2007 / 11 / 23
صدر عن الشيخ ياسر الحبيب البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ”وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا! أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ! لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ“. (البقرة: 114). صدق الله العلي العظيم.
قد تلقينا بشديد الأسى والحزن نبأ الفاجعة العظمى التي تمثلت بالاعتداء الناصبي الحقير على مقام الإمامين أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري (صلوات الله وسلامه عليهما) في سامراء المقدسة، والذي دمّر أجزاء كبيرة من الحرم الشريف، منها الضريح المقدس، والقبة النورانية، وأجزاء هائلة من سقوف وجدران وأعمدة الروضة الطاهرة.
إن من يشاهد مشاهد وصور هذه الجريمة الوحشية والأطلال التي تركتها لا يكون ملوما إن مات كمدا! فمع أن الأضرار كانت جسيمة في هذا البناء الشامخ الذي بنته سواعد الموالين وتضحياتهم على مرّ الأزمان؛ إلا أن الألم الحقيقي لم يأتِ بفعل وقوع تلك الأضرار من حيث ماديتها، بل من حيث معنويتها، فتلك الأيادي القذرة التي تسببت في هذا الحادث الإجرامي الجبان؛ إنما امتدّت إلى كرامة الإمامين المعصومين (صلوات الله عليهما) واستهدفتهما مباشرة! فكأن أصحابها تأسفوا على عدم مشاركة بني العباس في اغتيالهم للإمامين في غابر الزمان فتوجهّوا إليهما في قبريهما اليوم! فإنا لله وإنا إليه راجعون!
يا شيعة آل محمد!
إنه ليس بعد الاعتداء على أئمتنا من صبر! فلئن صبرنا سابقا بعد الدماء التي ذهبت من أهلنا وأخوتنا وأبنائنا فإننا اليوم بعد الذي جرى لن نصبر ولن نسكت! ذلك لأن تلك الدماء وإن كانت عزيزة وغالية إلا أننا إنما كنا نروي بها تربة الولاء لأئمتنا الطاهرين (صلوات الله عليهم)، وتلك الأرواح التي فقدناها إنما فقدناها دفاعا عن مقامات أئمتنا ومراقدهم وعتباتهم المقدسة، فقد كان أبناء الزواني يستهدفون تلك الأرواح لأن أصحابها كانوا يتوافدون على تلك المراقد، ومع كل المجازر التي ارتكبوها ظللنا نزحف إلى حيث استقرّت أبدان أئمتنا (عليهم سلام الله) عشقا وولاءا وإصرارا وتحديا.. وبهذا كنا نقصد أن نكون سورا بشريا لهذه المقامات والمراقد، نحميها بأنفسنا ونفديها بأرواحنا، فكلنا فداء لآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
اليوم.. يُعتبر ما جرى تحولا خطيرا في الموقف، فقد توجهت سهام الإرهابيين مباشرة إلى أئمتنا المعصومين عليهم السلام! وقد زرعوا متفجراتهم في حرمهم الطاهر بعد اقتحامهم له جهارا نهارا! ولعمري.. لو كان الوقت يسعفهم أكثر لما تأخروا في نبش قبري الإمامين (عليهما السلام) فهم أحفاد تلك البغية التي لاكت كبد حمزة يوم أحد! ولن يتورعوا عن فعل ذلك اليوم! فدماء هند وآل أبي سفيان تسري في عروقهم جيلا بعد جيل وهم الذين تغذوا على دماء آل محمد الطاهرين!
فهل بعد هذا من صبر؟! كلا وألف كلا!
يا شيعة آل محمد!
لا يجدر بنا أن نخفي أمامكم أنّا كنا نخشى شخصيا من يوم كهذا تُنتهك فيه حرمة الإمامين العسكريين (عليهما السلام) وحرمة مولانا صاحب الأمر (صلوات الله عليه) في سامراء المشرفة بهذا الشكل السافر شديد الفداحة، فبعد سقوط الطاغوت وتشرفنا بالزيارة ومعاينة الوضع هناك أكثر من مرة؛ تولّد في نفوسنا القلق تجاه الوضع المريب القائم في سامراء عامة وفي الحرم الشريف خاصة، الذي بقى تحت سيطرة النواصب والبعثيين حسب التشكيلة الإدارية التي عينتها الحكومة الصدامية اللعينة!
