برهانا على تسببها بتضعضع صورة المرجعية في العالم، ناقش سماحة الشيخ الحبيب على مدى ليلتين الفتوى المخالفة للحكمة التي أصدرها مكتب سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني «حفظه الله» بتاريخ 2 ذي الحجة 1434 هجرية، والتي يسأل فيها سائل شيعي عن خروج أحد المواكب الحسينية في ذكرى استشهاد الإمام الجواد عليه السلام باتجاه منطقة الأعظمية للهتاف بسب عمر وعائشة – على حد تعبيره – مع ختام رسالته بصياغة الاستفتاء: هل هذا العمل مدان من قبل المرجعية، وتضمين سؤاله بيان رؤيته الشخصية بأن هذا التصرف من شأنه أن يوقع فتنة عمياء بين الشيعة ومخالفيهم في العراق، والذين نعتهم بأخواننا أهل السنة – على حد تعبيره أيضا –، فكانت الإجابة عليه من قبل المكتب مختصرة بهذه العبارة: هذا التصرف مدان ومستنكر جدا وعلى خلاف ما أمر به أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم، والله الهادي.
الشيخ الحبيب شدد على أن أمثال هذه الفتاوى هي مما يضعف صورة المرجعية أمام المخالف، ويجعله يتشجع على الشيعة أكثر وأكثر، منزهًا سماحته نفس السيد السيستاني «دام ظله» من اصدار هذه الفتوى بهذا النص مع ورود علمه قبل ارسالها، مؤكدا أيضا أنها لم تضر سوى مصدرها ولم تجلب على الأمة الشيعية سوى المزيد من الويلات والمآسي والتصدعات الداخلية، قبل أن ينقضها سماحته بأدب مع حفظ مقام المرجعية الدينية من خلال نفس مباني ورؤى السيد السيستاني «حفظه الله».
وأرجع سماحته أسباب صدور هذه الفتوى إلى افتقاد وجود النفسية العالية والشـُجاعة التي كان يتحلى بها أسلاف عظماء الشيعة عند مقارعة الباطل، قبل أن يسرد عدة نماذج توضيحية من كتاب (الإفصاح للمفيد) وكتاب (الفصول المختارة للشريف المرتضى) و كتاب (الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني) لما جاء في سيرة شاعر أهل البيت «عليهم السلام» المعروف بالسيّد إسماعيل الحميري «رضوان الله عليه» والذي مدحه الأئمة الأطهار وأثنوا عليه، مع مواقفه العديدة في الجهر بالبراءة من أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء وصيه المرتضى وأولاده الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين»، دون التفاتٍ منه لأي وهمٍ قد يتوهمه بعض القاصرين.
وعقب الشيخ الحبيب على هذه المواقف بأنها مواقف رائعة ومشرقة في التاريخ الشيعي، فعلى من يريد إدانة السائرين بهذا المنهج والإنكار عليهم أن يدين بمسطرته أيضا أسلاف الشيعة، وإلا فليفصح بأن إدانته ناشئة إما عن الجبن أو الجهل أو الحسد.
وأضاف سماحته أن ما يخفف الوطء المؤلم من صدور هذه الفتوى هو أنها لم تنشر على الموقع الرسمي، لكنها بالنتيجة تعتبر فتوى صادرة عن المرجعية السيستانية فيكون المرجع السيستاني نفسه هو المحاسب عليها أمام الله يوم القيامة إن لم يحرّك ساكنا مع ما يراه من الفرح بها من قبل الجهات المعادية للتشيّع والجهات المنحرفة في داخل الوسط الشيعي، مشددا كذلك على أن هذه الفتوى تعرّض نفوس المؤمنين للخطر ولذا يلزم الدفاع عنهم بنقدها فضلا عن اتصال عواقبها السيئة على السذج والبسطاء ضد هذا المنهج والتيّار المبارك الذي يجهر أفراده بالبراءة من أعداء الله في الإعلام العام على مستوى العالم.
وأفاد الشيخ الحبيب أن أكثر ما يستغرب من صدور هذه الفتوى المفتقرة للحكمة هو توقف هذه المرجعية عن اصدار أي إدانة لتنظيم احتفال هلاك عائشة الأول قبل سنوات، مع اشتداد الضغوط والضجة المفتعلة آنذاك عليها لاقتناص شيء ما، بينما أصدرت هذا الموقف لإدانة هؤلاء الشباب الذين جهروا بالبراءة في الأعظمية في ظل ظروف أقل حجمًا في نسبة الضغوط والضجة المفتعلة على هذا العمل، مع كامل تفهّمنا للدافع الموضوعي في إصدارها.
واستطرد سماحته الحديث قبل عرضه نماذج من ردود فعل علماء أهل الخلاف على صدور هذه الفتوى، بأن المشكلة تكمن في بعض حواشي المراجع ومن يحيطون بهم، إذ قد ينقل أحدهم إلى المرجع ما هو خلاف الواقع الافتراضي فتصدر من المرجع مواقف لا يرتضيها رب السماء، وهذا الأمر الذي تسبب ويتسبب دومًا في سقوط هيبة المرجعية، وكمثال معاصر فقد اعترف أحد المعممين المنحرفين فيما أرّخه بنفسه بأنه كذب ذات مرة على أحد مراجع النجف الأشرف في شأن سيّد قطب، الذي حكمَ عليه جمال عبد الناصر بالإعدام، فقال لذلك المرجع أن هذا ليس هو القائل في أحد مؤلفاته بأن الإمام علي بن أبي طالب قد شرب الخمر وصلى بالناس سكرانا وإنما القائل هو أخوه، فجعل ذلك المرجع يكتب رسالة لعبد الناصر يدعوه فيها لإسقاط الحكم عن مثل هذا الرجل الخسيس.
وفيما تبقى من الوقت في الحلقة الثانية من سلسلة تعليقاته استعرض الشيخ الحبيب بعض ما نشره مشايخ الفرقة البكرية تعقيبا على صدور هذه الفتوى، إذ كتب المأبون عبد الرحمن دمشقية على سبيل المثال ما هذا نصه: ”الرافضة مثل جدهم إبليس، إذا رأى منك حزما وشدة رخا وخنس، وإذا رأى منك ليونة وميوعة اشتد ضدك وكبس!“؛ وما هذا نصه: ”يوم أن قامت الأمة ضد ياسر الخبيث سارع خامنئي إلى اصدار فتوى تندد، وبالأمس لما رأى السيستاني قوة ردة الفعل أصدر بيانا يستنكر فيه مظاهرة الأعظمية“؛ وما هذا نصه: ”أصدر السيستاني فتوى بعدم جواز إيذاء رموز السنة. هذا يدل على جبنهم وخستهم. كلما رأوا منا تساهلا زادوا في كفرهم وسبهم. فإذا قمنا عليهم خافوا.“ كما طالب بعضهم منه أن يصدر فتوى بتحريم البناء على القبور وإباحة غسل الرجلين في الوضوء!
وأعاد سماحته التذكير بما أورده بالتلميح في سلسلته (رؤية تجديدية في شرائط المرجع الحاكم) بما صنعه المرجع السيستاني قبل سنوات، عبر أحد مواقفه التي عبّر عنها الشيخ بأنها تصب الذل على رؤوس الشيعة، حيث أجاب السيّد «حفظه الله» بالحق على سؤال نشره أحد المواقع الرسمية التي تتبعه، وكان السؤال حول شرعية العمل بالعقيدة الإباضية (المتفرعة عن مذهب الخوارج في زمان أمير المؤمنين عليه السلام)، فكان جوابه حينها يفيد بأن كل العقائد المخالفة لعقيدة الشيعة الإثنا عشرية هي عقائد باطلة ولا يجوز اعتناقها، لكنه بعد أن التفت صاحب محطة فضائية تافهة لفتواه وأخذها ليفتعل من خلالها ضجة ضد الشيعة أمرَ «دام ظله» بإزالة الفتوى المنشورة من الموقع بعد يومين فقط، ما أدى لانتشاء النواصب لأنهم تمكنوا من إخضاع مرجع أعلى للشيعة لهم بأفعالهم، ثم أخذوا بالتمادي أكثر وأكثر على الشيعة، سعيًا منهم لدفع الشيعة نحو التنازل عن ثوابتهم العقائدية؛ وعلى هذا الأمر علّق سماحته أن الصحيح كان إبقاء تلك الفتوى في مكانها لأن ذلك كان سيتسبب بهداية جمع من المخالفين بعد أن يتفكرون في عقيدتهم، وشبّه سماحته محاولة اخفاء هذه الفتوى بمحاولة اخفاء آيات من القرآن الكريم لأجل مراعاة الوضع العام مع اليهود والنصارى.
وفي مساء يوم ذكرى استشهاد الإمام الباقر عليه السلام، الليلة التالية للمحاضرة الثانية في سلسلة التعليقات على الضجة المفتعلة ضد الشباب الرافضي البرائي، استأنف سماحة الشيخ الحبيب مناقشته بالتطرق لأحد الجوانب المشرقة في سيرة حياة الإمام أبي جعفر «صلوات الله عليه» في التعامل مع رعيته من الشيعة، والذين كان من بينهم أحد خلّص أتباعه وتلامذته وهو زرارة بن أعين، الذي جابه ابنه الإمام الصادق عليه السلام بالتمرد على ما اطلع عليه من صحيفة أحكام المواريث، فعامله الإمام الباقر بأبوية ورفق مصححا له فهمه المغلوط. (الكافي - الجزء 7 - الصفحة 94 - الحديث 3)
وعلى هذه الرواية علق سماحته بما مضمونه أثناء شرحها: ”أنها رواية ينبغي أن تكون عبرة للعوام والعلماء بمن فيهم مراجع التقليد، فيعرف من خلالها العوام أنه لا مستثنى من الانتقاد إلا المعصوم، ويعرف من خلالها مراجع التقليد وأي قادة في الدين، كيفية التعامل المطلوبة مع من يجدونه في نظرهم على خلاف الحق أو على خلاف ما الناس عليه“.
ثم بناءً على ما ورد في كتاب يحوي تقارير مكتوبة لدروس السيد علي السيستاني «دام ظله» أشار الشيخ الحبيب إلى ما أفاده سماحة المرجع السيستاني بأن التعارض في الأدلة بسبب التقية أمر نادر، فاعتراف سماحته في سياق ذلك بأن سبب كثرة الروايات التي تحكي مثالب ”أعداء أهل البيت“ عليهم اللعنة والعذاب ومطاعنهم في التراث الشيعي، هو أن الرواة والعلماء قد نقلوها إلينا مع تعمّد ترك التقيّة. (تعارض الأدلة واختلاف الحديث - الجزء1 - الصفحة 266)
وهنا عقّب الشيخ الحبيب على هذا القول قائلا: ”نحن نستفسر ما هي العلّة المنطقية لتعمّد الرواة والعلماء الشيعة ترك التقية؟ إن لذلك أربع احتمالات، فإما أن نقول أن موضوع التقية ليس متحققا في روايات المثالب والمطاعن، فنقل هذه الروايات لا يضر الشيعة فلأجل ذلك نقلت ووصلت إلينا، وهذا احتمال أول مردود، وإما أن نقول أن موضوع التقية الواجبة متحقق في شأنها وعليه ندين كل الرواة والعلماء الذين نقلوها إلينا ونقول بتأثيمهم، وهذا احتمال ثاني مردود، وإما أن نقول أن موضوع التقية في هذه الأحاديث متحقق ولكن خالفها الناقلون جهلا وغفلة، وهذا احتمال ثالث مردود، وإما أن نقول أن موضوع التقية متحقق في روايات المطاعن التي وصلت إلينا لكن العلماء والرواة نقلوها ودوّنوها في كتبهم لرجحان وغلـَبَة مصلحة النقل المتمثلة في (حفظ الحق) على مفسدة عدم النقل المتمثلة في (تعظـّم الباطل)، وهذا هو الاحتمال الوحيد المقبول.
وعلى هذا نقول أن هذا (الاحتمال) هو مبرر هؤلاء الشباب الذين خرجوا في مسيرة عفوية إلى الأعظمية بعدما رأوا أشلاء القتلى في التفجير الذي حصل أمامهم، فينبغي احترام اجتهادهم كما يجب احترام العلماء والرواة الذين نقلوا لنا روايات المثالب والمطاعن، فإذا ما اعترض معترض فقال: إن أولئك علماء وفقهاء وهؤلاء عوام وجهّال! قلنا: أنهم مقلدون لمراجع آخرين أحياء وعدول، فهناك من المراجع من يصحح عملهم ويراه صوابًا“.
وفي الختام استدل الشيخ الحبيب على تأييد آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله لهذا العمل المبارك، بما صدر منه في مواقف عديدة سابقة، ومنها دعوته الحكيمة لإقامة (أسبوع البراءة) الذي يعني به إظهار التبري من أعداء أهل البيت لمدة أسبوع كامل يبتدئ من ليلة التاسع من شهر ربيع الأول، وذلك لاظهار التبري من بعض الظالمين لأهل البيت الطاهرين الذين يوافق هلاكهم في ذلك الأسبوع، كالطاغية الثاني عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من المبتدعة والمنافقين الذين سعوا في هدم الإسلام من جهة؛ ومن ناحية أخرى لإبطال بدعة النظام الإيراني في الوحدة الإسلامية الزائفة والخالية من التمسك بحبل الله المتمثل في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام.