خلال محاضرة هي الخامسة(1) في السلسلة وعقبتها محاضرة أخرى سادسة(1) في الأسبوع الذي يليها، واصل سماحة الشيخ الحبيب إلقاء دروسه الأسبوعية من على المنبر الحسيني الشريف بمسجد السبط الثالث المحسّن الشهيد عليه السلام، مذكرًا سماحته المتابعين ببعض ما فات ذكره حول الرؤية التجديدية لاعتماد الشجاعة كشرط أساسي في المرجع الحاكم.
وتابع سماحته استعراض نماذج تصرفات بعيدة عن الشجاعة صدرت من مراجع معتبرين معاصرين أو قريبين عهدًا بيومنا الحالي، مسلطـًا الضوء على ما جرّته تلك المواقف من ارتدادات على واقعنا المعاصر بمآسي وابتلاءات، فكان الحديث في النموذج الثالث عن قصر نظر أحد المراجع العظام للطائفة الشيعية ممن وافتهم المنيّة في بداية الستينات من القرن الميلادي الماضي في قم المقدسة، إذ أراد ذلك المرجع اختراق أجواء المخالفين بأن ينحى نحوهم منحى التقريب فأسهم في تأسيس دار للتقريب بين الطائفتين في القاهرة وكانت تلك الدار تنتج مجلة مشتركة يسهم في اصدارها علماء من الشيعة والمخالفين، لكن الحال وصل به إلى أن قدّم تنازلا على حساب صوت العترة الأطهار فأصدر أمرًا بإيقاف طباعة أجزاء المطاعن الثلاث من موسوعة بحار الأنوار، ليحقق بالمقابل ما سماه البعض انتصارا بانتزاع اعتراف البكريين في الأزهر بالإسلام الشيعي على أنه المذهب الخامس!
وباختصار شديد بيّن الشيخ الحبيب أن هذه الخطوة أرجعت الأمة الشيعية عدة عقود من السنوات للوراء بدلاً من أن تحركها للأمام، لأنها مع شديد الأسف قد عطلت انتشار التشيّع عبر اخفاء الآثار والروايات التي تدين (أعداء أهل البيت) عليهم اللعنة والعذاب والتي تكشف باطلهم أمام أعين عامة الناس، فبقي المخالفون بسبب ذلك على ضلالهم وانخداعهم بتلك الشخصيات والعقائد الإسلامية الزائفة.
وفي نموذج رابع لمثل هذه المواقف المؤسفة كشف الشيخ الحبيب أن أحد خطباء المنبر الحسيني قد أخبره، نقلا عن أحد خطباء الجيل السابق بأن المرجع المظلوم السيد كاظم شريعتمداري، الذي كان من كبار المراجع في قم المقدسة والذي كان يقلده على الأقل عشرة ملايين نسمة، كان يمنع من يرتقون المنبر في منزله بأيام الليالي الفاطمية من الإشارة لإدانة شيخا الإثم والمنكر والعدوان المباشر على دار الزهراء البتول عليها السلام.
ثم استأنف سماحته استعراض الأدلة النصية التي ترجح وجود شرط الشجاعة بالمرجع الحاكم، مبيّنا أن من بينها ما عهده أمير المؤمنين «صلوات الله عليه» لمالك الأشتر حيث قال عليه السلام: لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعّفك عن الأمور، ولا حريصا يزيّن لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. (نهج البلاغة/ خطب أمير المؤمنين عليه السلام/ج3/ ص87)
وقوله عليه السلام في المورد نفسه: فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء. وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف. (نهج البلاغة/ خطب أمير المؤمنين عليه السلام/ج3/ ص93)
وعلّق سماحته على هذه النصوص بأنها تؤكد على ضرورة تطلب الشجاعة في الجندي الذي نولّيه أو نأخذ بمشورته، متسائلاً: فكيف لا تكون الشجاعة شرطا بالمرجع الحاكم، قبل أن ينوّه «حفظه الله» إلى أن من يقابل هذا المبحث بالإشكال والمناقشة فأنه لا يكون إلا غير متورّع أو غير متفقـّه.
وأضاف الشيخ الحبيب أيضا أن من الأدلة لهذا المطلب قول الإمام الصادق عليه السلام: إن السفه خلق لئيم، يستطيل على من هو دونه ويخضع لمن هو فوقه. (الكافي/ج2/ص322)، مشددًا سماحته أن منشأ السفه هو الجبن فلا يجوز لمرجع عام مبسوط اليد في إدارة شؤون المسلمين أن يخضع لمن هو أقوى منه في السلطة أو يلاحظ ميله نحوها، كما أكّد ذلك المرجع المعاصر آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله عند تعليقه على الشرائط الأخرى التي طرحها البعض كمتطلبات أساسية في مرجع التقليد، والتي من بينها عدم الصمم والخرس والعمى مع معرفة القراءة والكتابة والبعد عن كثرة السهو إلى جانب البعد عن السفه. (بيان الفقه في شرح العروة الوثقى/ج3/ص140)
كما أشار سماحته إلى أن السيد المرجع «دام ظله» كان قد أوصاه في جلسة جمعتهما معًا قبل رحيل المجدد الشيرازي الثاني «قدس سره» بهذه الكلمات الثلاث: (الله ، الشجاعة، الجذور)، في إشارة منه للدعوة إلى الإخلاص لله وتحمل المصاعب والمواجهة والعمل على الأصول والتنشئة الصالحة للجيل الجديد، فكانت هذه الكلمات عنوان لمقالة كتبها الشيخ بمجلة المنبر آنذاك، كما أوصاه السيد المرجع بعد ذلك بعبارة (لا لليأس ، لا للتحيّر، نعم للمشكلات) فصارت أيضا عنوانا لمقالة كتبها الشيخ ونشرت آنذاك، مما يدل على تشخيص السيّد «دام ظله» لداء الأمة وحرصه على إيجاد الدواء له.
وبشكلٍ سريع شدّد الشيخ الحبيب في ختام المحاضرة الخامسة على أن فقدان الشجاعة، بشكلٍ عام، لدى بعض من تولوا زمام المرجعية في العصر الحديث أدى بالأمة إلى التقهقر، فقد قاد ذلك الأعداء إلى أن يتشجعوا لهدم مراقد أئمة البقيع ويتفرعنوا على شعب البحرين الكبرى سابقا، ولاحقا بأن أقدموا على تفجير مقام الإمامين العسكريين عليهما السلام مرتين، فبنظرة سريعة للواقع المعاصر يجد المتأمل أن السبب الرئيس لفاجعة سامراء هو جبن بعض القيادات الشيعية الموجودة في العراق، إذ لم تصغ لنداء الدعوة لبسط اليد الشيعية على حرم الإمامين العسكريين حين سقوط نظام البعث وابتداء حالة الهرج والمرج خيفة المواجهة، فتـُرِك الحرم الشريف بأيدي النواصب إلى أن وقع ما وقع.
وفي الجزء السادس من هذه السلسلة أشار الشيخ الحبيب إلى أن لهذا المطلب موارد استدلالية في كتاب الله العزيز، سابقا ذلك بالتوضيح أن الشجاعة المطلوبة في المرجع الحاكم هي التي تكون في مقام الإفتاء وتحمّل العواقب، وأن وجودها من عدمه داخل في شرط الأعدلية، فما ينبغي أن ينظر إليه قبل تقليد مرجع ما هو الأعدلية أولا، ثم الأعلمية، ثم الأشجعية ثالثا، فإن كان المتصدي للإفتاء والقيادة فاقدًا للشجاعة من أساسها كان ذلك مخلاً بعدالته منذ البداية لأن الأمر سينعكس على مواقفه عند مواجهة التحديات فيؤدي باتجاه أمور المسلمين نحو التقهقر والانهزام الحضاري.
الشيخ الحبيب أفاد بأن من أدلة هذا المطلب في القرآن الكريم، الآية الكريمة: {ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} والتي جائت ضمن سورة البقرة، وتحدثت عن تنصيب الله لطالوت حاكما على بني إسرائيل، إذ أنها تدل على أن وجود الشجاعة في طالوت كان سببا رئيسيا لاختيار الله له للحكم، كما تعضد ذلك روايات العترة الطاهرة «صلوات الله عليهم»، مع وضوح عدم كون هيئة الهيكل الجسماني سببًا في أفضلية أحد ما على غيره كي يزكيه الله تعالى ويوليه حكم العباد.
وختم سماحته حديثه بأن بعض الفقهاء القدماء وبعض المعاصرين قد استنبطوا هذا الحكم من القرآن والسنة المطهرة مما جاء صريحا في النص ومما جاء بفحوى الآيات والروايات، لكنهم عبّروا عن هذا المطلب بعبارات أخرى مقاربة، قبل أن يرجأ البحث للمزيد من التفصيل حول أولوية الشرائط في المحاضرات القادمة.