كنا نظن أن المؤمنين من الشيعة الأوفياء قد انتزعوا الحرم من أيدي هؤلاء الأنجاس الذي عاثوا في المرقد الشريف فسادا على مدى أكثر من ثلاثين عاما أو ما يزيد، لكننا عندما وصلنا هناك وجدنا أن شيئا من هذا لم يحصل باستثناء بعض المحاولات الخجولة من بعض الأخيار والذين كنا على صلة شخصية بهم.
ويشهد الله تعالى أننا سعينا بحسب استطاعتنا لأجل تغيير الوضع القائم، وإعادة الأمور في الحرم المطهر إلى نصابها الصحيح أسوة بباقي المراقد المقدسة كالنجف الأشرف وكربلاء والكاظمية، وذلك حسب الموازين الشرعية التي تقتضي عودة هذا الوقف الإسلامي الشيعي إلى أهله، لا أن يبقى هكذا سليبا مغتصبا بحوزة أعداء أهل البيت عليهم السلام!
كنا نحث - ومعنا الأخيار الشجعان من طلبة العلوم الدينية - على تكثيف الجهود لاسترداد هذه البقعة المقدسة، وتشكيل إدارة جديدة للحرم مع قوة حماية معتدّ بها، تحافظ على هذا المقام الطاهر وتحفظه وتحميه وتقوم على أكمل وجه بواجبات خدمة زوّار الإمامين الهاديين (عليهما السلام) وكذلك زوّار سرداب غيبة ولي العصر (أرواحنا فداه) واجتثاث تلك النفوس الخبيثة التي تحكّمت لعقود في هذا المكان فسرقت منه ما شاءت وخرّبت منه ما شاءت وفعلت فيه ما شاءت ومنعت فيه ما شاءت! حتى أنها منعت رفع الأذان في الحرم وسرقت مكبّرات الصوت فيه كرها لسماع الشهادة الثالثة المقدسة ”أشهد أن عليا ولي الله“! بل قد شاهدنا آنذاك أنهم قد افتتحوا في الحرم نفسه محلا تحت مسمى ”تسجيلات الإمام الهادي“ كانوا يبيعون فيه أشرطة مشايخهم الوهابيين التكفيريين بكل صفاقة ووقاحة! ذلك في حرم الإمام الهادي وتحت اسمه الشريف!
هذا عدا عن اغتيالهم للعوائل الشيعية القليلة التي صمدت في المدينة فيما نزحت الأخرى عنها خوفا من بطشهم وإرهابهم! ومازلت أتذكر جيدا كيف أنهم كانوا ينصبون سيطرات ويقيمون مقرات لتفتيش الزائرين وكيف أنهم كانوا يحكمون المدينة وكأنهم - أي البعثيين والوهابيين - دولة مستقلة! كما مازلت أتذكر خلو الحرم الشريف من الزوّار بسبب الوضع الأمني المتوتر، إلى حد أنني كنت ذات مرة لوحدي تماما في سرداب الغيبة لساعات طويلة لم أرَ فيها زائرا آخر معي! أما في الحضرة الشريفة فلم يكن جميع الزوار أكثر من أربعة فقط أنا واحد منهم!
لقد كان هذا الوضع مؤلما جدا بالنسبة لنا، فحرّكنا الأجواء باتجاه استعادة الحرم الشريف وبسط السيادة الشيعية عليه في أسرع وقت، وذلك بحدود الإمكانات المتاحة لنا وما يوفره موقعنا الضئيل بالنسبة للساحة العراقية من تأثير، إلا أن استجابة ”أولي الشأن“ لم تكن بالمستوى المطلوب مع الأسف. وكان ذلك التجاهل جرحا عميقا لقلوبنا مازال باقيا إلى اليوم، بل إنه تجدّد! فإنه لولا هذا التراخي من قبل ”أولي الشأن“ لما وقعت هذه الكارثة اليوم!
يا شيعة آل محمد!
إن من أوجب الواجبات علينا اليوم أن نتحرك باتجاه بسط السيادة الشيعية على الحرم العسكري الشريف وتحريره من أيدي النواصب والبعثيين وإعادة تعميره وحمايته، فلا بد أن يعود الحق لأصحابه، فعلى جميع الموالين لآل محمد (عليهم الصلاة والسلام) السعي لإنهاء حالة احتلال واختطاف هذا المرقد المقدس، فلا يمكن غض الطرف بعد اليوم عن بقاء مقدساتنا بيد الآخرين الذين فرّطوا فيها هكذا! وكيف لا! وماذا نتوقع من أناس لا يعتقدون بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) بل ينتمون إلى طائفة تعتقد بإمامة أعدائهم؟! هل نتوقع منهم أن يبدوا حرصا على حماية أهل البيت (عليهم السلام) أو أن يحافظوا على مقدساتهم؟!
إننا هنا نهيب بجماهير الموالين الفدائيين لآل محمد، نهيب بهذا الشعب العراقي الذي هو شعب آل محمد.. نهيب به أن يزحف بالملايين إلى حيث سامراء المشرفة لتقديم واجب العزاء إلى ساحة القداسة، ولإنقاذ الحرم الطاهر واستعادته واسترداده فورا، دون أدنى اعتماد على الجهات المتخاذلة، أو على ما يسمى بديوان الوقف الشيعي التابع للحكومة، فقد أضحى الوضع لا يُتحمّل على الإطلاق، ولا يحتمل أن يُترك زمامه بيد من عقولهم مشغولة بمصالحهم عن المحافظة على مقدّساتنا وصونها!
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الحرم العسكري الشريف كان في أيدٍ غير أمينة، وإن من أشد الضرورات عودته الآن وفورا إلى السيادة الشيعية، وإلا فإننا لن نتحمّل بعد اليوم ما يمكن أن يجري، فالكل يعلم مدى الاحتدام الطائفي الجاري في البلاد، وهذا الحادث الأخير قد مسّ أقدس المقدسات وتجاوز كل الخطوط الحمراء، ذلك لأنه يمسّ الإمامين المعصوميْن (عليهما السلام) مباشرة، ولن يقبل أي شيعي بهذا وهو عنده أخطر من إزهاق روحه أو أرواح عائلته وأبنائه!
إننا نفدي تراب الأئمة (عليهم السلام) بأرواحنا! فكيف بمشاهدهم المقدسة؟!
لا والله ليس بعد هذا من صبر أو تحمّل! وقد آن أوان أن يهبّ أنصار آل محمد (عليهم السلام) هبّة رجل واحد لاجتثاث هؤلاء النواصب وتأديب من يحميهم ويوفر الغطاء اللوجستي لهم في مدنهم. وإننا مجددا نوجه النصيحة لأبناء مثلث العامة في العراق، وخاصة في سامراء المشرفة، بضرورة أن يتخلوا عن معاونة أو مسايرة هؤلاء القتلة المجرمين الإرهابيين، وأن يثبتوا ولو لمرة واحدة في هذا العصر أنهم شرفاء. وليختاروا واحدا من اثنين لا ثالث لهما: إما معنا، أو ضدنا! ومن لم يكن معنا فهو ضدنا! فقد استكفينا نزفا وجراحا، وقد ضحينا وسكتنا على مضض لأجل أن لا يُقال عنا أنّا نصادر حقوقكم، فانطلقت فرق الموت من مدنكم صوبنا لتقتل وتذبح وتفجّر وتختطف وتسرق وتسمّم! ومع هذا صبرنا! فماذا تريدون أكثر من هذا؟! هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! بماذا تقابلون حسن صنيعنا هذا.. أبالتستّر على هؤلاء المجرمين الأوغاد؟!
نحن نعلم أنكم إنْ حملتم على الإرهابيين في أوساطكم بجدّية، فإن البلاد سترتاح منهم إلى الأبد.. لكن الجدية عندكم مفقودة مع الأسف! فكفى خداعا! وكفى تخاذلا! وليعزل الشرفاء منكم أنفسهم عن عامتكم ممن يواطئ المجرمين أو يتستّر عليهم، وعندها سيتحقق القصاص العادل إن شاء الله تعالى. فبعد الذي جرى علينا.. صبرنا. أما بعد الذي يجري على أئمتنا.. فلا والله ما من صبر!
إننا إذ نتقدم بخالص العزاء والمواساة لمولانا ومولى الخلائق أجمعين صاحب العصر والزمان الإمام الحجة بن الحسن المهدي (صلوات الله عليه وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء) بهذه الفاجعة الأليمة والمصاب الجلل؛ فإننا نسأل الله تعالى أن يعجّل فرجه الشريف كي ينقذنا مما نحن فيه.. ووالله إن المرء منا لا يعرف كيف يخاطب إمامه (عجل الله فرجه) بعد الذي جرى فإن حرم أبيه وجدّه - الذي هو أمانته في أعناقنا - قد انتهك ونحن ننظر!! فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ياســــــر الحبيــــــب
محرم 1427 - لنـدن