2013 / 08 / 14
تبعًا لمحاضرته الأولى (ملامح دولة الأكارم) استكمل سماحة الشيخ الحبيب «حفظه الله»، في غرّة شهر رجب المرجب 1434 هجرية، حديثه الذي دار حول جدلية الحكم في زمان الغيْبة، بحضورٍ مبارك سجّله الأخوة المؤمنون الذين توافدوا لاستماع أولى المحاضرات الأسبوعية التي تلقى في أرض فدك الصغرى، وثاني المحاضرات المفصّلة حول هذه النظرية الدينية السياسية.
الشيخ الحبيب نوّه في بداية خطابه إلى أن مسمّى دولة (الأكارم) هو المسمى المقابل لدولة (الأوغاد)، واللتين بيّن ملامحهما الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما وصل إلينا عن طريق الآمدي في كتاب (غرر الحِكم)، قبل أن يسلط الضوء على جانب آخر من ملامح هذه الدولة مما استنبطه سماحته من إحدى الروايات الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام، وهي قوله صلوات الله عليه: يستدل على إدبار الدول بأربع؛ تضييع الأصول، والتمسك بالغرور، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل. (غرر الحكم/ ح10960)
وبعد شرح الأمرين الأول والثاني على عجل، فصّل الشيخ الحبيب الحديث عن الأمرين الثالث والرابع نظرًا لأهمية البحث وذلك بعد تأكيد سماحته على ضرورة الثبات على الأصول الإسلامية والمبادئ العقائدية لضمان استمرارية الدولة في عنفوان قوتها بإبعاد كل ما يدفع للتلاعب الديني بقوام تكوينها الأساسي، وكذلك الغرور عن حكامها، مستشهدًا سماحته بدور الغرور في إسقاط الملكية في إيران وحكم الطاغية الليبي معمّر القذافي.
وفيما يخص جزئية (تقديم الأراذل) اختصر سماحة الشيخ الحبيب الشرح بأن هذه النقطة وإن كانت تدور في كافة الأمور إلا أن أوضح مقياس لتشخيصها هو تحديد مرجع الدين الأعلم والأعدل والأرشد في هذا الزمان فوضعه إلى جانب المراجع العدول الآخرين بخانة (الأفاضل)، ومن ثم تحديد منتحلي الاجتهاد والمرجعية فوضعهم في خانة (الأراذل)، ثم المقايسة بين الكفتين ورؤية كل جهة على حدة إلام تقود منتسبيها؟ وإلى أين تقود الأمّة الإسلامية إذا اتبعتها الجماهير وسلّمتها زمام القيادة؟، وبالتالي ملاحظة كيف أن التقهقر والتراجع هو مصير من قدّموا (الأراذل) على الأفاضل ومن قدموا أحدًا ممن كان من (الأفاضل) لكنه ليس الأفضل، من دون ذكر أيّة أسماء.
واستدل سماحته لتقريب الصورة وتوضيح المعنى بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، الذي رواه عنه سبطه الإمام الحسن عليه السلام: ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا. (الولاية لابن عقدة الكوفي/ص188)
وأضاف الشيخ الحبيب «حفظه الله» أن دولة الأكارم فيما لو تأسست فأنه ينبغي عليها التفتيش عن الفقيه الأعلم والأعدل لكي تتولاه بأي صيغة من الصيغ، حتى لا يذهب حال الأمة سفالاً كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي حال اعتماد صيغة حكم (شورى الفقهاء المراجع) للمجدد الشيرازي الثاني فأنه ينبغي اختيار من يكونون الأعلم والأعدل والأفضل بين الموجودين لتوليهم.
وفيما يخص الواقع العام المعاصر أشار سماحة الشيخ الحبيب إلى أن الحال في نظام إيران هو أصدق مثال على لسان حال الحديث الشريف (ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً)، إذ النتيجة واضحة للعيان وهي أن (أمر) الشعب الإيراني يذهب سفالا في جانب الالتزام الديني، وكذلك الحال في (أمر) الشعوب البكرية التي أخّرت الإمام علي عليه السلام وقدّمت عليه الأراذل من أمثال أبي بكر بن أبي قحافة، فلذا بقيت الأمة الإسلامية متضعضعة ومهزومة وذليلة وحقيرة وغير قادرة حتى على هزيمة دويلة غاصبة صغيرة اسمها إسرائيل، رغم نفوس هذه الأمّة الكثيرة فيا للعار!
وأوضح الشيخ الحبيب أن من أصول هذه الدولة المناداة بالولاية لآل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم) والبراءة من أعدائهم (عليهم اللعنة والعذاب)، وحماية الشيعة والمتشيّعين في كافة أنحاء العالم ومساندتهم ضد من يستبدهم، ومن يتولى الحكم على أنه الأعلم فهنا لا يحق له أن يحرف مسار الدولة عن هذه الأصول، والتي إن خرج عنها صار مصداقـًا إلى أنه ليس الأفضل لأنه هاهنا يضيّع الأصول.
وحول ملمح آخر من ملامح هذه الدولة استطرد سماحته البحث إلى جزئية أخرى لا تقل أهمية عن جزئيات الملامح السابق ذكرها في مورد البحث، وهي مشكلة التعامل مع المعارضين للدولة الدينية، مشددًا أن المشكلة الرئيسية تتركز في ادعاء الدولة الدينية أنها تمثل حكم الله وأن من يعارضها يخالف حكم الله، وهذا بحد ذاته هو أكبر الأخطاء.
ورجوعًا إلى القرآن والسنة المطهّرة أكد الشيخ الحبيب أن المسمى الصحيح لقوانين الدولة الدينية هي أنها قوانين اجتهادية، لا قوانين إلهية، ومن يقول بغير ذلك فأنه يدعي العصمة لهذه الدولة، بينما الواجب هو أن نقول بأن أحكام هذه الدولة هي أحكامًا ظنية اجتهادية قد توافق حكم الله وقد لا توافقه، فهنا ينفتح الباب أمام المعارضة ويكون هناك هامش من التسامح يحفظ الدولة من الانهيار على شتى الصُعد.
و مع بالغ أسفه لعدم طرح هذا المبحث على العامة والأوساط الفقهية، استدل سماحته لتوضيح استنباط هذا الحكم مما ورد إلينا عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم، عن مسعدة ابن صدقة عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا بعث أميرًا له على سرية، أمره بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة؛ ثم يقول: اغزو باسم الله و في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا و تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا متبتلا في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلا ما لابد لكم من أكله، وإذا لقيتم عدوًا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فان هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم و كفوا عنهم، وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم و أبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيئ ولا في القسمة شيء إلا أن يهاجروا في سبيل الله ،فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن الله عز وجل عليهم وجاهدهم الله حق جهاده، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن ينزلوا على حكم الله عز وجل فلا تنزل لهم ولكن أنزلهم على حكمكم ثم اقض فيهم بعدما شئتم فإنكم إن تركتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله فيهم أم لا، وإذا حاصرتم أهل حصن فإن آذنوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله. (الكافي/ج5/ص29/ح8)