كورونا بين الخباثة والسذاجة! -الجزء الأول-

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp
كورونا بين الخباثة والسذاجة! -الجزء الأول-

15 رجب الأصب 1441

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم.

● إشارةٌ تقديميّة:
يدور على الساحة اليوم جدل واسع حول وباء كورونا نسأل الله لنا وللمؤمنين العافية منه ومن كل بلاء بشفاعة نبينا المصطفى وآله الطاهرين عليهم السلام. ومن خلال ملاحظتنا للمشهد الاجتماعي فإنّا قد وجدنا خلطا ولغطا في عدد من المفاهيم من الناحية الشرعية والمنطقية ممّا قد يُسبِّب إرباكا في صفوف المؤمنين وزلزلة في نفوس بعضهم ووهناً أمام جبهات الضلال في بعضهم الآخر. وذلك في جملةٍ موجزة مردُّهُ لإرجافات الناصبة ومغالطاتهم الخبيثة من جهة، وسذاجة الفهم الديني لدى طائفة من الشيعة من الجهة الأُخرى. ومن هُنا رأينا إزاحة اللبس عن عدد من القضايا المُتداولة على الساحة اليوم تحت عناوين ومفاهيم مغلوطة ومشوّشة من خلال صياغتها في حوار قصَصيٍّ يُسهِّلُ على المتلقي استيعاب محاور النقاش وترسيخها في ذهنه بما يكون له بالغ الفائدة والأثر إن شاء الله تعالى. فعلى بركة الله تعالى هلمُّوا لقراءة هذا الحوار الذي دار بين محمد ووالده..

● تقول قِصَّتنا أنّه بعد قيلولة الظهيرة أقبل أبو محمد يتفقّد ابنه محمّدا كما هي عادته.
طرق الباب مُستأذنا فأتاهُ الإذن. لبثَ هُنيّةً ثم دخل الحُجرة مُسلِّما. وعقِب تبادل التحية والسلام ربتَ الوالد على كتف ابنه قائلا:
عزيزي محمد ماذا هناك؟ ما هذه الأنفاس المتصاعدة وهذا الوجوم على محيّاك يا بُنيّ. هل من خطب؟

محمد:
• وهل من خطبٍ يا أبتاه في هذه الأيام أشغل الناس سوى ما يمرُّ به العالم عموما والشيعة خصوصا من مواجهةٍ لوباء كورونا؟
• إنّ ما ضاعف حزني هو أنّي أجدُني يا أبتي عاجزا في ظلِّ هذه الأزمة عن تقديم إجابات شافية ومُقنعة من الناحية الدينية حول عدد من القضايا والموضوعات التي أُثيرت في هذه الفترة وأشعر بالضيق من مقالات المخالفين على الأخص.

الوالد:
• لا بأس يا بنيّ.. تعزّ بعزاء الله تعالى.
يقول عزّ ذِكرُه: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"

• الطائفة البكرية المُشركة باتِّباعها هواها مُتَّخِذةً المنافقين أولياء من دون سادة المؤمنين وتحرِيفها الدين قد أساءت لمن هو أعظم وأجلُّ وأقدس ومَن لا يُعدَل به أحد وهو الله تعالى فنسبتْ له الأجزاء والأبعاض فجسّمتْهُ، وجعلت معه شُركاء قُدماء كالقرآن، وجوّزت عليه الظُّلم فسبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا. فما تكون إساءتهم في حقنا بعد هذا يا بُني؟

• والآن أخبرني يا بُنيّ ما الذي يجول في خاطرك؟ لعلي أتمكنُ من التفريج عنك بعونه تعالى والإجابة عن التساؤولات التي تُؤرِّقُك.

محمد:
• الحمد لله تعالى على أعظم النِّعم ولاية أمير المؤمنين وآله الطاهرين عليهم السلام وأسأله تعالى أن يعيننا على ما نلقاه من أذى أعدائه لعنهم الله في أوليائه عليهم سلام الله..
بلى يا أبتاه أنا بحاجة ماسة لبسط الحديث معك في عدد من المحاور والاستفادة ممّا أنعم به الله تعالى عليك من فضل حُججه عليهم السلام.
• في البدايةِ أخبرني يا أبَه بماذا يُفسِّر الدينُ انتشار الأوبئة وفتكها بالبشر؟

الوالد:
• أسأل الله تعالى يا بُنيّ أن يُوفقنا للقول السديد والفعل الرشيد.
إعلم يا بُنيّ أنّا في التفسير الديني نجدُ أنّ الأوبئة ليست ترجع للأسباب الطبيعية وحدها وإنما هنالك عوامل تابعة لأداء البشر وسلوكهم في هذه الحياة..

• في ثواب الأعمال: عن أبان الأحمر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خمس إذا أدركتموها فتعوّذوا بالله عز وجلّ منهن - وشاهِدُنا في قوله عليه السلام- "لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يُعلِنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضَوا"

• عن الإمام الرضا (عليه السلام): كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون.

• وعن الإمام الصادق (عليه السلام): من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال.

• فإذا تأمّلنا في الحديث الأول الذي رواه لنا مولانا أبو جعفر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله نجد أنّ ظهور الفاحشة وانتشارها وبلوغها حدّ الإعلان والشياع هو سبب في تسلُّط الأوبئة والأمراض والبلايا على بني البشر.
• الفاحشة في اللغة هي تجاوز الحد في كل شئ ويشمل ذلك العقيدة والأحكام والآداب والمعاملات.
• في بلد كالصين ليس تفشِّي الفواحش الأخلاقية المختلفة بخافٍ، وأما الكفر والإلحاد المستشري في تلك البلاد فأوضح من أن يُشار إليه. وإعراضهم عن الله تعالى وتشريعه جعلهم يُعرضون عن قوانينه التي تُنظِّم حياتهم بجميع مفاصلها وشؤونها.

• على سبيل المثال؛ من بين الأمور التي (يُظَنُّ) أنها سبب في تفشي كورونا هو وجود سوق لسلخ عدة أنواع من الحيوانات البرية منها الثعابين والخفافيش وغيرها ممّا تستبشع النفس الإنسانية السويّة مجرد النظر إليه؛ فما بالك باتِّخاذه غِذاء؟!
• كيف لهذا الشعب الكبير أن يعتبر نفسه نشازا في هذا العالم فيرعوي عن مثل ذلك السلوك الغذائي الهمجي الوحشي وهو يرى أنّ أقواما من أمّة كبيرة تتسمّى بالإسلام ليست أمثال تلك الأطعمة بمحرّمة في شِرعة بعض مذاهبها؟! فالطائفة البكرية هم أهلُ صينِ شرقِنا الأوسط، إذ تجدهم يبيحون كل كائنات البحر وأقذر كائنات البر كالضباع والجرابيع والضب وما أشبه من كائنات أكلُها مُحرّم عند شيعة أهل البيت الذين أخذوا القوانين المُنظِّمة لمأكلهم ومشربهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام فأحلُّوا لهم الطيبات وحرّموا عليهم الخبائث.
• ولذا فإنّ أعظم الفواحش وأظهرها على مرِّ العصور هو دين السقيفة الذي لا زال الظلمة من أتباعه ورموزه إلى اليوم يرتكبون في حق المسلمين والبشرية جمعاء الجريمة العُظمى المتمثلة في محاربتهم لآل محمد عليهم السلام وشيعتهم حتى تمكّنوا من إقصاء أهل البيت النبوي الأطهار عن غالبية المسلمين وعن البشرية كافة وقطعوا الطريق أمام الناس عن ذلك القُدس.

• لقد أفحش المخالفون في غيهم وبغيهم فتصدّروا المشهد في الشارع الإسلامي بأن كاثَرُوا أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بعدّتهم وعديدهم وملكوا الأمصار فخالت الأُمم أنّ هذا الغثاء هو الذي يمثِّل الإسلام، فضاعت الهوية الحقيقية للإسلام الحق حضارةً وقيمةً وتأثيرا وجوهرا واستقطابا.

• كانت الشعوب ستجد فسحة وفرصة للتأمل والمقارنة الصحيحة القويمة التي تأخذ بيدها نحو الهداية للحق والاستقامة لو كفّ هؤلاء الأدعياء عن تبريز أنفسهم ومحاربة شيعة آل محمد عليهم السلام ونشرِ الأكاذيب والأباطيل عنهم وتهييج الأنظمة والشعوب ضدهم والتأليب عليهم وعدم إتاحة أي مجال لهم لالتقاط أنفاسهم بإشغالهم وجعلهم على طول الخط في دوامة من المشاكل والمطاحنات والهموم الداخلية والخارجية بما أفضى إلى تراجعٍ في الالتزام بالقيم والقوانين الدينية الرافضيّة حتى لدى ((بعض المحسوبين على الشيعة)) مع شديد الأسف.

محمد:
• لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
علاوة على ما فصّلتموه يا أبتي فممّا يُذيب المهجة أنّ مخالفينا يروجون لكونِ الوباء قد وصل إلى مناطق الشيعة كإيران والعراق كعلامةٍ على سخط الله تعالى عليهم وبطلان دينهم قائلينَ لو كان من تسمونهم منحرفين كالشيوعيين والبكريين هم سبب هذا الوباء لمَا وصل الوباء بلدات الشيعة.
• فماذا يا أبتي لو افترضنا أنّ بعض المؤمنين الأبرياء الذين لم يُقصِّروا في دفع المنكرات قد عمّهم البلاء؟!

الوالد:
• هذه مغالطة منطقيّة يرفضها حتى من لا يعترف بالأديان كلها. والناصبة يعلمون جيدا أنها مجرد مغالطة حتى من الناحية الدينية كما سُنبيِّن لاحقا. ولكنهم كعادتهم لا يكفُّون عن الخبث الناصبي الشيطاني بتقليبِ وتحريف حتى أكثر القضايا وضوحا.
وفي كلامي التالي سوف أبيِّنُ لكَ مغالطتهم الخبيثة تلك من الجهة المنطقية المجرّدة، ومن الجهة الدينية القويمة.

• أمّا منطقيا؛ فمن ذا يقول أنّ الضحيّة البرئ يُذمُّ ويُعاب عليه بشأن ما تعرّض له من مصائب طالتهُ من قِبل الطرف المعتدي أو المتسبِّب؟
مثلا؛ في الحروب يكون أحد الأطراف هو الباغي والمعتدي فيروح عدد من الضحايا والأبرياء.
وفي بعض الأحيان هذا الذي تسبّب في قتل الأبرياء لا يُصاب بسوء في هذه الحرب، وفي أحيان أخرى تطاله ويلاتُها فيهلَك، ولكنه يبقى في جميع الأحوال مذموما ملوما عند العقلاء. أمّا أولئك الأبرياء فهُم ضحايا يتم التعاطف معهم وصبُّ جام الغضب على المعتدي ويكون مصابهُم إيجابيا من جهةِ توعيةِ وتنبيه المجتمعات إلى خطر وشرور ذلك المعتدي ودَفْعِهِم لمزيد من التكاتف واستجماع القوى لردع جبهته والتصدي له.

• نضرب مثالا آخر لمزيد من الإيضاح.
ذلك الثري الجشع الذي يستأثر بماله إذا ما أتى شامتاً بالفقراء قائلا لهم: الله أفقركم لسخطه عليكم.
فهل يقبل أصحاب الوجدان السّوي
بهذا المنطق السفيه منه؟!

• المرض والوباء هما أيضا من ذلك القبيل فتلك مصائب وبلايا قد تشمل المؤمنين ولكنّ ذلك لا ينفي أنّ سببها هم العصاة.
فالمؤمن تُمحّص ذنوبه ويرفع الله له الدرجات ويجزل له المثوبة ومن جهة أُخرى يتعاطف أصحاب الضمائر المُوفّقون للهداية مع ما تعرّض له ضحايا ذلك الوباء من مؤمنين وغيرهم فيبحثون عن الأسباب المادية والمعنوية فيصِلون إلى أنّ سببها ما فعله العصاة من خرق لقوانين الله تعالى في السلوك أو العقيدة أو المعاملات والآداب فجرُّوا البلاء حتى على الأبرياء من المؤمنين كما هي عادتهم وسيرتهم في جميع الكوارث والبلايا التي تسبّبوا بها عبر العصور.

• إنّ المعنى الذي نتحدث عنه بشأن المؤمنين مروي عن الإمام المعصوم عليه السلام.
• في عيون أخبار الرضا (عليه السلام): عن أحمد بن الحسن الحسيني، عن أبي محمد العسكري، عن آبائه عليهم السلام قال: قيل للصادق عليه السلام: أخبِرنا عن الطاعون، فقال: ((عذاب الله لقوم)) ، ((ورحمة لآخرين))، قالوا: وكيف تكون الرحمة عذابا؟ قال: أما تعرفون أنّ نيران جهنم عذاب على الكفار، وخزنة جهنم معهم فيها فهي رحمة عليهم؟

• دعوات الراوندي، سُئل زين العابدين عليه السلام عن الطاعون: " أَنَبْرأُ ممن يلحقُه فإنّه مُعذّب؟ فقال عليه السلام: إنْ كان عاصيا فابْرأ منه، طُعِنَ أو لم يطعن - أي أصابه الطاعون أو لم يُصِبه- ، وإن كان لله عز وجل مطيعا فإنّ الطاعون مما تمحّص به ذنوبه، إن الله عز وجل ((عذّب به قوما))، ((ويرحم به آخرين))، واسعةٌ قدرته لما يشاء، أما ترون أنّه جعل الشمس ضياء لعباده و منضجا لثمارهم ومبلغا لأقواتهم؟ وقد يُعذّب بها قوما يبتليهم بحرِّها يوم القيامة بذنوبهم وفي الدنيا بسوء أعمالهم؟"

• وهنا لديّ تنويه: يُلحظ في هذه الرواية الشريفة أنّ الإمام يحدثنا عن معصية تستوجب البراءة أي هي في أُسِّ العقيدة، وإنّ المعصية التي يستحق مرتكبها البراءة منه بحسب مضامين الروايات الشريفة هي الإعراض عن تولي من نصبهم الله تعالى حُججا وموالاة أعدائهم.

• إنّ الناصبة على كل حال لم يصنعوا من خلال هذا المنطق السقيم الخبيث شيئا سوى أنهم أعادوا إنتاج منطق أسلافهم من الكفار والمنافقين لعنهم الله.
• وبهذا الصدد ننقُل أولا ما ورد عن مصادر شيعة أهل البيت عليهم السلام ثمّ نُعرِّجُ على ما جاء عند الطائفة البكرية.

• في تفسير علي بن إبراهيم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: "وقال موسى لقومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين وقالوا على الله توكّلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين" فإنّ قوم موسى استعبدهم آل فرعون وقالوا: لو كان لهؤلاء على الله كرامة كما يقولون ما سلّطنا عليهم، فقال موسى لقومه: " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين " إلى قوله: " من القوم الكافرين "

- أمّا ما ورد في مصادر المخالفين:
• جاء في تفسير الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل إبراهيم خليله والذين معه: يا ربَّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا بك فجحدوا وحدانيتك، وعبدوا غيرك، بأن تُسلطهم علينا، فيروا أنهم على حقّ، وأنّا على باطل، فتجعلنا بذلك فتنة لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذِكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) قال: يقول: لا تظهرهم علينا فَيَفْتَتِنُوا بذلك. يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقًّ هم عليه.

•جاء في تفسير ابن كثير:
وقوله : ( وإن تصبهم حسنة ) أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ( يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . ( يقولوا هذه من عندك ) أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه ) [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف [ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ] ) الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ; ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتِّباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال السدي : ( وإن تصبهم حسنة ) قال : والحسنة الخصب ، تنتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : ( هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) والسيئة : الجدب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : ( هذه من عندك ) يقولون : بتركنا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : ( قل كل من عند الله ) فقوله ( قل كل من عند الله ) أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( قل كل من عند الله ) أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ).

• فالحاصل أنّا نحن أيضا نقول للناصبة كما قال ربُّ العزة تعالى
"فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا"؟!
هؤلاء الناصبة خبثاء لا يفقهون ما يقولون ولا ما يُقال لهم فكلامهم لا يستقيم مع المنطق البشري المجرّد ولا المنطق الديني القويم.
فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم ولو شاء لفعل. فإنّ بليتهم في دينهم وعقولهم أعظم من ألف كورونا.

محمد:
"ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين"
الآن يا أبَه بدأتُ أتنفس الصُّعداء شيئا ما فالحمد لله تعالى وأوليائه عليهم السلام.
• خلصتُ هاهُنا إلى كون البلاءات التي تكون نتيجتها نقص الأنفُس كالمرض والوباء ونحوه إذا أصابت المؤمن بسبب فواحش وجرائم العصاة يكون المؤمنون حينئذ ضحايا وأبرياء يجزيهم الله بحطِّ ذنوبهم ورفع درجاتهم فهُم لم يعملوا بعمل العصاة وأنكروه بأيديهم وألسنتهم وقلوبهم قدر استطاعتهم.
• وأمّا العاصي إن افترضنا أنّ البلاء لم يشمله فالله تعالى أمهله ليكون عقابه مضاعفا في الآخرة وفي أحيان أُخرى يعجل له العذاب في الدنيا مع ما هو مُدّخر له في الأُخرى. وإجمالا تعجيل أو تأخير العقاب يكون بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية. وقد قرّبتم لذلك منطقيّا بمثال الثري الجشع المُستأثر إذ يتسبب في إفقار غيره وتجويعهم، فهم هنا الضحايا عند العقلاء عموما، ودينيا هُم الأبرياء الذين يكافيهم الله ويعوضهم في الآخرة إن كانوا مؤمنين. وأمّا ذلك الجشع فقد يُعجّل له العقاب بسلبِ ماله وإفقاره في الدنيا، وقد يؤجِّل الله عقابه للآخرة وفي الحالتين يبقى هو المجرم والمتسبِّب في إفقار الآخرين بجشعه.

•ولكن لديّ تساؤل هنا؛ وهو ماذا لو كان من يُحسَبُ على الشيعة صاحب نزعةٍ انحرافيّة عن منهج الدين الحق؟ حينها كيف يكون هو شريك الناصبة فيما يقع من بلايا وأوبئة؟

الوالد: زادكم الله يا بُنيّ طمأنينة وعلماً وفهما.
• كما أسلفنا فإنّ إرجافات الناصبة ومساعيهم الحثيثة في محاربة دين آل محمد عليهم السلام وشيعتهم
أحدثت تخلخلات حتى في أوساط الشيعة ونتج عن ذلك تراجع في الالتزام بالقيم والقوانين الدينية الرافضيّة حتى لدى ((بعض المحسوبين على الشيعة)) والأدهى أنّ ذلك وقع من (بعضهم) باسمِ عناوين دينية تمّ استعمالها تحت مفاهيم مغلوطة ومن ذلك (التقية)، فإنّ للتقية الشرعية أحكاما وشرائط وموضوعات وتفاصيل لا يجب إغفالها وإلا تحوّلت التقية إلى بليّة.
وهكذا في جميع القضايا الدينية إذ لا بدّ من العمل بها ضمن ضوابطها الشرعية بلا إفراط أو تفريط.

• عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((إنّ للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له))، وتفسير ما يُتّقى مِثل أن يكون قوم سوءٍ ظاهرٌ حُكمهُم، وفِعلهُم على غير حُكم الحق وفِعلِه، فكلُّ شئ يعمل المؤمن بينهم مكان التقية ((ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين)) فإنه جائز.

• إنّ أبرز مؤلّفٍ طرح تفصيلات مُوسّعة وبالغة الدقّة حول موضوع التقية وضوابطها في عصرنا هو كتابُ(حَلِّ الإشكال) للشيح ياسر بن يحيى الحبيب. فيمكنك يا بنيّ الرجوع إليه لمزيد من التفصيل في المسألة.

• وعليهِ أقول: أليسَت أعظم فاحشة وأشنع مُنكر ولايةُ أعداء آل محمد عليهم السلام؟
• في تفسير العياشي: بإسناده عن عطاء الهمداني، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: [إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى] ، قال: (العدل) شهادة أن لا إله إلا الله، و(الإحسان) ولاية أمير المؤمنين، [وينهى عن الفحشاء والمنكر]، (الفحشاء) الأول، و(المنكر) الثاني، و(البغي) الثالث.

• قال العلامة المجلسي رحمه الله في بيانٍ له: أقول قد مرّت ((الأخبار)) بأنّ المراد بالصلاة أمير المؤمنين عليه السلام والفحشاء والمنكر أبو بكر وعمر.
ورد ذلك في (بحار الأنوار - ج ٧٩ - الصفحة: ١٩٩)

• فلماذا وجدنا فئة واسعة من الشيعة وعلى رأسهم - شخصيّات مُبرّزة يعتبرها بعض العامة خاصّتهم وقدوتهم- قد تصدّت لمحاربة فئة أُخرى من الشيعة لأنها قامت بواجبها ودورها وهو النهي العلني عن فاحشةِ ولاية أعداء آل محمد عليهم السلام، وإظهار البراءة من أهل المنكر المؤسِّسين لظلم آل محمد عليهم السلام؟!
ألم تُمعن تلك الشخصيات حينها في إظهار المبالغة في الحرص على تحصين رموز السقيفة من الثّلب والإهانة حتى بلغ الأمر بكبرائهم حدّ الإفتاء بتحريم التعرض بالثلب والسب لرموز أهل السُّنة على حد تعبيرهم؟

• ألم تُبالغ شريحة من عوام الشيعة في اتِّباعِ أولئك والمنافحة عن مقالتهم الباطلة تلك؟
ألم يتمّ التنكيل من قِبل خاصّةِ وعامّةِ ذلك الحزب بالمؤمنين الذين يدعُون للكفِّ عن الخنوع وإظهار التضعضع أمام المخالفين والاستهانة بجرح مشاعر آل محمد عليهم السلام باستسهال الترضي على أعدائهم أو إبقاء ما لهُم من احترام وتعظيم في المجتمع الإسلامي على ما هو عليه؟
ألم يُطالب جماعة من المؤمنين الرافضة بتغيير المناهج الدراسية التي تحتوي على مدح قتلة أهل البيت عليهم السلام وتغيير أسماء الشوارع والمحالِّ التي تحمل أسماءهم؟
ألم يجهر أولئك الشيعة بالبراءة من أعداء آل محمد فتبرّع حزب الخانعين - بذرائع كالتقيّة المغلوطة لا التقيّة الشرعيّة- بمهاجمة أولئك الثلة من الرافضة والتحريض عليهم، بينما تلك الجماعات قد كان أفرادها ولا زالوا يتركون التقية مع أذيال البعث في داخل العراق وخارجه ويجهرون بثلب وشتم ولعن المقبور صدام ضاعف الله عذابه؟ ولا يتّقون من قوى الاستكبار العالمي ومستعدون لصرف كل الدماء في ذلك السبيل.

• من الجهة الأُخرى قُبِلت تلك الثلة من المؤمنين بالخذلان من القِسم الذي لم ينبرِ للهجوم على المؤمنين لكنه لم يدفَع عن إخوانه ضيم وظُلم ومحاربة الأحزاب التي سخّرت طاقاتها وأتباعها من الغوغاء في محاربتهم.
وبعد هذا كيف لنا أن نتعجّب إذا وجدنا البلاء شمل أفرادا من عامة الشيعة وبعض مَن يُقدِّمون أنفسهم للمجتمع الشيعي على أنهم الخاصّة؟!

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أيٌها الناس! إنّ الله تعالى لا يُعذِّب العامّة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمُنكر سرّا من غير أنْ تعلم العامة، فإذا عملت الخاصّة بالمُنكر جهارا فلم يغيِّر ذلك العامة، استوجب الفريقان العقوبة من الله تعالى.

• عن إمامنا جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) -: إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّا لم تضرّ إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يُغيَّر عليه أضرّت العامة. قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): وذلك أنّه يُذَلُّ بعمله دينُ الله، ويقتدي به أهل عداوة الله.

• كم شخصيةً تتزيّا بالدين وتُقدِّم نفسها للناس على أنها من خاصة المجتمع قد تورّطت في فاحشةِ إعلانِ المُنافحة عن أعداء آل محمد عليهم السلام بالشّرعنة لتحصينهم مِن الثّلب تارة واستسهال الترضي عليهم تارة أُخرى، هذا ناهيك عن جهود بعضهم في محاربة المؤمنين الذين يفضحون الظّلمة الأوائل ويجهرون بالبراءة منهم بالتأليب على تلك الثُّلة المؤمنة بشتى الوسائل على طول الخط؟!

• ومن الجهة الأُخرى كم فردا من العامة نعق بما ينعق به خاصّتُهُ من تلك النظائر وأعانهم ولم يُغيِّر عليهم بشطر كلمة؟ وكم فردا تقاعس عن مناصرة المؤمنين الذين انبروا للإنكار على أولئك والتغيير عليهم واتّخذ موقف الاعتزال وهو قادر على النصرة؟!

• ألم تُذِلّ تلك الأحزاب المختلّة المنحرفة دين الله تعالى بإعزازها أعداء دينه تعالى ومحرِّفي شريعته وذلك بالإصرار على حفظ الاعتبار الزائف لظلمة آل محمد عليهم السلام مع كون أتباعِ السقيفة في بُلدانٍ يشكل الشيعة فيها الأكثرية السكّانية كالعراق وإيران؟!
ألم يُشجعوا بذلك أبناء الطائفة البكريّة على تقوية اعتقادهم بتلك الرموز الباطلة مُحتجِّين على الرافضة في وجوب احترام وتعظيم رموزهم الضالة بمقالاتِ ومواقف رجالٍ وشخصيات تطرح نفسها على أنها من خاصة رجالات المجتمع الشيعي؟
• فبعد هذا كُلِّه كيف نتعجب من حلول البلايا بشتى صنوفها علينا؟ بل يجب علينا أن نتعجب كيف أبقانا الله حتى الساعة ولم يخسف بنا الأرض؟ فالحمد لله الذي رحمنا وحفظ الأرض ومَنْ عليها بوليِّه الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه الشريف.
نسأل الله تعالى العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.

محمد:
• اللهم آمين، نسأله تعالى لنا وللمؤمنين جميعا العافية.
• خلصتُ يا أبتي هاهنا إلى أنّ من يكون محسوبا على جماعة الشيعة ولا يسعى إلى تغيير المنكر بحسب استطاعته إذا رأى المُنكر قد صدر من الزعماء والشخصيات البارزة فإنّ البلاء قد يشمله. وليسَ من مُنكَرٍ تقاعسَ كثير من الشيعة عن دحره أعظم وأكبر من فاحشةِ إبقاء قتلةِ آل محمد الأوائل مُعظّمين ومصونين عن الثلب والفضحِ وبمساعٍ وجهود حثيثة من شخصيات بارزة تتصدر المشهد الديني في المجتمع الشيعي. وما يُضاعف تلك الجريمة فُحشا هو أنّ تلك المنهجية الخبيثة يُعمل بها داخل البلدان التي يُعدُّ الشيعة فيها أكثرية.
فنقول للناصبة بلى للشيعة ذنب عظيم يؤاخذهم الله تعالى عليه وهو ذلك الذنب. فإنّ الشيعة من حيث يشعرون ولا يشعرون غدوا شركاء لكم في فاحشتكم الكبرى ومُنكرِكُم الأعظم.

• لقد ورد فيما مضى من أخبار ذكرتموها التعرض لكون البلاء نعمة في أحد وجوهه، فهل فصّلت الأخبار الشريفة جانبا من وجوه النعمة على المؤمنين في البلاءات التي تصيب الناس كالأوبئة؟

الوالد:
• نعم لقد جاء في الآثار الشريفة بيان لبعض وجوه النعمة والمصلحة في الأوبئة والبلاءات على الناس.

• لقد أوضحت الآثار أنّ البلاء كالوباء يكون ردعا للبشر عن عتوهم وكسرا لنزعة الطغيان والتعاظم فيهم. فمثل هذه الابتلاءات تُعرِّفهُم حجمهم الطبيعي وتؤدِّب نفوسهم عند الشعور بالضعف فتدفعهم للرأفة بالضعفاء والمعونة للمحتاجين. وإنّ البشر عموما لو لم تصبهم المكاره لجنحوا إلى ما لا حدود له من الطغيان والشرور التي فيها فساد العباد والبلاد.

• وقد بيّنت الآثار الشريفة أنّ البلاء يصيب البرّ والفاجر.
أمّا الصالحون فتزيدهم البلاءات إدراكا لما كانوا فيه من عظيم النعم فيزدادوا شكرا وتقرُّبا من الله تعالى.
وأما الفاجر فتكسر هذه البلاءات نزعة الشرِّ فيه وتردعه عن التمادي.

• وفي حال السلامة من البلاء العام إذا ظهر في الناس فإنّ المؤمن تزيده السلامة شكرا وحمدا وقُربا من الله. وأمّا الطالح حينما يرى أنّ الله عافاه من ذلك البلاء بلا استحقاق منه فإنّ ذلك حرِيٌّ بأن يدفعه إلى أن يؤدِّب نفسه على الصفح عمّن أساء اليه والرحمة بمن هو أضعف منه. ويكون عفو الله تعالى حُجّةً عليه في ذلك.

• وأمّا إذا حصدَ البلاء الأرواح فإنه للمؤمن راحة من هذه الدنيا ومكارهها وصيرورة إلى النعيم. الأبدي وأمّا الطالحون فالموت يحبس الكافر منهم عن الازدياد في شروره، ويكون الموت بالوباء وما أشبه لأصحاب المعاصي من أهل التوحيد حطّاً لأوزارهم وأيضا حبساً لهم عن الازدياد في الذنوب.

• وأمّا على نحو العموم فظهور الابتلاءات كالأوبئة هي موعظة للصالح والطالح فهي تزيد الصالح يقظةً لئلّا يفتُر عن الطاعة ويستسهل المعصية إذا ما استشعر طُول السلامة والدّعة. وأمّا العاصي فتردعه عن التمادي في الغي بسبب استشعاره امتداد أيام الراحة والأمن والعافية.

وتفصيلُ ما شرحنا مع مزيدِ تَوسُّع في نقاط شتّى تُفيد في الرد على أهل الإلحاد نجدها في هذه الرواية الشريفة عن المولى الصادق عليه السلام..

في توحيد المفُضّل: عن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام:
"اتّخذ أُناسٌ من الجُهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان - كمِثل الوباء واليَرقان والبَرد والجراد - ذريعةً إلى جحود الخالق والتدبير والخلْق، فيُقال في جواب ذلك: أنه إن لم يكن خالقٌ ومُدبِّر فلِمَ لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع؟ فمِن ذلك أنْ تسقُط السماء على الأرض، وتهوي الأرض فتذهب سُفلا، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلا، وتجفّ الأنهار والعيون حتى لا يُوجد ماء للشّفَة، وتركُد الرِّيح، حتى تخِمّ الأشياء وتفسُد، ويفيض ماء البحر على الأرض فيُغرقها.

ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالُها لا تدوم وتمتدُّ حتى تجتاح كلّ ما في العالم؟ بل تحدث في الأحايين، ثم لا تلبثُ أن تُرفع. أفلا ترى أنّ العالم يُصان ويُحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليهِ شئٌ منها كان فيه بوارُه ويُلذَعُ أحيانا بهذه الآفات اليسيرة، لتأديب الناس وتقويمهم، ثمّ لا تدوم هذه الآفات، بل تُكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفُها عنهم رحمة. وقد أنكرت المنَّانِيَّة من المكاره والمصائب التي تُصيب الناس فكلاهما يقول: إن كان للعالَم خالقٌ رؤوف رحيم، فلم تحدُث فيه هذه الأمور المكروهة.. والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كلِّ كدر، ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشَر والعتُوِّ إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا، كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجِدَة والأمن يخرجون إليه حتى أنّ أحدهم ينسى أنّه بشَر، وأنه مربوب أو أنّ ضررا يمسُّه، أو أنّ مكروها ينزل به، أو أنه يجِب عليه أنْ يرحم ضعيفا، أو يواسي فقيرا، أو يرثيَ لمُبتلى، أو يتحنّن على ضعيف، أو يتعطّف على مكروب. فإذا عضّته المكاره ووجد مضضها، اتّعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه، ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.

والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذيين يذمُّون الأدوية المُرّة البشعة، ويتسخّطون من المنعِ من الأطعمة الضارة، ويتكرّهون الأدب والعمل، ويحبُّون أن يتفرغوا لِلّهْوِ والبَطَالة، وينالوا كُلّ مَطعم ومَشرب، ولا يعرفون ما تؤدِّيهم إليه البطالة من سُوء النشوء والعادة، وما تُعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي الأدوية من المنفعة، وإن شاب ذلك بعض الكراهة، فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوئ، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره، قيل: إذاً كان يكون غير محمودٍ على حسنه يَأتيها، ولا مُستحقا للثواب عليها.

فإن قالوا: وما كان يضرُّه أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرِضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس مُنعّما، ويُكفى كُلّ ما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك؟ ، بل ستجدونه بالقليل ممّا يناله بالسعي والحركة أشدّ اغتباطا وسرورا بالكثير ممّا يناله بغير الاستحقاق، وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمُل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مُضاعفة، فإن أُعِدّ له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجُعِل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق، فيكمُل له السُّرور والاغتباط بما يناله منه... فإن قالوا: أوَ ليس قد يكون من الناس من يركُن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه؟، فما الحُجّة في منْعِ من رضِي ينال نعيم الآخرة على هذه الجُملة؟ قيل لهم: إنّ هذا باب لو صحّ للناس لخرجوا إلى غايةِ الكلَبِ -أي الشر والأذية- والضراوةِ على الفواحش، وانتهاكِ المحارِم، فمن كان يكفُّ نفسهُ عن فاحشة أو يتحمّل المشقّة في باب من أبواب البر لَو وَثِق بأنّه صائر إلى النعيم لا محالة؟، أو مَن كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخَفِ الحساب والعقاب؟، فكان ضرر هذا الباب سينالُ الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة. فيكون في ذلك تعطيلُ العدل والحكمة معاً، ومَوضِع للطّعن على التدبير بخلافِ الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

• وقد يتعلّق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس، فتعُمُّ البرّ والفاجر أو يُبتلَى بها البَرُّ ويسْلمُ الفاجِرُ منها، فقالوا: كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحُجّة فيه؟ فيُقال لهم: إنّ هذه الآفات وإن كانت تَنال الصالح والطّالح جميعا. فإنّ الله عزّ وجلّ جعل ذلك صلاحا للصِّنفين كليهما، أمّا الصالحون فإنّ الذي يُصيبهم من هذا يَزِدْهُم نِعَم ربِّهم عِندَهُم في سالفِ أيّامِهِم- أي يجعلهم يزدادون إدراكا لعظيم النعم السالفة وشُكرا لها- فيحدُوهُم ذلك على الشُّكرِ والصّبر، وأمّا الطّالحون فإنّ مِثل هذا إذا نالهُم كسَرَ شِرّتهُم ورَدَعهُم عن المعاصي والفواحِش، وكذلك يجعلُ لِمَن سَلِمَ مِنهُم مِنَ الصِّنفينِ صلاحا في ذلك. أمّا الأبرار فإنّهم يغتبِطُون بما هُم عليهِ من البرِّ والصّلاح ويزدادُون فيه رغبةً وبصيرة، وأمّا الفُجّار فإنّهم يعرِفون رأفةَ ربِّهِم، وتَطَوُّلَهُ عليهم بالسّلامة مِن غيرِ اسْتِحقاق. فيَحُضّهم ذلك على الرّأفةِ بالنّاس، والصّفح عمّن أساء إليهم.. ولعلّ قائلا يقول: إنّ هذه الآفات التي تُصيب النّاس في أموالهم، فما قولك فيما يُبتلون به في أبدانهم، فيكون فيه تَلَفُهُم كمِثْلِ الحرْق والغرَق والسّيل والخسْف؟ فيُقال له إنّ الله جعلَ في هذا أيضَا صَلاحا لِلصِّنفَينِ جميعا، أمّا الأبرار فلِما لهُم في مُفارقة هذه الدنيا من الرّاحة مِن تكاليفها، والنّجاة من مَكَارِهها، وأمّا الفُجّار فلِما لهُم في ذلك من تمحيصِ أوزارهم، وحبْسِهِم عن الازْدِيادِ مِنْها، وجُملة القول أنّ الخالق تعالى ذِكْرُهُ بحِكْمتِه وقُدرتهِ قدْ يصْرِفُ هذه الأمور كُلّها إلى الخير والمنْفعة، فكما أنّه إذا قطَعَتْ الرِّيحُ شجرة أو قطَعَتْ نخلة أخذها الصانع الرّفيق واستعمَلَها في ضُروبٍ مِن المنافع فكذلك يفعلُ المُدبِّرُ الحكيم ُفي الآفات التي تنزِل بالنّاس في أبدانهم وأموالهم، فيُصَيِّرُها جميعا إلى الخير والمنفعة.. فإن قال ولِمَ تحْدُثُ على الناس؟ قيل له: لِكَيْلا يركنُوا إلى المعاصِي مِن طُول السّلامة، فيُبالِغَ الفاجِرُ في رُكُوب المعاصي، ويفتُرَ الصّالح عن الاجتهاد في البِرِّ فإنّ هذين الأمرينِ جميعاً يغلِبان على الناس في حال الخَفْضِ والدّعَة. وهذه الحوادث التي تحدُث عليهم ترْدعُهُم وتُنبِّهُهُم على ما فيه رُشْدُهُم، فلَو خُلُّوا منها لَغَلَوا في الطُّغيان والمعصية، كما غلا الناسُ في أوّل الزّمان. حتى وجب عليهِم البوارُ بالطُّوفان وتطهيرِ الأرض منهم".

بقلم: الزهراء مظلومة

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp