المبحث الثاني: هل منع النبي من تدوين الحديث؟

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp
المبحث الثاني: هل منع النبي من تدوين الحديث؟

1 نوفمبر 2016

يعزو العدو إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أنه نهى عن تدوين الحديث الشريف، وقد أدرج الخطيب البغدادي في كتابه تقييد العلم تلكم الروايات التي رووها في هذا الشأن، منها:

- عن أبي سعيد قال: قال رسول الله: لا تكتبوا عني شيئاً فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه (1).

- عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث سمعناها منك. قال: أكتاباً غير كتاب الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم إلّا ما اكتتبو من الكتب مع كتاب الله (2).

- عن أبي هريرة قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناس قد كتبوا حديثه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم كتبتم؟ إنما أنا بشر. من كان عنده منها شيء فليأتي بها. فجمعناها فأُحرقت. فقلنا: يا رسول الله نتحدث عنك؟ قال: تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار (3)(4).

- عن أبي سعد الخدري قال: كنّا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك. فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا: ما نسمع. فقال: أكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله. أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله أو خلّصوه. فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار. قلنا: أي رسول الله أنَتَحدث عنك؟ قال: نعم تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. فقلنا: يا رسول الله أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: نعم تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلّا وقد كان فيهم أعجب منه (5)(6).

- عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألّا نكتب شيئاً من حديثه، فمحاه (7).

وهذه الروايات مع قطع النظر عمّا في أسنادها من ضعف (8) لا يمكن التسليم بصدق صدورها عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وذلك لأنها لا تتوافق مع وصايا كتاب الله (9) تعالى كما أنها تعاكس الذي عُلم من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وأوامره وأفعاله، وبذا تكون هذه الروايات موضوعة لا محالة (10). أما كونها لا تتوافق مع الكتاب العزيز فلأن الله تعالى أوصى بكتابة الدَين وشدّد على ذلك حتى لا يُرتاب أو يُشك فيه، وذلك قوله عز من قائل: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب وليملي للذي عليه الحق وليتقي الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأبى الشهداء إذا ما دُعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألّا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألّا تكتبوها وأشهدوا اذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (11).

فإذا كان الله تعالى شدّد على كتابة الدَّين حتى لا يُرتاب فيه ويضيع المال كانت كتابة الأحاديث الشريفة أولى حتى لا يُرتاب فيها ويندرس الحق ويضيع الدِّين نفسه، ولا يخالف ذو مسكةٍ أن حفظ الدِّين أهم وأجل وأولى من حفظ ما سواه. وأما كون هذه الروايات تعاكس ما عُلم من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وأوامره وأفعاله فلأنّا وجدناه صلى الله عليه وآله أمر بكتابة خطبه وأحاديثه وأباح ذلك لمن شاء، والروايات التي تدل على ذلك متعددة، ومنها ما رواه العدو بنفسه وصحّحه:

- أخرج البخاري ومسلم وغيرهما - واللفظ للأول: عن أبي هريرة أنه عام فتح مكة قتلت خُزاعة رجلاً من بني ليث قتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليهم رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي. ألا وإنما حُلّت لي ساعة من نهار. ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يُختلى شوكها ولا يُعضد شجرها ولا يلتقط ساقطتها إلّا منشد. ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما يُوْدى وإما يُقاد. فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: أُكتب لي يا رسول الله. فقال له رسول الله: أُكتبوا (12) لأبي شاه (13).

- أخرج أبو داوود وأحمد وغيرهما عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله فأومئ بيده إلى فيه وقال: أكتب فولذي نفسي بيده ما يخرج منه إلّا حقٌّ (14). وهذا الحديث ينبئ عن أن الجماعة التي كانت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله تصدّ عن كتابة حديثه إنما هي من قريش وكانت حجتها في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فلا سلامة لما يصدر منه على كل حال. وهذا المنطق هو عين ما نطقت به هذه الجماعة المنافقة يوم رزية الخميس (15).

- أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه منّي إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب (16)(17).

- أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكى ذلك إلى النبي فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه. فقال رسول الله: إستعن بيمينك، وأومئ بيده إلى الخط (18)(19).

- أخرج ابن شاهين في ناسخ الحديث بسنده عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله إنّا نسمع منك أشيائاً أفنكتبها؟ قال: أكتبوا ولا حرج (20)(21).

فمن مجموع هذه الروايات ونظائرها تُعلم مكذوبية تلك الأحاديث التي تمنع كتابة الحديث.

----------------------------------------

(1) تقييد العلم للخطيب، ص٣٠، ونحوه في: المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله، المشتهر بصحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج النيسابوري، ك٥٣ ب١٨ ص١٤٦٨ ح٣٠٠٤، طبعة بيروت، ٢٠٠٣م

(2) تقييد العلم للخطيب، ص٣٣

(3) وهذا واضح البطلان، فلا يمكن للعاقل أن ينهى عن تدوين المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله نفسه بدعوى أن بوجود كتب أخرى سوى كتاب الله - حتى وإن كانت هذه الكتب الأخرى دينية تنقل نفس أقوال الأنبياء الذين نُزِل عليهم كتب من الله - سيؤدى إلى ضلال.

