توافقا مع ذكرى أربعينية سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي «عليهما السلام»، لسنة 1433 هجرية، وجّه سماحة الشيخ الحبيب مساء السبت الموافق للخامس من كانون الثاني/2013 كلمة وعظية مهمة إلى أتباع أهل البيت «عليهم السلام» في العراق، تدور محاورها حول الأحداث الأخيرة الجارية في الساحة السياسية.
الشيخ الحبيب في بداية كلمته أكد على أن ما يميّز التشيّع العظيم هو أنه قد تمدد بالإقناع لا بالقهر والجور وغلبة الحكام الظالمين، لكنه دعا في الوقت نفسه إلى عدم التغافل عن بعض النقاط السوداء البارزة التي ساهمت في انحسار التشيّع عن بعض البلدان وتعطيل انطلاقته، وذلك لتقصير طوائف من الشيعة في الالتزام بمنهجية أهل البيت الدقيقة، والتي رسمها الأئمة الأطهار «عليهم الصلاة والسلام» لدفع هذا الدين وتابعيه نحو التقدم والعلو على الملل الأخرى من شتى فئات الكرة الأرضية.
فأعاد سماحته إلى الأذهان، ذكريات واقعية لأحداث مؤلمة سطرها التاريخ في بعض البلدان، التي كانت في جيب الشيعة ثم تحولت للأسف الشديد لتكون بأيدي المخالفين بواسطة البطش والهتك وسفك الدماء والأساليب الإجرامية المعتادة من الراغبين بالتشبث بالسلطة، مرجعًا التقصير في ذلك عبر الأجيال إلى الشيعة أنفسهم لتفريطهم في حق الله تعالى وحق أولياء الله الصالحين المتمثلين في رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعترته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهنا تحدث الشيخ الحبيب عن أبرز النماذج التي انقلبت فيها الأوضاع رأسًا على عقب، فأشار بالبنان إلى الشيعة في مدينة حلب السورية، وهي المدينة التي كانت تمثل في أحد الأزمنة وجهًا من وجوه الحضارة الشيعية، بدءا من أواسط القرن الثاني الهجري، حيث أخرجت حلب الأفذاذ من علماء الشيعة ورواة الأئمة الذين نقشوا اسمائهم بحروفٍ من نور في مسار خارطة التشيّع العظيم الذي وصل إلينا بيومنا هذا عبر أنهار من التضحيات، إذ كان من أؤلئك الأخيار (آل أبي شعبة) الذين تتلمذ عدد منهم على أيدي الإمامين الباقر والصادق «عليهما السلام» فألفوا بعد ذلك كتبـًا في عقائد وتعاليم وفقه أهل البيت «عليهم السلام»، قد اطلع عليها الأئمة فيما بعد وأثنوا عليها واستحسنوها وصححوها حتى أصبحت من أمهات المصادر الأساسية لنهضة الشيعة وتقدمهم لفترة من الزمن.
وأضاف الشيخ في حديثه حول أمجاد التشيّع في حلب، أن أوج أيام ترسّخ العقيدة الشيعية في تلك البلاد كان في حقبة الدولة الحمدانية، أي مع بداية القرن الرابع الهجري، لذا ظهر في ذلك القرن أعاظم فقهاء الشيعة وعلمائهم كأبي الصلاح الحلبي، وسلار الديلمي، والسيد أبو المكارم المعروف بابن زهرة صاحب كتاب (غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع) وغيرهم، مردفـًا سماحته إلى أن حكم حلب قد جرى تداوله بين الشيعة أنفسهم فوصل إلى (آل مرداس) من بعد الحمدانيين، وتلا ذلك وصوله إلى العقيليين، إلى أن جائت نقطة التحول السوداء بوصول الحكم إلى الناصبي السلجوقي المعروف بنور الدين زنكي ، والذي أذاق الشيعة الويلات بإكثاره القتل ورفعه أولوية مهمة القضاء على الوجود الشيعي في تلك البلاد.
وفيما سمح به الوقت قرأ الشيخ بعض مخازي المدعو نور الدين زنكي «لعنة الله عليه» مما سجلته كتب التاريخ ونقله المؤرخون البكريون في كتبهم من تراجم لسيرته وطريقة تعامله مع الشيعة، مستعرضا سماحته تلك النماذج من كتب (البداية والنهاية/لابن كثير) و(نهر الذهب في تاريخ حلب/ لكامل حسين البالي المعروف بالغزي) الناقل بدوره من كتاب (در الحبب في تاريخ أعيان حلب/لابن الحنبلي)، وأشار الشيخ الحبيب أن صور الظلم البشعة ضد الشيعة في حلب قد استمرت وتعاقبت من حين وصول هذا الطاغية في منتصف القرن الخامس الهجري حتى تمام القرن العاشر الهجري، حينما جاء العثمانيون بطاغية آخر يدعى طه زاده، والذي ربط الشيعة بالأخشاب وأحرقهم أمام الناس حتى فر الشيعة من حلب وتركوها إلى مناطق أخرى كبلدة الفوعة التي يعود كثير من شيعتها اليوم إلى نسل بنو زهرة والسيد أبو المكارم، بينما بقى من أؤلئك الشيعة النزر اليسير في حلب وبقوا لقرون متسترين بالتقية خشية الإبادة والهلاك، ما يعني بشكل أقرب للتعبير أن شيعة حلب القدماء قد أوشكوا على الإنقراض، وما شيعة حلب اليوم إلا غالبية من المتشيّعين حديثا بالزمن المعاصر.
ومن باب الوقوف على الأسباب والنقد الذاتي لخطيئة الشيعة في حلب التي سببت لهم الدخول في خمسمئة عام من الاضطهاد، حذر الشيخ شيعة العراق من تكرار ذلك الخطأ، منوّهًا إلى أن الأسباب والمسببات صار يبدو تكررها في العراق، لذا يلزم أخذ الحيطة والحذر من أولئك الساعين لإسقاط الحكم من الشيعة، مع الاتفاق أن الحكام شيعة صوريًا، بسد الأبواب أمام التهديد المحدق بشيعة أهل البيت عليهم السلام من حيثيات ما يجره هؤلاء الحكّام المتخلفون عن ركب الأئمة الشرعيين لخاتم الأنبياء والمرسلين «صلوات الله عليهم» من ويلات غير محمودة العقبى تنتظر شيعة العراق وقد ترجع بهم – لا سمح الله – وبالأمة الشيعية إلى الوراء.
وفي الفصل الثاني من مبحثه، أشار الشيخ الحبيب إلى ما ورد في كتاب (عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية) لمؤلفه المعروف بأبي شامة المقدسي، من قيام المدعو نور الدين زنكي في سنة 543 هجرية بإسقاط (حيّ على خير العمل) من الأذان، ومنعه مما يصطلح عليه بسب الصحابة (أي زمرة أهل النفاق التي انقلبت على رسول الله)، فساعده على ذلك جماعة من البكريين بينما أنكر عليه الشيعة فعله في بادئ الأمر.
ونقل الشيخ حرفيًا ما رواه المؤلف، مبينا أن ما يعرف بالشيعة الإسماعيليين في حلب كانوا ممن استبشعوا هذا العمل آنذاك وأنكروا عليه، مع أنهم كانوا أقلية بالنسبة للشيعة الإمامية، لكنهم ثاروا وهدؤوا مخافة سطوة السلطان الجائر.
ومن موضع آخر في الكتاب كشف الشيخ الحبيب أن المدعو نور الدين زنكي كان سبب إنهاء حكم الدولة الفاطمية في مصر، وليس صلاح الدين الأيوبي، إذ أن صلاح الدين الأيوبي كان أداة بيد هذا الطاغي الذي كان الرأس المدبّر لإسقاط آخر حكام (العبيديين) وإنهاء التشيّع في مصر بإنشاء حكم ديكتاتوري بكري على أراضيها.
ومختصر القصة أن حاكم مصر (العاضد بأمر الله) قد واجه تدخل جيوش الإفرنج الصليبيين الذين غزوا بلاد المسلمين وهددوا أهل فلسطين والشام ومصر وسائر البلدان، فاستنجد بالمدعو (نور الدين زنكي) لمساعدته أمام ما يصطلح عليه اليوم بالعدو المشترك (كالدولة الصهيونية في يومنا) ثم بانت الحقيقة بأن العدو مشترك بالمعنى الآخر (وهو أن السياسي البكري على الدوام يكون هو المتحالف مع العدو الخارجي ضد جبهة المسلمين)، أي الشيعة، فتكون النتيجة أن العدو الجلي يطعن من الأمام بينما العدو الخفي يطعن من الخلف وبشدة بالغة.
فلبى نور الدين زنكي طلب العاضد بأمر الله بإرسال جيش جرار بقيادة صلاح الدين الأيوبي، فأدخله الحاكم الفاطمي المصري في نظام الحكم كوزيرًا أول له، فتلا ذلك تغلغل صلاح الدين في مفاصل الدولة حتى صار له قوة على الأرض، فأوعز إليه نور الدين زنكي بقلب الحكم غدرًا فيمن أكرموه.
وهنا خاف صلاح الدين الأيوبي من هذه الخطوة، والتي إذا أراد تنفيذها لزم عليه الإيعاز إلى خطباء منابر الجمعة ليهتفوا باسم الحاكم الجديد، أي عبر الدعوة له كما يجري في الحرم المكي اليوم من دعوات موجهة لمصلحة الحاكم هناك، على عادة خطباء الجمعة البكريين الذين هم أبواق الحكام بمختلف مشاربهم بشتى بقاع العالم الإسلامي، فطلب نور الدين زنكي كان بمثابة إعلان البيان رقم (1) من إذاعة منبر الجمعة في مصر، لتدخل مصر في نطاق الحكم العباسي في بغداد عبر دعوة منابرها إلى الحاكم العباسي آنذاك (المستضيء بنور الله)، خلال أيام مرض الحاكم الفاطمي (العاضد بأمر الله) دون أن يدري بما يخطط له لإخراج تبعية مصر من نطاق حكمه إلى تبعية الدولة العباسية بمنتهى السهولة وبعكس هوى المصريين العلويين المتأصل في بغض العباسيين، فتلكأ صلاح الدين في البداية إلا أن زنكي هدده وأصر عليه بفرض الأمر بالقوة، موعزا إليه باستخدام جيوشه وعساكره التي جاءت برفقته لصد أي معارضة، بعد أن خرجوا بحجة مقاومة الصليبيين.
فاستشار صلاح الدين الأيوبي مجموعة من حاشيته فشاركوه في التردد، لكنهم بعد ذلك وجدوا الحل في خطيب أعجمي كان قادما من الخارج، ووافق على أن يقوم بالمهمة، فابتدئها بكل جرأة في أول يوم جمعة من شهر محرم ولم ينكر عليه أحد من الحاضرين، فتشجع صلاح الدين الأيوبي بفرض الخطبة العباسية في كامل أرجاء مصر والقاهرة من الجمعة الثانية، ولم ينكر على الخطباء أحد ما من الشيعة الإسماعيلية، فذاقوا نصيبهم من المجازر بعد ذلك، حيث انتهى حكمهم تماما بموت آخر حكامهم (العاضد بأمر الله) في يوم عاشوراء، بلا علم منه بوقوع انقلاب عليه بين ليلة وضحاها، وانتقال الحكم إلى يد العباسيين في بغداد، والذين كانوا يعيشون صراعات لأجل تثبيت حكمهم الضعيف آنذاك، إلا أن صلاح الدين أنشأ دولته في مصر على أنقاض الفاطميين، واستبشر زنكي بذلك وأرسل إلى الملك العباسي (المستضيء بنور الله) بهذه البشارة بعبارة مختصرة مفادها أنه تم القضاء في مصر على الرفض والإلحاد!
واستأنف الشيخ الحبيب الحديث حول موضوع البحث بتسليطه الضوء على موقف شيعة حلب الإمامية من هذه الأحداث، كاشفا الستار بأنهم لم يسكتوا، لكنهم تحركوا في الطريق الخطأ وهو الأمر الذي استحقوا عليه الخذلان، منبهًا سماحته على ضرورة أن يتعاطى الإنسان الشيعي مع الحكومات التي تتقرب له بشكلٍ عام وخاصة تلك التي ترتدي لباس التشيّع، معاملة الند للند، في السعي لإنهاء مرض الابتهاج من تقرب الحكام وتوددهم للشيعة، والذي لا يأتي إلا من باب السعي لاستحصال مكاسب سياسية، فلا ينبغي منحهم الثقة العمياء والفرصة السانحة لإرجاع الشيعة عن خطوطهم الحمراء في شئونهم العقدية لقاء ما يقدمونه من بعض الخدمات كتوفير اللأرز أو ما شابه ذلك، إذ أن هذا هو ديدن الدهاة الماكرين على مر التاريخ.
ولمزيد من الأمثلة أشار الشيخ «حفظه الله» إلى تقرّب المدعو قرضاي من الشيعة في كابل بحضوره في حسينية يوم العاشر من محرم والتباكي فيها، وكذلك ما يفعله أردوغان في تركيا، أو شيوخ آل الصباح في الكويت، أو كما يفعل ملك البحرين إذ بدأ بتوزيع الخراف وأكياس الرز على كافة المآتم الحسينية بكل موسم من مواسم عاشوراء حتى استمال الشيعة إلى جانبه قبل أن يسعى في تمريغ رؤوسهم بالرمال، مؤكدا سماحته أن هذه الصوريات هي التي أدخلت الاستعمار الغربي إلى مناطقنا الآهلة بالغالبية الشيعية، نتيجة نومنا وغفلتنا عن القراءة السليمة للأمور والاعتبار برواية الإمام الباقر التي جائت في شأن حرمة الصلاة خلف من يرى أمير المؤمنين علي «عليه السلام» أفضل ممن سبقوه بالحكم ولكنه مع ذلك لا يبرأ منهم ويلعنهم، وهي الرواية التي تحث على ضرورة اعتبار من هذه عقيدته عدوًا يجب تجنب الاقتداء بإمامته في الصلاة فضلا عن اعتبار الإمام حاكمًا لدولة وهو يرى أن أبا بكر وعمر وعثمان في الجنة فيكون أولى باعتباره عدوًا لشيعة أمير المؤمنين ومن خدام الكائدين لهم.
وأوضح الشيخ الحبيب أن خطأ شيعة حلب كان أشبه بما حصل لشيعة البحرين حينما توفى حاكمها الهالك عيسى بن سلمان «لعنة الله عليه» فتولي أبنه حمد بن عيسى مقاليد الحكم، إذ تنفس شيعة حلب الصعداء حينما هلك نور الدين زنكي، وصعد بعده للحكم ابنه المدعو أبو الفتح اسماعيل بن محمود نور الدين زنكي، فاستبشروا بهذا العهد الجديد كما استبشر شيعة البحرين بعهدهم الجديد بـ (حمد) والذي أوقعهم في احترامه جملة من عمائم الجهل والتخلف والبعد عن الدين ممن أنكروا على بعض العقلاء كالأستاذ كريم المحروس – آنذاك – إنكاره عليهم ما قدموه من تجاوب لمبادرات السلطة الخليفية الكاذبة، وتحذيره إياهم من أن هذا التجاوب سيكون سببًا رئيسيا في تغيير الحال السيئ إلى أسوأ مما هو عليه في المستقبل.
وعلى أي حال، كان شيعة حلب قد تحركوا بعد هلاك نور الدين زنكي لحل مشكلتهم الطائفية مع البكريين والتي جاء بها الحاكم السابق، فكتبوا إلى (ابنه) يستدعونه ليحل مشكلتهم، فما كان منه سوى أن ألقى القبض على كبير الشيعة وعلى أخوته ومن حوله ممن استدعوه، فأودعهم جميعا في السجن، إلا أن شيعة حلب لم يفهموا الرسالة فسامحوا الملك الجديد حينما تقرب إليهم بكلمتين عند أدراكه خطر مطامع صلاح الدين الأيوبي في الشام، إذا استولى صلاح الدين على دمشق وحمص وحماه بعد غزوهم بجيوشه، فخاف هذا الملك من وصول جيوش صلاح الدين إلى حلب فتقرب إلى الشيعة ليكسب ودهم وتأييدهم، فقابله الشيعة بالموافقة على نصرته ضد صلاح الدين الأيوبي الصوفي الناصبي، إذا لبى شروطهم في جزئيات بسيطة، مما ينم عن جهل سياسي عميق كما هي الحالة الطاغية اليوم في معممي الشيعة الذين ينطقون بالسياسة في الزمن المعاصر، فكانت هذه شروطهم:
1- السماح لنا بأن نرفع (حي على خير العمل) في الأذان.
2- السماح لنا بإقامة عقود الزواج حسب فقهنا الإمامي.
3- السماح لنا بأن نكبر على الميت خمس تكبيرات.
4- السماح لنا بتزيين مشهد النقطة الذي وضع فيه رأس الحسين «صلوات الله عليه»، وتجديد بناءه بالزخارف والهندسيات الجميلة.
وبعد استجابة شروطهم، وافقوا على الانفتاح والدخول في عهد ميثاق الإصلاح مع ابن ملكهم السفـّاح، ووافق هو بدوره – أي إسماعيل زنكي – على معاونتهم فنصروه في أواخر عهده ولم يقولوا ما لنا وما لبين إسماعيل زنكي وبين صلاح الدين الأيوبي وليتضاربوا معا وينشغلوا ببعضهم ونسأل الله أن ينجينا من بينهم ويخرجنا سالمين، كما هو الحال اليوم في وقوف بعض الشيعة مع نظام بشار لتثبيت حكمه ضد من يصارعه، فضحى بعض الشيعة بدمائهم الغالية لتثبيت حكم ليس هو حكم محمد وآل محمد ولا هو طريق تمهيد حكم الأوصياء الشرعيين لأمة محمد، بل من أجل تثبيت حكم بكري هو حكم نور الدين زنكي، و قالوا له بعد شدة تأثرهم بخطابه: نحن عبيدك وعبيد أبيك! كما هو الحال لدى من ظهروا بعمائمهم اليوم في القطيف وقالوا بعد تعيين نايف بن عبد العزيز وليًا للعهد، سيدي ومولاي الأمير نايف بن عبد العزيز خير خلف لخير سلف!
وفي المحصلة النهائية، تراجع صلاح الدين عن غزو حلب وأبقى إسماعيل زنكي عليها، ثم غزاها فيما بعد وفرض سيطرته عليها، وسلمها كإقطاعية لأحد أبناءه ففقد الشيعة حلب لأنهم انتصرورا بعدو الله نور الدين زنكي.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، كما روى عبد الواحد الآمدي: من انتصر بأعداء الله استحق الخذلان. (غرر الحكم ودرر الكلام)
وأبرز صور التنازل التي استوجبت خذلان الله لشيعة حلب كانت ما فعلوه في مشهد النقطة، مشهد رأس الحسين عليه السلام في حلب، حيث أنهم عمروه في زمن الظاهر غازي ابن صلاح الدين الأيوبي والذي استغفلهم أيضا على طريقة الصالح إسماعيل زنكي بانفتاحه عليهم بعدما رأى فيهم الأغلبية فطلبوا منه نفس المطالب على ما يبدو فسمح لهم بتعمير مشهد النقطة في سنة 585 هجرية، ونقشوا على نجفة الباب الداخلي هذه العبارة:
“بسم الله الرحمن الرحيم، عمر مشهد مولانا الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام دولة مولانا الملك الظاهر العالم العادل، سلطان الإسلام والمسلمين، أبي المظفر الغازي بن الملك الناصر يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين في شهور سنة 596 هجرية.”
وهذه بحد ذاتها مخالفة تشمئز منها النفوس، حيث نقش معماريون شيعة ذكرت اسماؤهم في الكتب اسم هذا العدو على مشهد من مشاهد أهل البيت «صلوات الله عليهم» وقبل الشيعة بذلك، مع أن البناء ليس من ماله بل من مال الشيعة، وعليها يستحقون الخذلان.
ثم على نجفة الباب في ثلاث أنصاف دوائر، نقشوا هذه العبارة:
“اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم، وارضى اللهم على سيدنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضى اللهم عن اصحاب رسول الله أجمعين”.
وأمام هذا الإثم العظيم بذكر أسماء قتلة رسول الله، وقتلة عترته من محرّفي ومدمري الإسلام، في مشهد منسوب لأبي عبد الله الحسين «صلوات الله عليه»، أي ما يعادل نقش اسم مسيلمة الكذاب فوق مشهد ينسب لرسول الله أو أهل بيته الطاهرين «صلوات الله عليهم»، استحق شيعة هذه المدينة الخذلان الإلهي من أوسع أبوابه، لعدم نهيهم عن هذا المنكر بل اعتبار الأمر شيئا طفيفا، إلا أن الله قد برهن لهم العكس، فعاشوا أذلاء خاسئين مشردين لتفريطهم في حق الله تعالى وحق أهل بيت نبيهم لأنهم سكتوا عن هذه المخالفة الشرعية مع أنهم كانوا مرهوبي الجانب من السلطان كما أكد ذلك المؤرخ الغزي صاحب كتاب نهر الذهب.
وللوصول إلى خلاصة العظة والعبرة من التاريخ تسائل الشيخ الحبيب: هل نحن نختلف كثيرا الآن عن شيعة حلب؟ أعني شيعة العراق نحن الآن الأكثرية، فلماذا نجد السكوت والصمت تجاه وجود اسماء أعداء أهل البيت «عليهم السلام» المرفوعة في شتى المناطق والشوارع والجامعات والمدارس والمنشئات الرسمية؟
ولماذا لا يعتبر شيعة العراق ذلك أزمة؟ لماذا يعتبرونه أمرًا عاديا ويمررونه مرور الكرام؟ لماذا ما زال هناك منطقة باسم المنصور قاتل الإمام الصادق؟ لماذا لا زال يوجد في العراق شارع باسم الرشيد، وشارع باسم المأمون وجامعة باسم المستنصرية، ومناهج تعليمية تدرّس تبجيل أبو بكر وعمر وعائشة وتترضى عليهم؟ لماذا كل هذا لم يتغير بعد مرور عشر سنوات من سقوط نظام البعث؟
وفي الختام أكد الشيخ الحبيب أن اغضاء الطرف عن مثل هذه المخالفات الشرعية، قد لا سمح الله يوصلنا إلى يوم نقول فيه رحم الله التشيّع في العراق كما ترحمنا على التشيع في حلب، فهل ننتظر أن نفقد العراق أيضا؟ هل ننتظر أن يتكرر خطأ الشيعة في حلب حتى تعم الكوارث؟
ناصحا سماحته المؤمنين في العراق إلى المسارعة في إصلاح مسارهم كي لا يفقدوا ما وصلوا إليه، فالأحداث في الانبار تنبأ بناقوس خطر وهي جرس انذار مباشر لكم لتصحيح الوضع السياسي وعلاج التقصير ومن ثم فرض الإسلام الشيعي الحق على الآخرين لا السماح للأقلية من المبتدعة بإنزال الأكثرية على حكمها.
منتظرا سماحته من شيعة العراق أن يجيبوا على هذه التساؤلات، وأن يبدؤوا جديًا بالتفكير في مراعاة حق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يتهاونوا عن مثل هذه الأمور وإن بدت لهم بسيطة إلا أنها في ميزان الله ثقيلة لما فيها من جرح للمعصومين الأربعة عشر، وترك الضجيج مبدئيا حول الأمور التي تخص أزماتهم الدنيوية المرتبطة بهم مباشرة كأزمة الكهرباء وما أشبه، من أمور لا تعادل أهميتها شيئا في ميزان الله عز وجل.