في سبع محاضرات من سلسلة ”البحوث القرآنية“ ردّ الشيخ الحبيب على شبهات أحد المنحرفين الذين تزيّوا بلباس الدين وسعوا لهدم الإسلام من الداخل، إذ تناول هذا المنحرف - في عدة جلسات - كتاب الله العزيز بالنيل منه بالاستهزاء والاستخفاف، فجاء رد الشيخ عليه حول كل نقطة أثارها من شبهات.
المحاضرات حملت الترتيب (23، 24، 25، 26، 27، 28، 29) من سلسلة محاضرات ”البحوث القرآنية “ التي خصصها سماحة الشيخ (حفظه الله) للذب عن القرآن الحكيم بتفنيد شبهات النصارى واليهود والملحدين وغيرهم من الملل الضالة، وقد نال البرنامج بشكلٍ عام استحسانا كبيرا من جمهور المسلمين بشتى طوائفهم، بمن فيهم أؤلئك المخالفين للشيخ في طرحه وعقيدته ومنهجه.
وفيما يلي تسلسل أقوال المنحرف وتعقيبات الشيخ عليها:
• ما الدليل على أن جبرئيل قد أتى إلى النبي (صلى الله عليه وآله)؟!
حيث استهزأ الرجل بالقول: ”هل طلب النبي ممن أتاه جنسيته أو بطاقته التموينية كي يتأكد بأنه جبرئيل؟ لعله ليس بجبرئيل وإنما شخصاً آخر جاء من الجن فأوحى إليه! “
تعليق الشيخ: ”هذا يعتبر جهلا بأبسط الأمور التي يعرفها أصغر طالب علم، إذ ما نطق به هذا الرجل هنا هو الكفر الصريح برسول الله (صلى الله عليه وآله)“.
• القرآن يحتوي على تهافت بلاغي!
تعليق الشيخ: ”فضلا عمّا سنورده من ردود على ادعاءات هذا الرجل، أنا تتبعته فوجدته لا يستطيع أن يلفظ الآيات القرآنية بشكل سليم، إذ هو ينصب المرفوع ويجر المنصوب وما إلى هنالك من التهافت، فكيف لهذا أن يخوض في المباحث البلاغية، وهو لا يعرف حتى التحدث باللغة العربية بشكل سليم؟! ثم أين هو عن علماء البلاغة من غير المسلمين، كالشاعر نقولا يوسف حنّا والأديب بولس سلامة؟! واللذان اعترفا بأن القرآن الكريم معجزة، كما أن من الملفت للنظر هو أن هذا الرجل جاهل حتى بمعنى البلاغة، فتراه يقدّم في كثير من الأحيان نماذجا يطرح فيها إشكالا معنويا ويسمّي ذلك إشكالا بلاغيا، وهذا ما سنوضحه بردّنا على نماذجه المطروحة“.
• لا يوجد مسحة من البلاغة في قوله تعالى: «وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ • الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ • يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ • كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ • وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ • نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ • الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ • إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ • فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ»!
حيث علّق هذا الرجل على هذه السورة قائلا: ”أنها سورة تتوجه إليها عدة إشكالات، مما يدل على ضعف المضمون البلاغي في القرآن – على حد زعمه – فمثلاً: الآية الأولى هنا تدين الهُمزة اللمزة ثم تفسر الآية التالية ذلك بأن المدان هو الذي يجمع المال ويعدّده، فالسؤال: هل أن جمع المال جريمة؟ كل إنسان حينما يحصل على المال فإنه يجمعه ويحسبه ليرى كم عنده من الأموال، فما ربط الآية الثانية بالآية الأولى؟! لا ربط بلاغي بين الآيتين، ولا داعي لكل هذه الشدة في الإدانة! فهذا من التهافت البلاغي!“.
تعليق الشيخ: ”الهمّاز هو الذي يكسر الناس حيث يقصد باغتيابه كسر شخصياتهم، واللماز هو ذاكر العيوب، ولكن على أي حال إشكال هذا الرجل سخيف، لأنه من قال له بأن الآية الثانية تفسّر الآية الأولى، كيف استنتج ذلك؟ لو كان هذا الرجل يفهم معنى البلاغة لقال أن هذه الآية في قمّة البلاغة؛ لأن الله (جلّت عظمته) لم يقل (ويلٌ لكل همّاز لمّاز) مع أن هذا هو المراد، وكلمة ”كل“ هنا تفيد الحديث عن كل كسرة وطعنة واغتياب، فهذه بلاغة في الوصف، أو في توصيف حال الشخص الذي هذه عادته، فمثلا الشخص الكثير الضحك يقال له ”ضحكة“ ولا يقال له ”ضحاك“، والشخص الكثير اللعب يقال له ”لعبة“ ولا يقال له ”لعّاب“ وهكذا، وعليه فالشخص المدان في السورة هو الذي يكون هذا الفعل عادة له، فضلا عن أنه ورد عندنا عن أهل البيت (عليهم السلام) بأن الهُمزة المقصود به في هذه الآية هو الشخص الذي يؤذي الناس بكلامه ويستحقر الفقراء، واللمزة هو الذي يلوي عنقه ويغضب ويتأفف حينما يشاهد الفقير والمسكين. (تفسير القمي - الجزء2 - الصفحة 441).
فعلى أي حال، لو أن القرآن قال (ويل لكل هماز لماز) لكان لأحد أن يشكل على ذلك، ولكنه استخدم تعبيرا بلاغيا في قمة الروعة، ثم أن الآية التالية ليست تفسيرا للآية السابقة وإنما هي متابعة لها في توصيف هذا المدان والمذموم، ولا اختلاف في أن جمع الإنسان ماله وتعديده لا ذنب فيه، ولكن المراد هنا بيان خسة هذه الصفة في سياق الذم، فلو أنك وجدت شخصا عنده مبلغ من المال وفي كل ليلة وكل صباح أو كل أسبوع يأتي ويجمع ماله ويعدده لقلت أن هذا من خسة النفس والافتتان والشغف بالدنيا؛ فهذا الانحطاط هو الذي أدانه الله (عز وجل) بهذه الشخصية التي هي تحديدا شخصية الوليد بن المغيرة (لعنه الله) الذي كان من ألدّ أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ كان يهمز ويلمز في شخص النبي الأكرم ويفتري عليه ويؤذيه بإشاعة الكلام عليه في مكة المكرمة مشعلا أجواء الطعن في نبوّته فنزلت هذه السورة في ذمه، وهناك قول آخر بأنها نزلت في حق الأخنس بن شريق والذي كان أيضا من عتاة مشركي قريش.
بالإضافة لهذا فقد ورد عن إمامنا الصادق أن المقصود بهذه السورة هم الذين يهمزون آل محمد ويلمزونهم حقهم ويجلسون مجلسهم أي أمثال: أبي بكر وعمر وعثمان وبني أمية وبني العباس ومن شابههم. (تأويل الآيات الظاهرة لشرف الدين الاسترآبادي - الجزء2 - الصفحة854)“.
• هنالك ضعف بلاغي في الآية: «يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ»؛ إذ هذا بعيد عن الواقع لأنه لا يوجد شخص يحسب أن ماله سيخلده بل الكل يعلم أنه سوف يموت!
تعليق الشيخ: ”هذا الإشكال لا يمكن تسميته إشكالا بلاغيا، بل هذا إشكال معنوي لكن هذا الجاهل لا يعرف الفرق بينهما، إذ أن البلاغة قد أوصلت إليك المعنى فما عليك إلا أن تناقش في هل أن هذا المعنى صحيح أم لا؟
فعلى سبيل المثال لو أن شخصا أتى بعبارة بليغة عن الثالوث المقدس لدى النصارى (الآب – الابن – الروح القدس) يوصل بها المفهوم الذي يريده، فإن البلاغي لا يقول له أن كلامك ليس بلاغياً لأن التثليث باطل، وإنما يقول له: الإشكال في صدق انطباق المعنى من عدمه.
ولو دقق هذا الرجل في الآية لوجد أن الكلام فيها بليغ ومؤدي لمعاني عميقة، فلو تفهّم طبيعة الأغنياء – بعد استثناء من يكون منهم عزيز النفس – لوجد أن الثري الذي عنده عادة جمع المال وتعديده يكون منهوماً بالمال وجمعه إلى درجة أنه ينسى حياته ويشعر بأنه كلما جمع المزيد فإنه سيُخلّد أكثر أو يعيش أكثر، فهذه المسألة بديهية فضلا عما يعززها في ثقافة العرب الجاهليين إذ أنهم كانوا يعتبرون الخلود في أمرين: المال والبنون؛ ولذا خلد بعضهم اسمه بالجود كحاتم الطائي وغيره في تلك الأزمنة حيث كانوا ينشدون الخلود بهذا المعنى.
فهنا يأتيهم الجواب الإلهي أن: كلا، لا فائدة في جمع المال للعيشة المادية للبدن أو المعنوية للاسم والذكرى مع الكفر، إذ النتيجة ستكون «لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» أي السقوط في النار التي سوف تحطم رأس الثري الكافر الملقى بها“.
• الآية تقول: «لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ»، أي من يجمع المال ويعدده سينبذ في الحطمة، والسؤال: لماذا سيُنبذ في الحطمة مع أنه لم يرتكب ذنبا، ما هذا إلا من الضعف البلاغي!
تعليق الشيخ: ”هذا الرجل غفل عن صدر السورة، إذ أنها تقول «وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ» أي أن من صفات هذا المنبوذ في الحطمة أنه يطعن في الناس أو أعراضهم، عبر التفحش في حقهم أو الافتراء والبهتان عليهم بنسبة المعايب لهم، كمن يطعن في رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمثل هذا ألا يستحق أن ينبذ في الحطمة؟
• من الضعف البلاغي في القرآن تكراره القول «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ» وتبعه ذلك بقوله «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ»، فلماذا لم يقل منذ البداية: «كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» ويختصر الموضوع؟!
تعليق الشيخ: ”هذا التعبير في قمة البلاغة، إذ أنه يوقع المعنى في نفس المتلقي المخاطب، بما يجعله يهتز من الأعماق، إذ سياق الآيات أشار إلى معنى ”الحطمة“ والمقصود بها أنها تحطّم الضلوع، فهذا التعبير يجعل المتلقي يرتعد من هذه النار فيهتز وجدانه ببلوغ هذا المعنى العميق وتأثيره في النفس، ثم يتهيّب أكثر بسماعه التكرار «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ» وبعدها قوله: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ»، أي نار الله المشتعلة فيجعل المتلقي يرتعد خوفا أكثر وأكثر، فهذا التخويف والتحذير من ارتكاب المعاصي هو من الحكمة الإلهية لإبعاد البشر عن الإقدام على الأمور القبيحة والمعاصي والكفريات، في مقابل الترغيب الذي يأتي بالروائع اللفظية لاستدراج المخاطب.
فأين الضعف البلاغي الذي يدعيه هذا الجاهل؟! ثم أن هذه الآيات يتبعها قوله تعالى: «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»، فهذا تعبير بلاغي عظيم جاء به سبحانه وتعالى بدلا من أن يقول بأن هذه النار ستحرق الأفئدة، فالتعبير الأول يجعل المتلقي يتخيّل هذا الموقف، أي إطلاع النار على قلبه وانقضاضها عليه لالتهامه، ولذا فسّر أبي ذر هذه الآية بعبارة دقيقة إذ قال: ”بشّر المتكبرين بكي ٍ في الصدور وسحب على الظهور. (تفسير القمي - الجزء2 - الصفحة441)“.
• من الضعف البلاغي في القرآن قوله: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ»، فمن هم بالنار فأنهم بالنار، فما الفائدة لو كان بالمكان فتحة أو كان مغلقا؟
تعليق الشيخ: ”هذا منتهى الجهل، فالآن نحن لو قلنا بأن هناك شخص قد وضع في التنور، وأطبق التنور عليه، أفلا يكون هذا دافعا للاهتزاز والارتعاب واستشعار مدى عذاب ذلك الشخص الملقى بالتنور لشدة احتراقه؟ أي التعبيرين أبلغ أن نقول وضعناه في التنور وأغلقنا عليه فتحة التنور؟ أم نقول وضعناه في التنور وتركنا الفوّهة مفتوحة؟“.
• من الضعف البلاغي في القرآن قوله: «فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ» فما هي التي تكون ممددة؟ هل هي النار أم الإنسان الهمّاز اللمّاز؟ فإن كان الإنسان فقل (في عمد ممدد) وإن كانت النار فهذا تعبير ضعيف، إذ كيف تكون النار ممددة؟
تعليق الشيخ: ”نعم النار تتمدد في الكناية هذا أولا، ثانيا: الممددة هي العُمُد، التي هي جمع عمود، وهي هنا صفة خاصة لما كان يسمى بالمقاطر، أي الأخشاب الطويلة التي تجعل فيها ثقوب لرجلي الإنسان المراد ربطه من وسطه إلى الأعلى بغرض إلصاقه بها لتعذيبه؛ فالله (تبارك وتعالى) يستعير هنا هذا التشبيه، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: ”ثم مُدّت العُمد وأوصدت عليهم وكان والله الخلود“. (بحار الأنوار - الجزء8 - الصفحة279) وعليه فأنه لا إشكال يتوجه إلى هذه السورة“.
• هنالك حكمة في نهج البلاغة لم يأت بمثلها القرآن الكريم، ألا وهي قول أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»: ”يا بُني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، و اكره له ما تكره لها، ولا تظلِم كما لا تحب أن تُظلَم، وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك...“ فأين هذا الكلام عن هذا الكلام: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ • إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ • فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ • الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»؟
تعليق الشيخ: ”قاتل الله الجهل، أولا: أن هذه الحكمة على فرض أنه لم يرد مثلها في القرآن فأن ذلك لا يخدش ببلاغة القرآن شيئا، فمسألة احتواء القرآن على بعض الحِكم المشابهة لما ورد عن المعصومين (صلوات الله عليهم) من العدم هذا موضوع آخر، وإضافة إلى ذلك فأن الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) والذي يستشهد هذا الرجل بقوله إعجابا ببلاغته، كان كثيرا ما يستشهد بآيات القرآن الحكيم، وهو الأمر الذي لا يقدر أن ينكره أحد، فعلي هو القرآن الناطق الذي يترجم لنا المعاني الواردة في القرآن فيفتح لنا بذلك أبواب فهم القرآن، لذا فأن حِكم الإمام ومواعظه وخطبه ورسائله وكلماته هي تفريعات عمّا تضمّنه كتاب الله العظيم.
ولو تتبّع هذا الجاهل المركّب آيات القرآن الكريم لوجد أن هذه الحكمة الطويلة قد جاءت بعدّة كلمات مختصرة في القرآن وتحديدا في سورة الإسراء، حيث قال الله تعالى: «إن أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»، فهذا السطر يتضمّن تلك المعاني في حكمة أمير المؤمنين مجتمعة، إذ هذه هي خلاصة القول، فهذه الكلمة في القرآن أبلغ وأفصح من تلك الحكمة إذ أنها أقصر وتؤدي المعنى ذاته.
وليست هذه الآية فقط تؤدي إلى المعنى نفسه، بل أن هناك آيات أخرى في القرآن توصل إلى نفس المعنى أيضا، كقوله تعالى في سورة الحجرات: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»، فهي تحث المرء أيضا على أن يجعل معاملته للآخرين خاضعة لميزان نفسه، ووجه الدقة مع الحكمة قوله: «وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ».
ثم أنه ما وجه المقارنة البلاغية بين هذه الحكمة وبين ما ورد في سورة قريش والمعاني مختلفة؟ من يريد أن يقارن نصين من جهة البلاغة فأن عليه أن يأتي بنصين متماثلين في المعنى“.
• ماذا تفيدنا سورة قريش؟ هذه سورة لا فائدة منها! حيث لسان حال هذا الرجل يريد أن يقول بأن هذه السورة لغو من القول، لا محصلة من وراءه.
تعليق الشيخ: ”هذه السورة في واقع الحال هي إعجاز في البلاغة، لكن هذا الرجل الأحمق يريد أن يشكل على المعنى، والجواب عليه أن لهذه السورة فوائد كثيرة، نعرض بعضا منها، فبعد البسملة التي تشير إلى صفة الله الرحمن أي المبالغ في الرحمة الشاملة لجميع المخلوقات، وصفة الرحيم أي الكثير الرحمة والملازم للرحمة، هذه السورة تخاطب قريش مباشرة وقد كان لها الأثر الكبير في إرشادهم إلى الله (تبارك وتعالى) الذي أنعم عليهم وآمنهم، فهي تذكّرهم برحلتهم في الصيف إلى الشام ورحلتهم في الشتاء إلى اليمن، حيث أن الله آلف رحلتهم وجعلهم في أمانه، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لأنهم سكان بيته الآمن، فكان العرب يغيرون على كل بلدة وقرية ويستثنون أهل مكة احتراما لبيت الله الحرام، وكذلك كانت قوافل قريش التجارية تنطلق بالراحة والطمأنينة دون مخاطر وأذى لأن سائر قبائل العرب كانت تحترمهم لمجاورتهم بيت الله الحرام الذي يؤدون إليه مناسك الحج، فالسورة تبدأ معهم بالآية «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» لتذكّرهم بهذه الألفة التي جعلها الله لهم في رحلتهم «إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ» مع كونهم أهل قرية في وسط الصحراء، فإنمائه «عز وجل» لتجارتهم بما صيّرهم منعّمين بمدينتهم التي أصبحت المدينة الأولى في شبه الجزيرة العربية، ثم تدعوهم إلى ترك عبادة الأوثان «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ» أي هذا البيت الذي هو سبب شرفهم وكرامتهم“.
• القرآن يقول: «الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ» فما فائدة قوله «مِّنْ جُوعٍ» طبعا الإطعام يكون من جوع ولا يكون من الخوف!
تعليق الشيخ: ”الله سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن لهم أن الإطعام جاء بعد خوفهم من الجوع الشديد، فقد كان العرب في الجاهلية عند حصول المجاعة يأكلون القد، والعلهز، والدم، ويشربون الماء الآسن الذي تلغ فيه الكلاب والدواب، كما كانوا أحيانا يأكلون جيف البشر، أي أنهم كانوا يقتاتون بأنجس الأشياء كما تشير لذلك الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الاحتجاجية على الطاغية أبي بكر، فبعد هذا أنعم الله عليهم بالإطعام بعد أن كادوا يموتون جوعا، فقوله «مِّن جُوعٍ» هو إشارة إلى هذا المعنى، مع تذكيرهم بالخوف الذي كانوا يعيشونه «وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» لأجل إيقاع الأثر المطلوب في نفوسهم وهذه هي البلاغة. فهذه السورة المباركة تمتاز بوزن غريب ونظم عجيب إذ فيها سبك خاص لا يمكن إيجاده بأي كلام آخر، فهي توقظ وتنبه السامع والمتلقي من العرب، بما يحرك الوجدان“.
• سورة الرحمن تحتوي على تهافت بلاغي، وعلينا تنزيه الله عن قول مثل هذا الكلام، فهذا من كلام البشر عبر ما يسمى بالوحي الوجودي، أي أن الله أوحى لرسوله محمد (صلى الله عليه وآله)، فجاء إلينا هذا الكلام بعد أن استوعبه النبي بهذه الطريقة فأوصله إلينا بهذه الألفاظ!
تعليق الشيخ: ”ما كنت أظن يوما أن أحدا يناقش في بلاغة هذه السورة، التي تتضح بلاغتها جليا باهتزاز مشاعر الإنسان عند قرائتها، ولكن فلنرى فضيحة هذا الرجل بتفنيد ما يقول“.
• القرآن يقول: «الرَّحْمَنُ • عَلَّمَ الْقُرْآنَ • خَلَقَ الإِنسَانَ»، وهذا تهافت بلاغي في الترتيب إذ كان ينبغي أن يقول أولا: «الرَّحْمَنُ • خَلَقَ الإِنسَانَ» ثم يقول «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» وليس العكس، إذ الإشكال هنا «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» لِمن، وهو بعده لم يخلق الإنسان؟!
تعليق الشيخ: ”هذا الجاهل لم يفهم أن تقديم التعليم على الخلقة باعتبارات أخر، فمن تلك الاعتبارات أن تعليم القرآن يشمل الجان والإنسان معا، إذ السورة تخاطب الإثنين، ولذلك ترد فيها هذه الآية «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، ومن تلك الاعتبارات أن الذي علّمه الله سبحانه وتعالى القرآن هو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ولذلك بدأ الله به وأفرده، ثم ذكرَ خلق الإنسان وتعليمه البيان، أي تمييزه عن البهائم لكونه منطقيا حيوان ناطق إلا أنه تطوّر بهذا البيان أي عبر لغات التخاطب والتفاهم التي أنعم الله تعالى عليه بها، وقد أشار الإمام الرضا (عليه السلام) كما في تفسير ”مجمع البيان“ إلى أن المراد بالإنسان هنا هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والبيان هو كل ما يحتاج إليه الناس.
وهناك تفسير ثالث للمجدد الثاني (قدس سره) يقول: ”أن تقديم التعليم على الخلق زماناً هو دلالة على جلالة العلم الذي لولاه لكان خلق الإنسان قليل الفائدة، فالعلم من العلل الغائية لخلق الإنسان، فكان من حقه أن يقدّم عليه، فهذه من البلاغة“.
• يقول القرآن: «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ»، هذا من الضعف البلاغي فلماذا هذا التخصيص والحال أن كل الكون يسجد لله تعالى؟
تعليق الشيخ: ”هذا التخصيص لاعتبارات عديدة، أولها: إن فسرنا النجم بهذه النجوم الموجودة بالسماء فأنه والشجر مشتركان بصفة الظهور أي البزوغ، فنجَمَ بمعنى ظهَرَ، وعليه فالنجم يظهر بالسماء أمّا الشجر فينجم بالأرض أي يظهر منها، فجاء ذلك للمقابلة بين الأرض والسماء بإفراد النجم والشجر بالسجود وهذا اعتبار بلاغي جميل.
وثانيها: فسرت الروايات الشريفة النجم برسول الله (صلى الله عليه وآله)، والشجر بأمير المؤمنين والأئمة من ذريته (عليهم السلام)، ولذلك جاء قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»، أي أننا نهتدي برسول الله الذي هذا هو أحد ألقابه، فرسول الله النجم والشجر هم الأئمة الإثنا عشر، وهما يسجدان لله تعالى، فهذا اعتبار بلاغي ثاني.
وثالثها: أن النجم هنا بمعنى النبات الذي لا ساق له، فالعشب في اللغة يسمى ”نجم“، أما الشجر فهو النبات الذي له ساق، فعلى هذا يكون المعنى أن الأرض كلها تسجد لله، فهذا اعتبار بلاغي ثالث“.
• القرآن يقول: «وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ»، والحال أن السماء والكواكب والأجرام والنجوم لم ترفع، بل هي موجودة في مكانها بينما نحن موجودون بكوكب الأرض الصغير وسط المجرات، فهذا إشكال بلاغي يتوجه إلى القرآن!
تعليق الشيخ: ”هذا الجاهل لم يستوعب أن رفع السماء هنا ناظر إلى الإحساس، أي إحساس البشر على كوكب الأرض فالسماء عالية ورفيعة عليهم، وحينما يريدون أن يصفون أحدًا بعلو القدر فأنهم يقولون هو كالسماء في قدره أو منزلته، أي هو مرفوع.
فهل نقول للشعراء الذين استخدموا كلمة ”السماء“ بمعنى ”الرفعة“: أنكم مشتبهون، وتعالوا تعلموا من هذا الجاهل بأن هذا خطأ بلاغي؟! وكذلك الحال مع الأرض فهي بقياس المنظومة الكونية ليست موضوعة أو دنيّة، لكنها بالنسبة إلينا كذلك لأننا نطؤها، فلذلك عبّر الله تعالى عنها في نفس السورة بقوله: «والأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ»، فهذا تعبير بلاغي عميق“.
• يقول القرآن: «ألّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ • وأقيموا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» فلماذا هذا التكرار المخل بالبلاغة؟
تعليق الشيخ: ”للتكرار اعتبارات كثيرة، منها التوكيد، والذي إذا دخل في البلاغة فأنه يعطي الكلام مذاقا آخر، ثم أن المعنى من لفظ الميزان في كل مقطع يختلف، فحينما قال سبحانه: «وَوَضَعَ الْمِيزَانَ» فأن المراد هو أنه وضع الشرع بمعنى العدل، ثم المراد من قوله «أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ» هو أنه حين يكون الميزان عندكم سواء هذا الميزان المادي أو المعنوي فعليكم ألا تطغوا فيه، أي لا تظلموا، ثم تأتي الآية «وأقيموا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ» بمعنى لا تبدلوا شريعتكم أو منهجيتكم إلى منهجية جور فتُخسروا الميزان بالتطفيف أي بالتلاعب وإظهار العدل للناس، وبعبارة أخرى أي لا تغلّفوا الظلم بالعدل. ثم أنه على فرض كون المعنى واحدا في كل المقاطع، فإن التوكيد في حالة الزجر له محله في البلاغة؛ وذلك لأن الأمر شنيع جدا“.
• هنالك ضعف بلاغي في قوله: «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ • خلقَ الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ كالفَخَّارِ • وخلق الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ»؛ لأن المخاطب هنا هو الإنس والجان، ولكن المتلقي كيف يفهم من المراد بقوله «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»؟ هو هنا يحتاج إلى أن يواصل القراءة حتى يعرف بعد ذلك لمن يعود الضمير؟ فهذا تهافت بلاغي، والصحيح هو أن يأتي توضيح من هو المخاطب أولا ثم الإتيان بالخطاب الموجّه إليه.
تعليق الشيخ: ”هذا الرجل غفل عن أن ذكر الإنس والجان قد جاء قبل الآية الكريمة «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» في السورة، إذ سبق هذه الآية قوله: «وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ»، والأنام هما الإنس والجن لأنهما العاقلان في الأرض، ثم بعد ذلك جاء التفصيل عن خلق الإنس والجان، فأين هو الضعف البلاغي هنا؟! والحال أنه في هذه التثنية تتجلى البلاغة“.
• يقول القرآن: «خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ»، فهذا ضعف بلاغي لأن الصلصال هو الفخار وكلاهما بمعنى الطين الجاف المحمّى على النار!
تعليق الشيخ: ”هذا من جهل هذا الرجل، فالصلصال هو الطين اليابس الذي له صلصلة أي له صوت يتردد عند الوطء عليه، أما الفخار فهو الطين اليابس أي الخزف الذي يتشكل بهيئات مختلفة، فالكناية هنا تشير إلى شدة يبوسة هذا الصلصال أي الطين اليابس الذي خلق منه الإنسان، أما كلمة الفخار فتومئ إلى الهيئة والشكل، ومعنى ذلك أن خلقة الإنسان تمر بعدة مراحل فتبدأ تراب، ثم طين، ثم يتغيّر هذا الطين ليصبح حمأ مسنون، فأين هو الضعف البلاغي؟!
• يقول القرآن: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» وهذا ضعف بلاغي لأنه في موضعٍ ثانٍ يقول: «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وموضع ثالث يقول: «رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»، فالآن هم كم مشرق؟ هل هما مشرقين أم هو مشرق واحد؟
تعليق الشيخ: ”هذا من الجهل العجيب والغريب، فكل مفردة لها معنى مختلف، فمعنى المشرق هو جهة الشرق، ومعنى المشرقين هو مشرق الشمس في الصيف ومشرقها في الشتاء، لأن موضع الشروق يتبدّل ويتغير في الفصلين وكذلك موضع الغروب.
أما المشارق فتعني مشارق الشمس في الأجرام السماوية، إذ ثبت فلكيا أن الشمس تشرق وتغرب على أبراج السماء، فهذا مما يدل على إعجاز وبلاغة القرآن. ولو أن هذا الجاهل رجع إلى التفاسير المعتمدة على روايات أهل البيت (عليهم السلام) لما أنكر المحسوس، إذ قد أجاب هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ”فإن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدة، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟ وأما قوله: «رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ» فإن لها ثلاثمئة وستين برجا، تطلع كل يوم من برج، وتغيب في آخر، فلا تعود إليه إلا من قابل في ذلك اليوم“. (الاحتجاج للطبرسي - الجزء1 - الصفحة 386).
ثم أنه لو ذهب إلى مصر لوجد أن من جملة ما اكتشفوه في آثار الفراعنة، معبد فيه نافذة يدخل منها ضوء الشمس وبه ثلاثمئة وستين سارية أو عمود، وهناك لوحة عليها رسم ذلك الحاكم أو الملك الفرعوني، والشمس تشرق وتغرب يوميا على ذلك المعبد، وفي يوم ميلاد ذلك الفرعون يقع شعاع الشمس على رسمه أو قبره. فالمهندسون بحساباتهم الرياضية عرفوا أن للشمس مشارق ومغارب مختلفة، فصنعوا ذلك لهذا الملك أو الحاكم وهذه ليست بمعجزة بل هذا يعني أن للشمس مشارق ومغارب بلحاظ الأبراج السماوية“.
• يقول القرآن: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ • بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ • فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، وهذا ضعف بلاغي إذ أين هذان البحران المالح والعذب حسب التفاسير؟ العلماء إلى الآن لم يكتشفون ولن يكتشفون هذا الموقع الذي فيه مرج البحرين، هذا أولا، وثانيا: أي نعمة على الإنس والجان بهذا حتى يقال لهما «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» هذا كقوله (إنا خلقنا الدينصورات فبأي آلاء ربكما تكذبان!).
تعليق الشيخ: ”هذا أيضا من شدة جهل هذا الرجل، إذ أن دورة الحياة والكون مترابطة في النعم على الإنس والجان قديما وحديثا، فضلا عن إننا الآن نتنعم بنعم بسبب خلق الدينصورات، فالكهرباء تعتمد على النفط، والنفط سببه تحلل الدينصورات وغيرها من الكائنات الحية منذ آلاف السنين في باطن الأرض.
ثانيا: هذا الجاهل لا يعرف أن البشر اكتشفوا مرج البحرين اللذان يلتقيان وبينهما برزخ لا يبغيان، أي لا يدخل المالح على الحلو والعكس، فهذا ما رواه لنا أجدادنا في الخليج وهو غير بعيد، حيث كانوا يذهبون للغوص وصيد اللؤلؤ ويسافرون عبر البحار إلى الهند، فذكروا في أسفارهم ورحلاتهم الطويلة أنهم كانوا يحتاجون للماء العذب كي يشربوه، وكانوا يعرفون مواضع في قاع البحر ينزل إليها الغواصون فيجلبون منها الماء العذب الذي ينبع من باطن الأرض داخل البحر، والنعمة الإلهية في بقاء المائين معًا، إذ كما نحتاج للماء العذب وأن لا يفسده الماء المالح فأننا كذلك نحتاج للماء المالح أيضا بأن يبقى ولا يطغى عليه الماء العذب.
ثالثا: ما هذا الجهل، فأنه على فرض أن البشرية لم تقف على تفسير مرج البحرين المالح والعذب كما تضاربت أقوال الأدباء والمحققين في المراد من بعض حِكم ومواعظ أمير المؤمنين «عليه السلام» لكون الكلام البليغ قد يحمل أوجه عدّة، أو أن البشرية لم تكتشف هذا الموضع، فهل هذا يكون معناه الضعف البلاغي؟!“.
• يقول القرآن: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ • فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» وهذا ضعف بلاغي؛ لأن اللؤلؤ والمرجان للأغنياء فقط وليس للفقراء والعرب الجاهليين، والذين لم يروا اللؤلؤ والمرجان، فكيف يمن عليهم بهما، وكذلك كيف يمن على الجن بهذه النعمة إذ أنه لا يحتاج إلى اللؤلؤ والمرجان كي يلبسهما!
تعليق الشيخ: ”هذا الجاهل يظن أن القرآن في أسراره ومعانيه مقتصر على أهل الجاهلية، مع أن أهل الجاهلية قد رأوا اللؤلؤ والمرجان وإلا كيف أطلقوا عليه هذه التسمية أيها الغبي؟ فالتاريخ يحدثنا أن اللؤلؤ والمرجان كانا متوفران في زمانهم، وأن الانتفاع بهما لم يقتصر على لبسهما فقط بل يشمل التجارة فيهما أيضا.
ثانيا: على فرض أن أهل الجاهلية لم يروا اللؤلؤ والمرجان فإن القرآن يخاطب البشرية من أولها إلى آخرها، فأهل الخليج مثلا انتفعوا باللؤلؤ وقد كان في فترة معيّنة مصدر رزقهم الوحيد، فمن يقرأ منهم هذه الآية له أن يقول: ”إلهي حمداً وشكراً لك على هذه النعم، هذه آلاء معيشتي“.
ثالثا: ما أدراك أن الجن لا يلبس اللؤلؤ والمرجان؟ الجن مخلوق غيبي، بعض جوانبه كشفها الله وبعضها لا نعرفه، فهل أن الله سبحانه وتعالى موظف عندك حتى يفصّل الأمور؟ إن منّ الله على الاثنين هنا لا بد من التسليم به وإن غابت عنّا حقيقة الانتفاع، فأين هو الإشكال البلاغي إن كان هذا الإشكال على المعنى؟!“.
• يقول القرآن: «كل مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ • ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ»، فهنا يهدد أن سنفنيكم يا أهل الأرض يا معشر الجن والإنس، فكيف يمن عليهم بالموت؟ فهذا ضعف بلاغي.
تعليق الشيخ: ”إنّ الفناء نعمة، أما للمؤمن فهو ينقله من سجن الدنيا إلى رحاب الجنة، وأمّا للعاصي فهو أيضا نعمة لأنه ينتقل من الدنيا إلى الآخرة قبل أن يزداد إثما بسبب عمره، فالعاصي أو الكافر الذي يموت وعمره ستون سنة حينما يقابل العاصي أو الكافر الذي مات عن عمر ثلاثون سنة يقول له: ليتني كنت مثلك ليكون عذابي أقل.
ثم أن هناك وجه ثاني وهو أن هذا التهديد بالفناء ينطوي على الحياة المسبوقة والتي كانت نعمة على الإثنين، ووجه ثالث وهو أن هذا التهديد بالفناء يرشد إلى ضرورة الالتفات إلى انقطاع الحياة يومًا ما، فعلى المتلقي اللجوء للتوبة والصلاح وتحصيل الثواب العظيم للفوز بجنة الخلد، فهذا التهديد هو من الآلاء، ولا إشكال بلاغيا في هذه الآية“.
• يقول القرآن: «سنَفْرُغ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ • فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، وهذا تشبيه بالإنسان كالذي يقول أنا لست فارغا لك الآن، فكأن القول أن الله مشغول حاليا وتاليا سيتفرغ لكم، ثم يمن عليهم، فهذا من التهافت البلاغي!