(4) تقييد العلم للخطيب، ص٣٤-٣٥

(5) من الواضح أن هذا موضوع، فإنه يصور الأمر وكأن النبي صلى الله عليه وآله فعل ما فعله عمر ذانخ لاحقاً من النهي عن تدوين الأحاديث وإحراقها. ثم بعد ذلك يقول أنه لا بأس بالتحديث الشفهي، وليس ذلك إلا لكون ما هو شفهي أسهل التلاعب به. ثم تنبه جيداً الفقرة حول بني إسرائيل حيث حثهم النبي - كما في الرواية المكذوبة - على التحديث عن بني إسرائيل، وانظر كيف يصف ما في بني إسرائيل بأنها أعاجيب، أي كل شيء يلتقطونه منهم، هناك ما هو أعجب منه. وقد وُضعت هذه العبارة ليُجعل المرء يتشوق للأخذ عن بني إسرائيل ويندفع أكثر لكي يغوص في التراث اليهودي الإسرائيلي ليستخرج منه قصص وعقائد و "أسرار" و "أعاجيب".

(6) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لعلي بن أبي بكر الهيثمي، ج١ ك٢ ص١٥٠-١٥١، طبعة بيروت

(7) تقييد العلم للخطيب، ص٣٥

(8) أي: إنّ كثير منها ضعيف حتى على مباني أهل الخلاف.

(9) لا نعني ههنا فقط قوله تعالى (وما أتاكم الرسول فخذوه) لكن سيأتي ما نعنيه.

(10) لسنا الآن في مقام تبيين الاعتذارات السخيفة من قبل أهل الخلاف في تسويغ ذلك، كقولهم: إنه كان ذلك لكي لا يختلط الحديث بالقرآن فتنشغل الناس عن القرآن، وما أشبه. لكن نجيب عليهم باختصار: إنّ كل إنسان يعلم شيء يسير من اللغة العربية يتمكن من التمييز بين كلام الله عز وجل وكلام النبي صلى الله عليه وآله فلا يخلط بينهما. حتى وإن كان هذا الإنسان طفلاً في زماننا هذا الذي لا تعد اللغة العربية جزء من تكوين المرء - بخلاف ما في السابق حيث كانت اللغة العربية شبه جزء تكويني ينشأ مع الشخص العربي - فإنه يستطيع أن يميز بين كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وآله وأن يلاحظ فرقاً بين الاثنين، حتى وإن كان كلام النبي صلى الله عليه وآله في قمة البلاغة، لأن كلام الله تعالى معجز ليس له مثيل في البلاغة. فلا خوف من أن يختلط كلام النبي صلى الله عليه وآله مع كلام الله عز وجل، سيّما أن الله تعالى وعد أن يحفظ كتابه. فهذه الأحاديث لا توافق كتاب الله تعالى وهي تعاكس ما علِمناه من أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وأوامره وأفعاله.

(11) البقرة: ٢٨٣

(12) هذا هو شاهدنا، وهو أمر النبي صلى الله عليه وآله أن يكتبوا لأبي شاه أحكام الحرب.

(13) راجع الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه، المشتهر بصحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، ج٢ ك٥٠ ب٧ ص٨٥٧ ح٢٣٠٢، طبعة دمشق، ١٩٩٣م، و: صحيح مسلم، ك١٥ ب٨٢ ص٦٣٥ ح١٣٥٥

(14) سنن أبي داوود لسليمان بن الأشعث السجستاني، ج٥ ك٢٠ ب٣ ص٤٨٩ ح٣٦٤٦، طبعة دمشق، ٢٠٠٩م

(15) تنبّه عبارة (فنهتني قريش) وهو تعبير مهم جداً، ويقصد بذلك أكابر قريش أمثال أبي بكر وعمر. ثم لاحظ كيف أن منطق (أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا) نفس منطق (إن الرجل ليهجر) أي أن الرجل قد يخطأ ويصيب فإنه بشر. ثم إنّ النبي صلى الله عليه وآله أمر عبد الله بن عمرو أن يكتب وكان ذلك بعد المنع من قريش في حياة النبي، إذن لا اعتداد بالمنع بعد استشهاد النبي.

(16) صحيح البخاري، ج١ ك٣ ب٣٩ ٥٤ ح١١٣

(17) شاهدنا أن عبد الله بن عمرو كان يكتب حديث النبي صلى الله عليه وآله، ولا اعتداد بكلام الكذاب أبي هريرة لعنه الله حول كونه أكثر من حدّث عن النبي.

(18) الجامع الكبير، المشتهر بسنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، ج٤ ك١١ ب١٢ ص٤٠١ ح٢٦٦٦، طبعة بيروت، ١٩٩٦م

(19) قوله صلى الله عليه وآله: (استعن بيمينك، وأومئ بيده إلى الخط) أي: أمره أن يكتب.

(20) ناسخ الحديث ومنسوخه، لعمر بن أحمد بن عثمان البغدادي المعروف بابن شاهين، ص٢٧٥ ح٦٠١، طبعة بيروت، ١٩٩٢م

(21) فما أبعد عبارة (أكتبوا ولا حرج) عن عبارة (امحضوا كتاب الله) التي نسبوها كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله!

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp