متابعة لسلسلته البحثية بعنوان «رؤية تجديدية في شرائط المرجع الحاكم»(1)، استمر سماحة الشيخ الحبيب في الثاني والعشرين من ذي القعدة لسنة 1434 هجرية، وفي ذكرى استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام)، بإيراد المزيد من التوضيحات حول ما قد يُشْكِل به البعض من ردود مؤداها عدم القبول باعتماد شرط الشجاعة كملاك أساسي لاختيار الفقيه الحاكم الذي يجب أن تسلّمه الأمة زمام أمورها بعد أن ترى فيه إحراز العدالة والأعلمية، مع كون الشجاعة من عدمها في الإفتاء بالحق وتحمل العواقب مما يدخل في شرط العدالة قبل النظر في تحقق كافة شرائط الأولوية.
وبناءا على الأحاديث والآثار الشريفة عن رسول الله والعترة الطاهرة «عليهم الصلاة والسلام» أكّد سماحته أن ملاك الأعدلية يأتي في مقدمة الشرائط المنظورة لاختيار المرجع الحاكم قبل بقية الشرائط الأخرى، ثم يأتي ملاك الأعلمية، ثم ملاك الأشجعية، مستشهدًا «حفظه الله» بجملة من نصوص احتجاجات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على خصومه الأوباش الذين نازعوه الحكم، فكان من تلك الروايات ما جاء في كتاب الإمام علي بن أبي طالب ضمن رسالة له لمعاوية وقومه يدعوهم فيها إليه: ”ثم إن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا، أقربها من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين، وأولها إسلاما وأفضلها جهادا وأشدها بما تحمله الرعية من أمورها اضطلاعا. فاتقوا الله الذي إليه ترجعون، ﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون﴾ واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم، فإن للعالم بعلمه فضلا، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلا جهلا“. (المصدر: وقعة صفين لنصر بن مزاحم - الصفحة 149). وأوضح سماحته أن قوله عليه السلام ”وأفضلها جهادا وأشدها بما تحمله الرعية من أمورها اضطلاعا“ هو كناية عن تطلب ملاك الشجاعة فيمن يكون إماماً قائداً لهذه الأمة أو نائباً عنه في تسيير أمورها.
وبرواية أخرى تعضد هذا المناط أشار سماحته لما جاء في الخبر حول مجريات ما حدث بعد انقلاب سقيفة بني ساعدة إذ جاءت العصابة الانقلابية بقيادة عمر بن الخطاب لإكراه بني هاشم على البيعة لأبي بكر، فبايع منهم من بايع إلا عليًا عليه السلام إذ قال لهم: ”أنا أولى برسول الله حيا وميتا، وأنا وصيّه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم، أول من آمن به وصدّقه، وأحسنكم بلاءا في جهاد المشركين وأعرفكم بالكتاب والسنة وأفقهكم في الدين وأعلمكم بعواقب الأمور، وأذربكم لسانا وأثبتكم جنانا، فعلام تنازعونا هذا الأمر؟ أنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤا بالظلم والعدوان وأنتم تعلمون“. (المصدر: الاحتجاج للطبرسي - الجزء1 - الصفحة 95).
وشدّد الشيخ الحبيب على أن قول الإمام عليه السلام ”أثبتكم جنانا“ هو كناية لملاك الأشجعية أو لا أقل تطلب وجود الشجاعة في الحاكم، فضلا عن إشارته لحسن البلاء في مجاهدة المشركين والتي تومأ إلى المعنى ذاته. من جانبه توقف سماحته لشرح معنى قول الإمام ”وأذربكم لسانا“ ليبّين أن صفة النيل من أهل الكفر والضلال والإثم والعدوان بالحق عبر مقدرة لسان المرء، ما هي إلا صفة ممدوحة في موازين الأئمة الشرعيين من آل محمد، لا أنها صفة منفية وبعيدة عن أهل البيت الطاهرين «عليهم السلام» كما يحاول أن يوهم بذلك بعض الجهلة عوام الناس.
وفي ذكرى استشهاد الإمام الجواد عليه السلام حيث ألقى الشيخ الحبيب محاضرته الثامنة في هذه السلسلة؛ استعرض سماحته مزيدا من الأدلة على هذا المبحث، تابعًا ذلك بتوضيحات إضافية تهم طلبة العلم في الحوزات العلمية.
فكان من تلك الأدلة قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قؤول، وجنان على إقامة الحق صؤول. (المصدر: عيون الحكم والمواعظ - الصفحة 556). وبدليل أصرح على ضرورة تطلّب وجود الشجاعة في الحاكم الديني أشار الشيخ الحبيب «حفظه الله» إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام: ”أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه“. (المصدر: نهج البلاغة - الخطبة 173) وحول هذا النص أكّد الشيخ بأنه يفيدنا في عدم كفاية تقديم الأعلم للتقليد إن كان جبانا أو لم تكن فيه الشجاعة الكافية.
واستطرد سماحته أن شرط الشجاعة هاهنا ينبغي أن يدخل كملاك أساسي في تقرير مصير الأمور العامة للأمة الشيعية، فلو شئنا مثلا أخذ حكم الولي الفقيه الجامع للشرائط في موضوع الحرب والسلم وما أشبه أو تطبيق شورى الفقهاء للسيّد المجدد الشيرازي الثاني لذلك؛ فأنه يلزم علينا أخذ الحكم ممن تتوفر فيهم الشجاعة، أي أن يؤخذ الحكم من الولي الفقيه الشجاع أو من شورى الفقهاء المراجع الشجعان، وإلا فلنستعد للتقهقر إن سلّمنا الأمر لمن يخشى المواجهة والمصادمة في الحق.
وحول سؤال: كيف نكتسب الشجاعة ونربي أبنائنا عليها؟ أجاب الشيخ الحبيب أن مما ورد عن أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) أن الشجاعة كنور العلم الذي يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، إذ أشارت الأحاديث الشريفة إلى أن اكتساب الشجاعة يأتي بالعبودية لله واجتناب معصيته مع العمل بالواجبات والعلم المكتسب في سبيله؛ كما أفاد بذلك الإمام علي (عليه السلام) حين قال: ”السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها الله فيمن أحبه وانتخبه“. (المصدر: عيون الحكم والمواعظ - الصفحة 54).
وقبيل الختام استعرض الشيخ الحبيب جملة من الآثار الواردة في الهدي النبوي والمعصومي الشريف حول السبل الأخرى لتحصيل الشجاعة والتي من أهمها أكل السفرجل، منوّهاً سماحته إلى أن في كتاب الكافي باباً كاملاً في فضل السفرجل، وأهم ما ورد فيه هو أن رائحته هي رائحة كل الأنبياء والمرسلين «صلوات الله عليهم»، وأنه يشجّع الجبان.
وحول السؤال: كيف يمكن تشخيص الشجاعة في المرجع؟ أجاب الشيخ الحبيب أن تشخيصها أسهل من تشخيص الأعلمية والأعدلية، كما وجّه سماحته النصيحة للمتابعين بعدم الانخداع بكل من يظهر الشجاعة، إذ أن الشجاعة أمر قد يسير به بعض العلماء لأجل تحصيل الدنيا كما قد يسير بعضهم لتحصيل العلم أو الزهد.