استمراراً في سلسلته (رؤية تجديدية في شرائط المرجع الحاكم) استكمل سماحة الشيخ الحبيب خلال محاضرته الأسبوعية(1) في ليلة استشهاد الإمام جعفر الصادق لسنة 1434 هجرية، وبالمحاضرة التي تلتها(1)، حديث سماحته حول ضرورة توفر سمة الشجاعة بالمرجع الحاكم الذي يتولى زمام قيادة الأمة.
وبيّن سماحته في بداية حديثه موطن الرخصة الشرعية التي يشير إليها الخبر الشريف الوارد في تهذيب الأحكام عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، والذي رواه علي بن السندي عن أبيه في سؤال الإمام عن رجل يأتيه من يسأله عن المسألة فيتخوف إن هو أفتى بها أن يشنع عليه، فيسكت عنه أو يفتيه بالحق أو يفتيه بما لا يتخوف على نفسه؟ حيث أجاب الإمام: السكوت عنه أعظم أجرًا وأفضل (تهذيب الأحكام/ج6/ص225/ح30)؛ مشيرا «حفظه الله» إلى أن هذه الرواية التي تفيد بجواز الافتاء بخلاف الشرع تتحدث عن التشنيع المؤدي إلى طيران رأس المفتي طبقا لفتوى الأئمة الأطهار، لا أنها تتحدث عن التشنيع بمعنى الغوغاء، وذلك بدلالة تتمة الرواية (بما لا يتخوّف على نفسه) وبدلالة رواية عطاء بن السائب التي تلت هذه الرواية برواية واحدة فوضحت أن المناط هو في زمن أئمة الجور.
وشدد الشيخ الحبيب على أن الحكمة تقتضي على المتصدي للإفتاء بحال خشية التشنيع عليه أن يلتزم الصمت، فضلا عن إشارة بعض الروايات إلى أن توضيح الأحكام الصحيحة فيه من الخير والصلاح ما هو أكثر، فعليه لا صحة لإعذار أي مدّع للمرجعية في هذا العصر حال اصداره أحكامًا بخلاف الشرع بحجة بغية إرضاء الطرف المخالف ومراعاة الوضع العام، إذ أن الحال في زماننا لم يصل بأئمة الجور على اجبار أحد ما بأن يفتي بما يريدون وإلا سيقتلوه.
وحول الإشكال الذي قد يرد بأنه ما المانع لو أن متصدٍ للمرجعية خاف على نفسه وخاف على الأمة فقال كلمة باطل دفعًا للخطر على نفسه أو على الأمة، كما فعل الأئمة الأطهار أنفسهم وكما أجازوا ذلك لبعض كبار تلامذتهم فأذنوا لهم بأن يفتوا طبقا لمذاهب أهل الخلاف؟ أجاب الشيخ الحبيب على هذا بأن الظرف الموضوعي يختلف عن حال ذلك الزمان كما أن حال الفقيه في عصرنا يختلف عن حال الإمام المعصوم وحال زمانه أيضا فلا مكان للقياس هاهنا، ومن يقول ذلك يكون بعيد تمامًا عن الصنعة الفقهية.
وإخراسًا للمشكلين استعرض سماحة الشيخ الحبيب قولا للسيد البجنوردي من (موسوعة القواعد الفقهية/ج5/ص79)، والذي زاد القول بأنه لا يحق لمن يرجع إليه في الفتوى بأن يفتي بما قد يتسبب في تلف النفوس وهتك الأعراض، معقبًا سماحته أن هذه الرسالة توجه إلى بعض المتفيقهين الذين كانوا داخل العراق وأفتوا بشرعية المشاركة في حروب صدّام التكريتي، كما أردف الشيخ الحبيب أن على أصحاب هذا المنطق الأعوج أن ينظروا أيضا إلى ما صنعه الأئمة الأطهار «صلوات الله عليهم» وأصحابهم الصالحين الذين مضوا في سبيل الاستشهاد بسبب اظهار الحق بدلا من اختلاق الرخص والمعاذير.
وفي المحاضرة التالية التي وافقت ذكرى مولد السيدة فاطمة المعصومة لسنة 1434 هجرية واصل الشيخ الحبيب هذا المبحث الفقهي المرتبط بتردي حال الأمة وعلوّها، مضيفا أن من الأدلة على ضرورة توفر خصلة الشجاعة في المرجع الحاكم ما جاء عن العترة الطاهرة بأن الشجاعة لابد وأن تكون من خصال المؤمن العادي، فمن الباب الأولى لذلك أن يكون توفرها شرطا بمن يتولى المرجعية والحكم.
وحول تعارض تلك الروايات بروايات أخرى تفيد بإمكانية أن يكون المؤمن جبانا ، فكّ الشيخ الحبيب «حفظه الله» هذا التعارض بالتأمل في نصوص مختلفة تتحدث عن بعض الموارد المستبعدة من خصال المؤمنين كالبخل وما شابه، منتهيا للقول بأن المؤمن من لا تكون سجيّته الجبن ولكنه قد يجبن أحيانا دون التفات منه فيلزم تنبيهه لغفلته.
وبخصوص الموضع الحساس اللازم توضيحه لعلاج الجرح بتطلب استعراضه نماذج من هذه الغفلة لمراجع عدول معاصرين، قرر الشيخ الحبيب ذكر النماذج دون تسمية الأشخاص لما يؤديه ذكر الأسماء من لغط، طالبا من المؤمنين فهم الموضوع بأريحية لتشخيص الأشخاص مع بيان سماحته أنهم مورد احترام وتقدير وأن من حق الرعية نصحهم وإرشادهم إلى ما هو خير.
فكان النموذج الأول من تلك النماذج ما فعله أحد مراجع قم المقدسة المعاصرين إذ أجاب بعد استفتاءه عن شرعية العمل مع أحد الأحزاب المنحرفة، بأنه لا يجيز ذلك والمستند عنده عدم كون الحزب المذكور حزب الله، لكنه بعدما رأى انهيال الضغوط عليه بسبب هذه الفتوى من جهة النظام الداعم لذلك الحزب وجماهيره قام بسحب فتواه وتبرير فعله بطريقة ما، وحول هذا النموذج علّق الشيخ الحبيب بأن هذا الأمر الذي وقع يوقع الأمة في مآسي تضيع الناس فيها بين الحق والباطل، فعلى صاحب الشأن أن يلتفت إلى أهمية مواجهة التحديات والقيل والقال بسعة النظر حال إصدار فتوى معيّنة من هذا القبيل وإلا فالحكمة تقتضي منه ترجيح السكوت في مثل هذه الموارد.
ومن جانبٍ آخر ختم سماحة الشيخ الحبيب المحاضرة الرابعة في هذه السلسلة بنموذج أكثر إيلامًا للقلب من النموذج الأول، والمتمثل بما صنعه أحد مراجع الشيعة المعاصرين في النجف الأشرف قبل سنوات، عبر أحد مواقفه التي صبت الذل على رؤوس طائفة المجد حيث أجاب بالحق على سؤال نشره أحد المواقع الرسمية التابعة له، وكان السؤال حول شرعية العمل بالعقيدة الإباضية (المتفرعة عن مذهب الخوارج في زمان أمير المؤمنين عليه السلام)، فكان جوابه بأن سائر العقائد المخالفة لعقيدة الشيعة الإثناعشرية هي عقائد باطلة ولا يجوز اعتناقها، وبعد أن التفت صاحب محطة فضائية تافهة لهذه الفتوى وأخذها ليصنع من خلالها ضجة مفتعلة أمرَ ذلك المرجع صاحب الفتوى بإزالة نشرها من ذلك الموقع بعد يومين فقط، فانتشى النواصب بتمكنهم من إنزال رأس مرجع أعلى للشيعة بأفعالهم فأخذوا بالتمادي أكثر على الشيعة، ساعين بذلك لدفعهم نحو التنازل عن ثوابتهم العقائدية.
وعلى هذا الأمر علّق سماحته أن بقاء تلك الفتوى كان سيتسبب بهداية جمع من المخالفين، بعد أن يتفكرون في عقيدتهم، مشبّهًا «حفظه الله» محاولة اخفاء هذه الفتوى بمحاولة اخفاء آيات من القرآن الكريم لأجل مراعاة الوضع العام مع اليهود والنصارى.
هذا وما تزال سلسلة الشيخ الحبيب حول الرؤية التجديدية لشرائط المرجع الحاكم مستمرة.