2009 / 12 / 17
دعا الشيخ ياسر الحبيب أبناء الأمة الإسلامية إلى مشايعة الإمام الحسين (عليه السلام) وإعادة بناء الشخصية على الأسس التي أرساها كي تنهض الأمة وتُسْقِط الظلم والظالمين. وقال سماحته: ”إنه لا يخفى على أحد ما تعيشه أمتنا المنكوبة هذه، وما ترزح تحته شعوبنا من الظلم والطغيان والفساد والفقر والأوبئة والأمية والتخلف. إن هذا الوضع الذي تعيشه أمتنا هو نتاج عدم التحاق أكثريتها بعدُ بركب الحسين بن علي صلوات الله عليهما، فلم تحمل روح الإباء التي ورّثها لأتباعه وشيعته، وإنما حملت روح الخضوع والخنوع والذل والاستسلام“.
وفي تفسيره لذلك قارن الشيخ الحبيب بين (الإسلام الشيعي) وما يسمى (بالإسلام السني) بقوله: ”إن الذي ورثه الشيعة من إمامهم الحسين (عليه السلام) هو شعار: ”هيهات منا الذلة“! وشعار: ”إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما“! أما الذي ورثه من يسمون أنفسهم بأهل السنة من أئمتهم كالنووي هو قوله: ”وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الحاكم بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك“! وقوله أيضاً عن الحكام: ”وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين“!
ثم تساءل سماحته: ”أرأيتم الفرق؟! أرأيتم كيف يُشرعن للظلم والظالمين؟! أرأيتم كيف أوصلكم هؤلاء من أئمة الكفر والضلالة إلى ما تعيشونه اليوم من المصائب تحت رحمة الحكام الخونة الفسقة الظلمة “؟!
جاء ذلك في خطاب متلفز وجّهه إلى الأمة الإسلامية في محرم الحرام 1430 بمناسبة ذكرى استشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، بدأه بذكر كتابي الإمام الحسين (عليه السلام) إلى من تخلف عن نصرته من بني هاشم في المدينة، وأولهم أخوه محمد الشهير بابن الحنفية. حيث كتب (عليه السلام) الكتاب الأول من مكة قبل أن يتوجه إلى العراق، وكتب الكتاب الثاني من كربلاء حين حطّت رحاله فيها.
وذكر الشيخ ما جاء في الكتاب الأول قائلا: ”بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قِبَلِهِ من بني هاشم، أما بعد؛ فإنه من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام“.
وقال الشيخ بأن الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) لم يكن خارجاً ثائراً طلباً للملك والسلطان، كيف وهو يُعلن أنه سائر إلى الحتف لا محالة، معذِراً بقوله: ”من لحق بي استشهد“ حتى لا يتوهمنّ أحدٌ ممن يفكر في الالتحاق به أن من وراء ذلك غُنمٌ أو غنيمة في الدنيا، إنما هو الموت ولا شيء سواه! فمن أراد الموت فليتحق بركب الحسين عليه السلام.
وأشار الشيخ إلى معنى الفتح الوارد في كتاب الإمام (عليه السلام) قائلا: ”ولكن.. إذا كان المسير هو للموت، فكيف يقول (عليه السلام) في كتابه نفسه: ”ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح“؟! أي فتح هذا يُتأمّل على رمضاء كربلاء؟! وما الذي يُجنى منه بعد هذه المجزرة؟! إنّا لو أخذنا فتوح الدنيا معنى للفتح ههنا لكان ذلك خُلفاً لنصّه (عليه السلام) على أن الملتحق به يستشهد، فلا بدّ إذن من معنى آخر لهذا الفتح غير الذي تعورف بين الناس، أي ذاك الذي يكون انتصاراً في معركة تُبسط به السيطرة على البلاد والعباد وتُغنم به الغنائم والأموال.فما هو إذن معنى الفتح ههنا؟ لا ريب أنه ليس فتحاً دنيوياً، بل هو فتح ديني أخروي. هو فتح للإسلام، لا بالقوة العسكرية“.
وأضاف سماحته: ”وحتميٌّ أن ينتصر هؤلاء على أولئك عسكرياً على الأرض، إلا أن انتصارهم هذا سيغدو هزيمة في عالم القيم والشعور والمبادئ والمُثُل الإنسانية، وإذ ذاك ينتصر الحسين وأصحابه (عليهم السلام) فيخلّد التاريخ أسماءهم ويحفظ أمجادهم ويتذاكر تضحياتهم“.
وذكر الشيخ بأن الإسلام الذي نعرفه اليوم، لم يكن ليدوم عبر الزمان والأجيال لولا فتحين اثنين، الأول فتح مكة، والثاني فتح كربلاء.”ومن لم يلحق بركب الحسين لم يُدرك الفتح“.
وتابع الشيخ قائلا: ”الله! أي مقصد سامٍ هذا وأي معنى كبير؟ هذا المقصد الذي لم يدركه أولئك الذين تخلّفوا عن الخروج مع أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، وهذا المعنى الذي لم يفقهه أمثال ابن الحنفية والقاعدين من بني هاشم، مع ما بينهم وبين الحسين (عليه السلام) من اللحمة؛ فيما أدرك المقصد وفَقِهَ المعنى جون عليه السلام، ذلك العبد الأسود الذي لا تربطه بالحسين قُربى أو صلة، الذي قاتل بين يدي إمامه حتى سقط أرضاً تنزف دماؤه، فجاءه الحسين ووضع خدّه على خدّه ودعا قائلاً: ”اللهم بيّض وجهه، واحشره مع الأبرار، المصطفى محمد وآله الأطهار“ فتمتم جون مفتخراً: ”من مثلي وابن رسول الله واضعاً خده على خدي“؟! ثم فارق الحياة شهيداً تلقفته أهل السماء بالرضوان، وتغبطه أهل الأرض في كل زمان، فحقا.. من مثله“؟!
ثم عرّج الشيخ على الكتاب الثاني الذي أرسله الإمام الحسين (عليه السلام) حين وصوله إلى كربلاء، والذي كتب فيه: ”بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قِبَلِهِ من بني هاشم، أما بعد؛ فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل، والسلام“.
فعلّق الشيخ على الكتاب بالقول أنه يُفصح فيه الحسين (عليه السلام)”عن حقيقة الحياة التي يعيشها، إنه لا يعيش في الدنيا وإن كان ببدنه فيها، ”فكأن الدنيا لم تكن“.. إنه يعيش في الآخرة وإن لم يَقدُم عليها بعد، ”وكأن الآخرة لم تزل“!
وأضاف الشيخ بأن هذا الذي أراد الحسين (عليه السلام) أن يبيّنه لأولئك الحمقى والسفهاء الذين أنكروا عليه خروجه، واعتبروه مُلقياً لنفسه في التهلكة. حيث إنهم لم ينظروا إلى حركة سيد الشهداء (عليه السلام) إلا بعيونهم الدنيوية، من زاوية الدنيا وحسابات الدنيا فحسب، فوجدوا أنه سائر إلى الموت، إلى مجزرة حتمية، إلى مهلكة حقيقية، لن تبقي منه ومن أهل بيته وأصحابه أحداً، فما فائدة كل ذلك؟!
وقال الشيخ: ”ههنا - بحسب مقاييس الآخرة ومعاييرها - يكون الموت حياةً، والحياة موتاً! فالموت مظلوماً شهيداً إنما هي حياة المجد والخلود والسعادة، أما الحياة مع الظالمين فليست إلا موتاً للإنسانية وبرماً وآفة وسُقما“.
وأشاد الشيخ الحبيب بالقيم المستفادة من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) التي منها هي أن الحسين بن علي (عليهما السلام) ”هو الذي جعل للإنسانية معنى، فإن الفرق بين البهيمية والإنسانية، أن البهائم يخضع الضعيف منها للقوي وإن كان ظالماً، أما الإنسان فينبغي أن لا يخضع ولا يركع، أن يجاهد الظالم ويقاومه، أن يرفض الخضوع له والركون إليه، لأنه إنسان لا بهيمة. فإذا ما تخلّى الإنسان عن ذلك، وخضع للظالمين والطغاة، كان أخسَّ من البهائم! لأن البهائم مغلوبة على أمرها إذ لا عقل لها، أما الإنسان، فقد كرّمه الله تعالى بالعقل، فأين عقله؟! وأين هي كرامته إذ يجعل نفسه مطيّة للظالمين والجائرين“؟!
وقال الشيخ بأن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)”عرّفت الناس أن هنالك إسلامان؛ إسلام جاء به محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وهو يقوم على رفض الظالم واجتناب الطاغوت، وإسلام آخر جاء به أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد (عليهم اللعنة) وهو يقوم على الرضوخ للظالم والركون إليه بدعوى طاعة الأمير براً كان أو فاجراً، عادلاً أم ظالماً. ومنذ ثورة سيد الشهداء (صلوات الله عليه) والصراع قائم بين الإسلاميْن، الأصيل والمزيّف، إسلام آل محمد (عليهم السلام) وإسلام الحكومات. ومازال الصراع قائماً إلى يومنا هذا“.
ثم نبّه الشيخ المخالفين حيث قال:”إن الذي جعل الحكام يحاربون التشيع وانتشاره، ويجنّدون مشايخ السوء لتشويهه وتلويث سمعته والافتراء عليه، لأن التشيع خصمٌ لدود ومحارب عنيد للحكام الظالمين على طول التاريخ. إنهم يخشون التشيع لأن فيه الروح الحسينية العظيمة، التي علّمتنا أن نأبى الظلم ونرفض الظالمين، ولذا سُمّينا بالرافضة، ويحق لنا أن نفتخر بهذه التسمية“.
ونادى الشيخ معاشر المخالفين، قائلا: ”أيها الناس! لقد خدعكم مشايخ السوء حين أفتوا لكم بوجوب الخضوع للظالمين والطاعة للأمراء والرؤساء والسلاطين وإن كانوا جائرين بدعوى أن الخروج عليهم هو شق لعصا هذه الأمة وإيقاع لها في الفتنة، إنهم بهذا يريدون سلب إرادتكم وتنويمكم، إنها الحجج الخدّاعة ذاتها التي كان معاوية بن أبي سفيان وأضرابه من الطغاة يسوقونها لكي يحفظوا عروشهم ويُبقوا أنفسهم ملوكاً على رقاب هذه الأمة المنكوبة. وإنكم لو رجعتم إلى حضارة وتعاليم الحسين (صلوات الله عليه) لعرفتم بطلان هذه الحجج الواهية، فإنه ما من فتنة أعظم على الأمة من أن يتولاها الجائرون، إنها للفتنة الأعظم وفيها سقطوا“.
ودعا الشيخ المسلمين كافة في هذه الأيام التي هي أيام الحزن والحداد عند رسول الله وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، إلى إعادة بناء الشخصية والفكر على الأسس التي أرساها سيد شباب أهل الجنة عليه الصلاة والسلام، أسس الإيمان والحرية والعدل. داعيا أبناء الطوائف المخالفة إلى أن يتوجهوا في هذه الأيام العظيمة، إلى كربلاء المقدسة، لزيارة مصباح الهدى وسفينة النجاة سيد الشهداء الإمام الحسين سبط رسول الله وريحانته صلوات الله عليهما وآلهما. ليتعايشوا - في بضع أيام - الحسين وشيعته، في الأرض التي استشهد فيها ومنها عرجت روحه الطاهرة إلى السماء.
ووعدهم الشيخ بأنهم إن زاروا كربلاء فسيجدون أتباع الحسين (عليه السلام) في استقبالهم على الرحب والمودة، مشددا على ضرورة أن ينظروا إلى هذه الملحمة التي تتجسّد كل عام، ليدركوا فداحة الخطب، ومتأملا منهم أن يستمعوا إلى من يرثون الحسين ويتذاكرون مبادئه وأهدافه المقدسة، ليقفوا على الحق، ويسترشدوا به.”ومن ثمّ يعودون إلى أوطانهم حاملين معهم روحاً جديدة، هي الروح الحسينية العظيمة، ولو صار أكثرهم حاملاً لهذه الروح ومصطبغاً بهذه الصبغة، صبغة الإباء الحسيني، لما ترأسهم بعد اليوم مترأس ظالم“.
وعلّق الشيخ في خطابه على خبر بلغه أخيرا مفاده أن السلطات المصرية قامت وشرّدت الآلاف من المصريين الفقراء المستضعفين من بيوتهم في إحدى الأحياء الفقيرة بحجة أنهم قد بنوا بيوتهم على أراضٍ مملوكة للدولة، وتمخض عن ذلك بعض القتلى والجرحى ممن تصدّى لقوات الشرطة من الأهالي.
ووجه الشيخ هجوماً لاذعاً على الرئيس المصري حسني مبارك وحكومته واصفاً إياه ”فرعون مصر“ ومؤكدا أن الإمام الحسين (عليه السلام) لو كان موجوداً بيننا اليوم لأعلن الجهاد عليه وعلى سائر ”طغاة العرب والعجم“
وقال الشيخ: ”أيبلغ الذل والهوان بهذه الأمة إلى هذا الحد؟! سبحان الله! يكون الحكم عند رسول الله وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) أن الأرض لله ولمن عمّرها، فلا حق لأحد أن يُخرج أحداً من بيت قد بناه على أرض فضاء مطلقاً، فإن الله تعالى قد ملّكه هذه الأرض إذ عمّرها، وتكون له بيتاً يأويه وعياله بحكم الإسلام، ومع ذا يأتي جلاوزة الظالمين فيشرّدون المستضعفين بغير ذنب ولا جريرة، فيما ينعم الظالمون وأعوانهم بالأراضي والقصور والخيرات من قوت الشعوب بلا حسيب ولا رقيب!“
وأكمل سماحته: ”لو كان الحسين (عليه السلام) بيننا اليوم لجاهد فرعون مصر وسائر طغاة العرب والعجم، ولصرخ في وجوههم مردّدا كلمته التاريخية العظيمة حين قال: ”لا وَالله! لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد“!
وانتهى الشيخ في خطابه إلى أن التشيع هو الأمل الوحيد المتبقي لهذه الأمة المنكوبة بعدما خاضت التجارب المريرة مع طوائف ومذاهب وأحزاب وأيديلوجيات، شيوعية وقومية وليبرالية وعلمانية وإخوانية وسلفية وتبليغية وصوفية وتحريرية وغيرهنّ، لم تزد هذه الأمة إلا هواناً وانكساراً وحماقة وجهلاً.
وقال بأن الشيعة هم طليعة هذه الأمة اليوم، وعليهم تنعقد الآمال في استنهاضها واستنقاذها. وخاطب كل شيعي اليوم بأن بوظيفته في هداية من هم حوله ممن لم يستنيروا بنور آل محمد بعدُ بسبب تعتيم الظالمين والمضلين. وعلى كل شيعي اليوم أن يكون فارساً مناظراً، ومبلغا مجاهداً، وداعياً إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. عليه أن يعتبر نفسه لا مجرد منتمٍ إلى دين أو طائفة، بل عاملٍ حاملٍ لرسالة آل محمد (عليهم السلام) وناشرٍ لها في ربوع العالم، جاعلاً روحه في كفّه، لا يهاب الموت ولا العذاب، فإنه لا أحلى من الموت في سبيل الله. وأوصى الشيخ بأن يجعلوها انتفاضة عقائدية وثورة إيمانية تعمّ العالم بالخير والحرية والعدل والإنسانية.
وأشار إلى أنه لا سبيل للخلاص إلا بتلبية نداء الحسين (صلوات الله عليه) إذ قال: ”أيّها النَّاس! إنَّكم إن تَتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يَكن أرضى لله، ونحن أهلُ بَيت محمد أوْلَى بولاية هذا الأمر من هَؤلاءِ المدّعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان“.
وأنهى سماحته خطابه بقوله: ”أيها الناس! بايعوا آل محمد، تُفلحوا وتنجحوا وتتحرروا من الجور والعدوان“.