هل امتدح أمير المؤمنين (عليه السلام) عمر في نهج البلاغة؟

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

‏بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ المجاهد / ياسر الحبيب

بعد التحية و السلام ،

في نهج البلاغة توجد كلمة منسوبة لأمير المؤمنين عليه السلام وهي ثناء من أمير المؤمنين عليه السلام للخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، و من ضمن ما جاء فيها :" ذهب نقي الثوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها و سبق شرها " ، فهل هذه الكلمات جاءت حقا من أمير المؤمنين أم أن في نهج البلاغة ما هو منسوب للأمير ؟

و لكم جزيل الشكر و التقدير


إن تمام النص في نهج البلاغة هو: "ومن كلام له عليه السلام. لله بلاء فلان، فقد قوّم الأود، وداوى العمد. خلّف الفتنة، وأقام السنة. ذهب نقي الثوب، قليل العيب. أصاب خيرها، وسبق شرّها. أدى إلى الله طاعته، واتقّاه بحقّه. رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي". (نهج البلاغة ج2 ص222).

والنص كما ترى؛ لم يُذكر فيه اسم عمر بن الخطاب (لعنة الله عليه) وإنما جاء الادّعاء بأنه هو المقصود به من قبل شارح النهج ابن أبي الحديد الذي زعم أنه وجد نسخة بخط الشريف الرضي – جامع النهج – وقد وضع تحت كلمة (فلان) كلمة (عمر)!

وهذا الادعاء مرفوض بدواً إذ هو محاولة من ابن أبي الحديد أو غيره من المعتزلة لإثبات مذهبهم الفاسد الذي قالوا فيه بتخطئة أبي بكر وعمر مع عدم الحكم بكفرهما ونفاقهما وبغيهما وظلمهما. وقد تلقّف أهل العامة هذا الادعاء تلقّف الكرة حتى يصوّبوا ولاءهم لعمر مع أنه لا يخدمهم كثيرا كونه يفتقد التصريح، ولا يمكن بناء الحقائق على المبهمات بلا قرائن تقطع الشك باليقين.

وقد جاء عن بعض علمائنا أن المقصود بهذا الكلام من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بعض ولاته وعمّاله وأصحابه المخلصين، كما ذكره القطب الراوندي، والأرجح في أوساطنا أن المقصود به هو مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه.

غير أني أحتمل أن يكون هذا الكلام قد صدر من مولانا الأمير (صلوات الله عليه) على سبيل التهكم وإظهار الفرح بهلاك اللعين عمر، والمستند الذي أستند عليه في هذا الاحتمال هو خبر رواه الطبري وكذا ابن كثير هذا نصّه: "عن المغيرة بن شعبة قال: لما مات عمر رضي الله عنه بكته ابنة أبي حثمة فقالت: واعمراه! أقام الأود وأبرأ العمد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئا من العيب. وقال المغيرة بن شعبة: لما دُفن عمر أتيت عليا وأنا أحبّ أن أسمع منه في عمر شيئا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل، وهو ملتحف بثوب لا يشكّ أن الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب! لقد صدقت ابنة أبي حثمة! لقد ذهب بخيرها ونجا من شرّها، أما والله ما قالت ولكن قُوِّلت"!! (تاريخ الطبري ج3 ص285 والبداية والنهاية لابن كثير ج7 ص158).

فعلى هذا هنا ملاحظات:

أولا؛ إن هذا الخبر يرشدنا إلى أن تلك الكلمات لم تصدر من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بداية، وإنما صدرت من ابنة أبي حثمة يوم هلاك عمر. وإنما ردّدها أمير المؤمنين وحاكاها عندما جاءه المغيرة ليستطلع حاله في ذلك اليوم.

ثانيا؛ إن صدور هذه المحاكاة من الأمير (عليه السلام) إنما جاءت على سبيل التهكم والاستهزاء بما قالته ابنة أبي حثمة، ويثبت ذلك قوله عليه السلام: "والله ما قالت ولكن قُوِّلت"! أي أنها كانت مجرّد بوق دعائي تمت رشوته من أجل أداء هذه الوظيفة في تمجيد عمر بعد هلاكه، تماما كما تفعل حكوماتنا اليوم بعد هلاك رؤساها، فتجدها تدفع من أموال شعوبها لهذا المرتزق وذاك من أجل تسطير كلمات الثناء والإطراء على هؤلاء الحكّام والزعم بأن البلاد لم تنجب أمثالهم في الحكمة والعلم والفهم وبعد النظر والرشد والزهد وما إلى ذلك! وحيث أن الكل يعلم أن الأمر كذلك؛ فإنك تجد كثيرا من الناس يكرّر تلك العبارات الإطرائية على سبيل التهكم والسخرية. بل إنك تجد أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم هذا الأسلوب – أسلوب التهكّم – في قرآنه الحكيم، كما في هذه الآية الشريفة: "خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ"! (الدخان: 47 – 49). فترى هنا أن الله تبارك وتعالى يصف هذا الذي أمر برميه في النار وصبّ الحميم على رأسه.. بالعزيز الكريم! ولا شك أن الوصف غير حقيقي وإنما يُراد به التهكّم والاستهزاء بهذا الكافر الملعون.

ثالثا؛ إن المغيرة ذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد اغتسل في يوم هلاك أو دفن عمر! وهذا مؤشر واضح على مدى السرور الذي لحقه (صلوات الله عليه) في ذلك اليوم المجيد، فإنه في الإسلام يكون الاغتسال مستحبا في الأعياد، والمعصوم لا يفعل شيئا خارجا عن دائرة الاستحباب والقربة إلى الله تعالى، وقد ورد في الآثار عن أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) استحباب الغسل في يوم عيد فرحة الزهراء صلوات الله عليها. فعلى هذا لا يُعقل أن يكون الأمير (عليه السلام) فرحا بمقتل عمر ثم يثني عليه بأمثال هذه العبارات! فلا يكون سبيل إلا لتوجيه هذه العبارات جهة التهكم.

وعلى أية حال؛ فإن هذا النص الشريف الوارد في نهج البلاغة لا يصبّ في صالح ابن صهاك، فإما أن يكون على وجه الحقيقة والمقصود به أحد الأخيار من أصحاب وولاة الأمير (عليه السلام) كما ذكره بعض علمائنا، وإما أن يكون على وجه التهكّم والمقصود به عمر نفسه كما ذكرناه واحتملناه، وفي كلتا الحالتين فإن الخاسر هو من يوالي عمر، والرابح هو من يعاديه ويبرأ إلى الله تعالى منه.

والعجب من المخالفين تشدّقهم بهذا النصّ العام الذي يمكن انطباقه على أي أحد؛ بينما قد أداروا وجوههم عن نصوص أخرى في نهج البلاغة تذم خلفاءهم وتقدح فيهم رغم أنها نصوص خاصة لا تنطبق إلا عليهم! كما في الخطبة الشقشقية مثلا.

زادكم الله بصيرة في الدين وحبا في الطاهرين وكرها في الظالمين. والسلام.

12 من صفر لسنة 1427 من الهجرة النبوية الشريفة.


شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp