وكانوا كلهم عشرة آلاف“. (مصنف ابن أبي شيبة ج8 ص15).
وكانت هذه العشيرة أكثر فئات الجيش بلاءً، فقد قاتلت قتالا بطوليا كان هو السبب في حسم المعركة، ولذا تعرّض أبناؤها لأكثر القتل والإصابات، الأمر الذي دفع عمر بن الخطاب (لعنه الله) يتعجّب من ذلك ويتساءَل عن سببه ظانا أن الفئات الأخرى من المسلمين قد تخلّت عنهم وجعلتهم وحدهم يواجهون الفرس، إلا أن الناس بيّنوا له أن السبب لم يكن هذا، بل كان قيام أبناء هذه العشيرة بتولي أعظم أمور ومخاطر الحرب وحدهم بقوة وبسالة.
روى ابن أبي شيبة أن عمر قال: ”ما شأن النخع أصيبوا من بين سائر الناس؟ أفرّ الناس عنهم؟ قالوا: لا، بل ولوا أعظم الأمر وحدهم“. (المصدر نفسه).
وقد كان مالك الأشتر النخعي (رضوان الله تعالى عليه) قائد هذه العشيرة، ولمع نجمه في القتال حتى روى ابن أبي شيبة: ”عن الأعمش عن مالك بن الحارث أو غيره قال: كنت لاتشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي إلا سمعته“. (مصنف ابن أبي شيبة ج7 ص718).
وقد كان عبور نهر القادسية والنصر الحاسم على يديه هو وقيس بن مكشوح المرادي وعمرو بن معد الزبيدي. (معاهد التنصيص للعباسي ص429 والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ج15 ص208).
فهذا في القادسية، وأما في اليرموك فمواقفه البطولية تألّقت تألقا عظيما حين أقدم على مبارزة فارس الروم (ماهان) في المعركة ليوقع المرارة في نفوس الجيش المعادي ويكسر عزائم أفراده، هذا مع أن (ماهان) كان قد قتل قبله كثيرا من المسلمين لم يقدروا على مواجهته! إلا أن مالكا (رضوان الله تعالى عليه) قد هزمه ويومئذ سُمِّيَ بالأشتر لشتر عينيه.
روى الواقدي: ”وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر رضي الله عنه، وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهانَ بالكلام وقال له: أيها العلج الأغلف لا تغتر بمن قتلته! وإنما اشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه وما منا إلا من هو مشتاق إلى الجنة، فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فأنت هالك لا محالة. فقال له ماهان: أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال: لا! أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال ماهان: لا بد لي من الحرب، ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة، فاجتهدا في القتال فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكا على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر. قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ثم فكر فيما عزم عليه فدبّر نفسه، وعلم أن الله ناصره، قال: والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكا وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين: يا مالك استعن بالله يعينك على قرينك! قال مالك: فاستعنت بالله عليه وصلّيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعا غير موهن فعلمت أن الأجل حصين فلما أحسّ ماهان بالضربة ولّى ودخل في عسكره. قال الواقدي: ولما ولّى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزما صاح خالد بالمسلمين: يا أهل النصر والبأس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم! ثم حمل خالد ومن معه من جيشه وحمل كل الأمراء بمن معهم وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر، حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا فقتلوا منهم زهاء من مئة ألف وأسروا مثلها وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى وتفرق منهم في الجبال والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون ويأتون من الجبال بالأسارى ولم يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق الليل“. (فتوح الشام للواقدي ج1 ص175).
وهكذا ترى كيف أن هزيمة ماهان على يدي مالك الأشتر غيّرت مسار المعركة تماما، فحينئذ صاح خالد بن الوليد لعنه الله: ” يا أهل النصر والبأس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم“! أي دهشتهم من هزيمة بطل أبطالهم على يد مالك الأشتر!
وقبل ذلك كان له موقف بطولي آخر مع (جرجيس) الذي كان بطلا من البطارقة، فبعدما قام هذا العلج بطلب المبارزة خرج له الأشتر فقال له: ”تقدم يا عدو الله يا عابد الصليب إلى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب! فلم يجبه العلج لما داخله من الخوف منه“. (المصدر نفسه ج1 ص174). ومنه تعرف مدى الرعب الذي كان يشعر به أفراد جيش الكفر تجاه مالك رضوان الله تعالى عليه.
وعلى هذا فلا ينتابنا شك في أن هذا البطل كان صاحب الفضل الأعظم في تحقيق هذه الانتصارات في المعركتين العظيمتيْن، إلا أن من المهازل أن يُنسب النصر فيهما إلى مثل خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص! أما الأول فانتظر أن يهزم الأشتر بطل الروم ليصرخ بالمسلمين ليتقدّموا! وأما الثاني فانتظر أن يقوم الأشتر مع عشيرته باقتحام جيش الفرس ليعبروا النهر! فأين بطولتهما في هذين الموقفين؟! لا ندري!
ومن اللافت أن الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) حين حاورَ ماهان لم يرضَ أن يُقال عنه أنه صاحب خالد بن الوليد! فقال: ”لا! أنا مالك النخعي صاحب رسول الله“! وكفى بهذا دلالة على أنه لم يشارك في هذه المعركة إلا وهو يعتبر نفسه يؤدي واجبا شرعيا تجاه الله ورسوله، لا تجاه أمثال خالد بن الوليد وإن كان إسمياً هو قائد الجيش بتعيين من عمر بن الخطاب!
ولو أن في عصرنا مثل مالك الأشتر (قدس الله نفسه) لعلمتَ أين يصل التشيّع في الأرض!
وفقنا الله وإياكم للمضي قدما في نصرة الإسلام. والسلام.
ليلة الرابع من ذي الحجة لسنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة.