سيرًا في مواصلة التجديد الفقهي في مسألة شرعية تأسيس الدولة في زمن الغيبة وإدارة الحكم بيد الشيعة أنفسهم، حالما تسنح الفرصة أو تسير الظروف، قدّم سماحة الشيخ الحبيب - في مساء السبت الموافق 16 جمادى الثانية 1434 هجرية - عرضـًا لمجموعة من الروايات الثمينة المنتقاة من تراث أئمة أهل البيت عليهم السلام، لإثارة النقد الذاتي وتقريب وجهات النظر حول هذه القضية الاختلافية التي دار فيها الجدل بين فقهاء الشيعة بمختلف الأزمان والعصور.
الشيخ الحبيب في بادئ الأمر أشار إلى أول الأدلة الناقضة لقول القائلين بحرمة تأسيس الدولة في زمن الغيبة، عبر استعراض قول أمير المؤمنين عليه السلام، الموجود في نهج البلاغة، في قوله عليه السلام للخوارج عندما سمع قولهم (لا حكم إلا لله) حيث كان جوابه:
“كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير، بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيئ، ويقاتل به العدو، وتأمّن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر” (نهج البلاغة/ ج1/ص٩١/خطبة 40)
وأشار الشيخ «حفظه الله» إلى أن السعي لإيجاد حكومة هي مسألة عقلائية قبل أن تكون شرعية، إذ أنه من الواضح كما هو مستفاد من حديث أمير المؤمنين عليه السلام، أن وجود حكومة أفضل من عدم وجود حكومة، لأنه بهذه الثانية تحل الفوضى ويبغي القوي على الضعيف ويعم الفقر، ولكن مع وجود حكومة وإن كانت فاجرة فإنها لا أقل تكون قادرة ولو نسبيا على تأمين الطرقات وتضييق المجال لإطلاق يد السراق فلها أن تردع المعتدين الأقوياء على الناس الضعفاء وما أشبه.
كما أشار الشيخ الحبيب إلى شرعية الدخول في الحكم والعمل بالقدر المتاح في تطبيق أحكام الإسلام، مستدلاً بقول السلطان الرضا عليه السلام: «ويحهم! أما علموا أن يوسف عليه السلام كان نبيًا ورسولا دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز، {قال إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الاشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه فإلى الله المشتكى وهو المستعان». (عيون أخبار الرضا عليه السلام/ج١ /ص١٥١/ح2) وقول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما لا يدرك كله لا يترك جله». (عوالي اللئالي/ج4/ص ٥٨).
قبل أن يتطرق سماحته إلى عرض رواية مفصّلة ترجع للإمام الصادق عليه السلام، يوضح من خلالها الإمام ملامح نظام الحكم الذي ينبغي أن يقوم به الشيعي إذا ما تولى زمام القيادة والسلطة في بلدٍ أو زمنٍ ما، وكانت تلك الرواية باختصار هي جواب رسالة الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله النجاشي الذي ابتلي بولاية الأهواز في عهد الملك العباسي أبو جعفر المنصور الدوانيقي، إذ كان النجاشي شيعيًا يخفي عقيدته، وقد نقل الرواية الشيخ الحر العاملي بسند معتبر يصل إلى عبد الله بن سليمان النوفلي في كتابه (وسائل الشيعة/ج12/ص150) وصنفها تحت باب أطلق عليه (باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ومع أصحابه ومع رعيته) وكانت الرواية هي الأولى والأخيرة في هذا الباب.
ويستنبط من الرواية أن الإمام الصادق «عليه السلام» يقدّم دستورًا واضحًا للحكم فيما لو وصل الشيعي إليه، حيث يحث فيها على إغاثة الملهوفين والخائفين من آل محمد صلى الله عليه وآله، وإعزاز ذليلهم، وكسو عاريهم، والعمل على إطفاء نار المخالفين ضد العترة الطاهرة وردّها عنهم، كما يحذر فيها الإمام من الوقوع في ظلم أولياء آل محمد أي الشيعة بشكلٍ خاص، وينوّه في رسالته على أن من يقع في ظلم شيعي واحد فإنه لا يشم ريح الجنة، فضلا عن ظلم البشر بشكلٍ عام حيث يدعو الإمام «عليه السلام» إلى إجابة المستشير بالنصيحة والسعي في حقن الدماء، وعدم خيانة وعد الأمان لو أعطي للمحاربين الأعداء، ويدعو فيها كذلك إلى التأني وحسن المعاشرة واللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف.
وتوقف الشيخ الحبيب بعد شرح كل هذه النقاط عند قول الإمام «ومداراة صاحبك»، مبينـًا سماحته أن هذه العبارة تعني أنه يلزم على الحاكم الشيعي أن يداري - في غير الدين - من يكون أقوى سلطة منه، لكي يحافظ أو يتمكن من استلام زمام حكم بعض المناطق أو الدويلات التي قد يكون في وصوله لحكمها فرصة لخدمة الصالح الإسلامي كرفع الظلم عن الناس واستنقاذ ما يمكن استنقاذه بدلا من أتخاذ اسلوب المناطحة والتمرد على الأقوى فيؤدي موقفه إلى ركله والقضاء عليه فخسارة كل شيء، موضحًا سماحته أن قصد الإمام ها هنا هو أن على عبدالله النجاشي أن يحسب جانب المنصور الدوانيقي فيراعيه قدر المستطاع ويراعي رسله إليه كي يجنـّب الشيعة طرده من ولاية الأهواز فوصول والي طاغي يكون بديلا عنه.
وأشار الشيخ «حفظه الله» إلى شيعة البحرين إلى أن يتعظوا بحديث الإمام الصادق عليه السلام هنا، وينظروا إلى العالم برؤية واضحة ليفهموا ويعوا أن من يحكم العالم اليوم هو نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن البحرين شاءوا أم أبوا داخلة تحت سلطة هذا النظام، كما كانت الأهواز بعهد عبد الله النجاشي داخلة بسلطة المنصور الدوانيقي أيام وجود الإمام الصادق «عليه السلام»، إذ أن الحكم في البحرين مرتبط أساسًا بهذا النظام، وإذا ما أراد الشيعة أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يطردوا آل خليفة وكذلك يفعلون بآل سعود في الساحل الشرقي فأن المعادلة تستلزم منهم مداراة (سلطان الجور) وهو هنا نظام الحكم الأمريكي وقطع مصالحه الدائرة مع العدو قبل كل شيء، كي لا يتخلى هذا النظام عنهم ويدير ظهره لهم من باب أن مصلحته مع العدو، كما حصل في ثورتهم الأخيرة التي انطلقوا بها من دوّار اللؤلؤة، حيث تركهم يواجهون مصيرهم بيد الأعراب من آل خليفة وآل سعود وجرذان النواصب الذين عرفوا كيف يتعاملون بسياسة حاذقة مع هذا النظام فعملوا على طمئنته بضمان استمرار مصالحه التجارية وما أشبه، حتى أعطاهم الضوء الأخضر للقضاء على الثورة، كما حال هذا النظام دون وصول الشيعة للحكم في العراق إلى أن عملت بعض القيادات المرجعية والمعارضة الشيعية على مداراته فسمح بوصول الشيعة إلى الحكم فتحقق بعض الانفراج النسبي.
وأردف الشيخ الحبيب أن هذه المعادلة تنطبق في حال وجود قوة مهيمنة لا سبيل لدفعها بسبب عدم التكافؤ في ميزان القوة، وذلك بشكل استثنائي إلى حين امتلاك أسباب القوة التي يمكن من خلالها رفع الظلم والجور عن الناس، سواءًا كانت هذه القوة خارجية كنظام أميركا أو قوة داخلية كنظام إيران، وكما أنه يجوز في هذا الفرض مداراة الأولى تجوز مداراة الثانية، كأن يعتلي أحد المؤمنين منصبًا لحكم مقاطعة داخل إيران تحت نظام خامنئي وإن كان طاغيا، فيسعى قدر المستطاع في تطبيق العدالة وشرع الله تعالى.
كما دعا الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية الحاكم الشيعي إلى السعي في رتق فتق الرعية بما وافق الحق والعدل، وقد بيّن الشيخ الحبيب معنى هذه العبارة بأن (الحق) هنا يعني (علي بن أبي طالب) سلام الله عليه، أي أن من واجبات الحاكم الشيعي الأساسية أن يسعى في نشر التشيّع ويضع هذه المهمة في قائمة أولوياته لا أن يكون همه هو الوصول للحكم وفقط، أي أن على الشيعي لو وصل إلى الحكم في هذا الزمن أن يسعى لرصد ميزانية لتبليغ الثقافة الشيعية عبر الكتب والوسائل السمعية والبصرية على شتى الصُعد في العالم حتى لا تذهب تضحيات أبناء بلده سُدى، مستدركًا سماحته أن من المآسي التي حلّت علينا في عصرنا هي وجود نظامين يدّعيان التشيّع في بغداد وطهران ولا يضعان نشر التشيّع في أولوياتهما، ناهيك عن نشر الأخير للإنحراف والتشيّع السياسي الذي شوّه به الوجه النقي لإسلام أهل البيت عليهم السلام.
وأضاف الشيخ الحبيب «حفظه الله» أن القاعدة الذهبية لأمير المؤمنين «عليه السلام» في قوله: «لابد للناس من أمير بر أو فاجر» تستدعي من الشعوب الشيعية السعي لتحويل الأمير الفاجر إلى بر، عبر تقييد سلوكه ليكون في صالح الشرع والفطرة والإنسانية.
وأوضح سماحته أن هذه الدولة التي إن قدِّر لها أن تقوم على هذه الموازين وفق منهج الأئمة يطلق عليها (دولة الأكارم)، وذلك لما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في (غرر الحكم ودرر الكلام/ح5112): «دولة الأكارم من أفضل المغانم». مستطردًا أن من أبرز ملامحها عدم الاستهانة بالدين، إذ ذلك هو السبب الرئيس في هوان وضعف الدول التي تقوم على أساس ديني، قبل أن يسوق الشيخ مجموعة من النماذج والأمثلة المخزية في واقعنا المعاصر تمثلت في أفعال حكومتي العراق وإيران، حيث تذيع الأولى الغناء والطرب والرقص على شاشاتها وإذاعاتها الرسمية في يوم استشهاد فاطمة الزهراء بنت محمد «صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها» بدلاً من أن تقيم الحداد في هذا اليوم، كما تبقي على شوارع ومناطق ومؤسسات أسماء حملها أعداء أهل البيت عليهم السلام، بينما تقوم الثانية عبر منتسبيها أو عبر معممي السياسة المرتبطين بها بهتك حرمة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قام أحدهم بالتمجيد بقتلة فاطمة الزهراء وغاصبي حق أمير المؤمنين في النجف الأشرف مع عدم استعداده الشخصي لتحمل كلمة في التمجيد والثناء بصدام لأنه قاتل أبيه، رغم أن صدام بالمقاييس الشرعية أقل ظلمًا وإجرامًا عند الله من الشخصيات الإجرامية المنافقة بصدر الإسلام كأمثال أبي بكر وعمر وعثمان «عليهم لعائن الله» الذين أسسوا أساس الظلم والجور على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالجملة تطرق سماحته في حديثه إلى إيعاز هذه الحكومة للقائم بتمثيلها في القاهرة لإقامة احتفال في مولد اللخناء عائشة «عليها اللعنة والعذاب».
وأكمل الشيخ «حفظه الله» الحديث في شأن سمات هذه الدولة، فمرّ بالحديث عن التيقظ والعدل الذي ينبغي أن تتحصن به الدول، داعيًا الجميع للتفكر والتأمل وعدم الإنخداع بالحكومات المعاصرة التي ترتدي لباس التشيّع وتقيم دولها على الجور والفساد ومصادرة حقوق الناس، مرجئا سماحته الحديث وتتمة التفاصيل إلى جلسات أخرى قادمة إن شاء الله.