تعليق الشيخ: ”انظر إلى هذا الفهم السقيم للآيات من هذا الأبله، أولا: المعنى هنا كناية ومجاز أي أن الأمر الوحيد سيكون هو محاسبتكم ولا تدبير إلهي آخر غير الحساب وتوابعه بعد انقضاء الحياة الدنيا وانقضاء البرزخ، فهذا مجاز بلاغي ليستشعر المتلقي الرهبة من ذلك، وليس المعنى أن الله الآن مشغول وسيتفرغ لكم لاحقا.
ثانيا: المن هنا له وجهه، فالمؤمن سيجازيه الله على أعماله بالخير ويرزقه الجنة، وأما العاصي والكافر فأن هذا الزجر سيجعله من الآن يرتدع فيرجع إلى صوابه ويهتدي، بينما عدم النهي سيوقعه بالعذاب“.
• يقول القرآن: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ»، فسّر بعض مفسري المسلمين النفوذ من أقطار السماوات والأرض بالصواريخ، ولكن التتمة تقول: «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ • يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ»، والآن علماء الغرب قد طيّروا الصواريخ إلى القمر وإلى المريخ ولم تأتيهم شواظ من نار ونحاس فعليه هم قد انتصروا على القرآن، فليس في هذا إعجاز!
تعليق الشيخ: ”هذا يحتج علينا بتفاسير متأخري المخالفين، ولكن لو رجع إلى تفاسير أئمتنا «صلوات الله عليهم» لاتضح له المراد، فالمقصود هنا بالنفاذ في السماوات والأرض لا هذه التي نستشعرها الآن، فهذه سماء الدنيا ولكل سماء أرضا تحيط بها وبينهما فجوة، فنحن نقول في الدعاء مثلا: ”اللهم رب السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما“ فهذه الحقائق لم تكشف بعد ولم يطلع عليها العقل البشري، وننتظر أن يكشفها لنا الإمام الحجة المهدي «عجل الله فرجه الشريف» في زمان ظهوره المبارك.
ثم أن سياق الآيات واضح إذ سبق هذه الآية قوله: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ» فهذه الآية تتحدث عن موقف خاص بيوم القيامة، وليس عن هذه الدنيا، إذ تشير روايات أئمة الوحي بأن الإنس والجان سيحاطون بالنيران ويقال لهم ما مضمونه أن انفذوا من النار إن كان لكم مهرب تستطيعون أن تفروا منه، ولا تنفذون إلا بسلطان أي إلا بشفاعة حجة الجواز على الصراط وهي ولاية علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهما)، فإن حاولتم النفوذ دونها يرسل عليكم شواظ من نحاس فلا تنتصران. (راجع تفسير مجمع البيان - الجزء 9 - الصفحة 342)
• يقول القرآن: «فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ»، فهنا إشكال بلاغي لأن هذا التشبيه غير معقول!
تعليق الشيخ: ”أولا: لقد غفل هذا الرجل المنحرف أن التشبيه ليس بالضرورة أن يكون معقولا، ثانيا: إن كان يقصد أنه لا تجانس بين السماء المنشقة والمشبّه به أي الوردة، فهذه أيضا من الحماقة لأن الآية تتحدث عما سيجري في يوم القيامة وتتحدث عن أن السماء ستنشق وتظهر بصورة وردة حمراء مذابة كالدهان أو كالأديم الأحمر.
والمراد من هذا التشبيه هو بيان عظمة هذا اليوم وكيف أن نار جهنم ستتوهج أمامنا بحيث تظهر في السماء فيكون مركز السماء كمركز الوردة التي يشابه مركزها مركز تفاعل النار الذي يكون أقرب للون الأصفر أو البرتقالي، فعلى أي حال هذه اللوحة ستتشكل والأمر غيبي سنراه يوم القيامة وهذا التشبيه من الناحية البلاغية تام وصحيح، وعلى هذا الجاهل أن يعلم أن مثل هذه الصورة قد وجدت في زماننا بما يعرف بالسديم الكوكبي وقد التقط الصورة علماء الفلك بواسطة تلسكوب هابل، ويتضح فيها انفجارا كبيرا يحوي بداخله تكثفا للغازات المنبعثة لبعض المواد المحترقة التي قد تتشكل منها فيما بعد نجوم أو كويكبات بالمجموعة الشمسية، وقد وجدت هذه الصورة بالفعل كالوردة المتمددة أو المذابة كالدهان، فهذا التشبيه حقا في غاية البلاغة.
ثالثا: لو رجع هذا الرجل إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) لأتضح إليه المراد من هذا التشبيه في الآية الكريمة، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ”إذا كان يوم القيامة دعي برسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكسى حلة وردية، فقلت: جعلت فداك: وردية؟! قال: نعم، أما سمعت قول الله عز وجل: «فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ»؟ ثم يدعى علي فيقوم على يمين رسول الله ثم يدعى من شاء الله فيقومون على يمين علي، ثم يدعى شيعتنا فيقومون على يمين من شاء الله، ثم قال: يا أبا محمد أين ترى ينطلق بنا؟ قال: قلت: إلى الجنة والله، قال: ما شاء الله“. (المحاسن للبرقي - الجزء1 - الصفحة 180)
فهذا ما سنشاهده يوم المحشر، إذ سيتطلع الإنس والجان إلى سماء القيامة فإذا بتلك السماء تنشق وتظهر كوردة كالدهان يكون في مركزها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وبسبب إكسائه حلة وردية فإن أشعة أو ظلال تلك الحلة تنعكس على السماء فتصبغها بهذا اللون فتتكون لوحة الوردة ذات الدهان“.
• يقول القرآن: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ • فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، وهذا الكلام مخالف للبلاغة لأنه يمنّ عليهم بالآية الثانية بينما الآية التي سبقتها تتحدث عن التهديد، فكيف تهدد شخص ثم تمنّ عليه بتهديدك؟ هذا خطأ بلاغي!
تعليق الشيخ: ”يصحّ المن بهذا التهديد لأنه يمثلّ تحذيراً لك من أن تصبح مجرماً فتعاقب، فهذا التحذير هو نعمة عليك كي لا تقع في العذاب، فمثلا أنا حينما جئت إلى لندن ركبت السيارة فحذرني ذلك الرجل الذي أقلني بسيارته بأنه يجب عليّ في هذه البلاد أن أربط حزام الأمان وإلا فأني سأجرّم وأغرّم على ذلك، فحينها قلت له شكراً وجزاك الله خيراً لإنعامك عليّ بهذا التحذير، فلولا تحذيره لربما قد أُدِنتُ بسبب عدم التزامي بهذا الأمر. فأين ما يخالف البلاغة في هذا؟!“.
• يقول القرآن: «فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ»، وفي هذا إشكال بلاغي، فهنا الحديث عن الجنة وأن فيها الحور العِين اللاتي لم يجامعهن إنس، ولكن لماذا يمن علينا بإضافة «وَلا جَانٌّ»؟، لا ميزة في ذلك إذ حتى نساء الدنيا لم يجامعهن جان، فإضافة «وَلا جَانٌّ» هنا لماذا جاءت، هل جاءت لأجل السجع مثلا؟
تعليق الشيخ: ”الآيات تخاطب فئتي الإنس والجان معاً من المؤمنين، وتعدّهما بالثواب في جنة الخلد، وعليه فالمعنى أن الحورية التي تكون من نصيب الإنس المؤمن فحالها أنها لم يطمثها إنسان قبله أي تكون بكراً، والحورية التي تكون من نصيب الجان المؤمن فإنها كذلك لم يطمثها جان قبله، والآيات تكرر «فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»، والتكرار كما يقال يعلّم الحمار - إلا أن هذا الغبي لا يفهم - ولذا فليس في هذا إشكالا بلاغياً بل إشكالا معنوياً إن صح فهمه.
ثم دعواه أنه لا يمكن للجن مواقعة الإنسية على نحو الإطلاق محل نظر وتأمل، ففي بعض الروايات الشريفة ما قد يفهم على أن ذلك قد يتحقق على نحو الاشتراك، كأن يشترك بعض الجان الأشرار مع الرجل حال مواقعته إمرأته إن كان ناصبا أو كافرا أو زانيا وما أشبه“.
• يقول القرآن: «الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ • الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ • الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ • يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ • نُّورٌ عَلَى نُورٍ • يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» وهنا ضعف بلاغي، إذ المبتدأ كان جميل «الله نُورُ» ولكن ما جاء بعد ذلك كان تحجيما وتشبيها بما هو أتعس لا بما هو أحسن، إذ شبّه نور الله العظيم بنور مصباح في زجاجة كالفانوس، والذي تنحصر إنارته لمستوى مادي محسوس بحجم الحجرة، ثم قال زيتونة لا شرقية ولا غربية ولم يبق سوى أن يكمل فيقول: ”جمهورية إسلامية“!
تعليق الشيخ: ”أن معنى المشكاة هو الكوّة أي الثقب الذي يكون في الجدار ولكن لا نفاذية له لدخول الضوء الخارجي، وإنما هو نافذة يوضع بها السراج ويجعل عليها زجاجة حتى تحفظ المصباح من الرياح فلا ينطفئ النور بل يزداد توهجاً، لأن الضوء حينما يتوسط الزجاج فأنه يتلألأ ويضيء أكثر وهذا السر في إحاطة المصابيح الكهربائية بالزجاج، أما المصباح فكلمة مشتقة من الصبح وإضائته، ولهذا فأن هذه الآية تعتبر من روائع إعجاز بلاغة القرآن الكريم وفصاحته إذ هي تأتي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريب المعنى إلى الأذهان، كما لا نغفل أن القرآن في كثير من الأحيان يفسّر بعضه بعضا فمن يكون ذهنه نيّراً يضم هذه الآية إلى بقية الآيات المتحدثة عن نور الله ليصل إلى المقصد منها، مع التأمل في أن الضياء لا ينبعث من المشكاة، لكننا وجدنا الآية تقول: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ» ولا تقول «مثل نوره كمصباح في مشكاة» فما سبب ذلك؟
السبب: هو أن الله تبارك وتعالى أراد بتشبيهه نوره بالمشكاة أن يومئ بأن نوره محفوظ لا يتمكن أحد أن يطفئه، فقد ورد في آية أخرى: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»، وكذلك قوله: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»، ثم يقول أن هذه المشكاة فيها مصباح والمصباح في زجاجة تحفظه؛ فهنا حفظ ثاني، ولذا دخلت كاف التشبيه على المشكاة لأنه لو تحدث عن المصباح مباشرة فإن ذلك سيلغي الإشارة الأولية لحفظ النور، ثم أنه يبيّن أن نور المصباح الذي يكون في تلك الكوّة مع إحاطته بغلاف زجاجي يكون نورا محفوظا على أتم وجه، إذ كانوا في السابق يحافظون على المصباح بهذه الطريقة فيبقى لأطول مدة ممكنة، كما أن هذا التوازي يدل على شدة الضياء ويقرّب هذا المعنى قوله سبحانه: «نُّورٌ عَلَى نُورٍ».
ثم تأتي الإشارة إلى (الكوكب الدري) فهذا يطبع في الذهن تشبيها عظيما للمشكاة فيبيّن أن هذا (النور على نور) وهّاج ومتلألأ ودائم الاتقاد والاتصال ولا ينحصر باتجاه معيّن فيضيء السماوات والأرض بل لا حدود له، وفي هذا التشبيه إطلاق يفيد بشدة الضياء والمعنى أنه يهدي جميع من في السماوات والأرض، ويضاف إلى المعنى أن هذا النور صافٍ وغير مشوب، بدلالة كلمة الزجاجة التي لا تعتم النور ولكن تزيده ضوء. ثم يأتي بعد ذلك التأكيد على نقاء مادة هذا النور، بدلالة كلمة (الزيتونة) لأن زيت الزيتون كان يستخدم في إشعال السراج وما أشبه لإيقاد الأنوار، وهو أفخم أنواع الزيوت وأصفاها وأحسنها، ثم تأتي نقطة بلاغية أخرى بيانا للمعنى وهي تحديد نوع الشجرة بأنها لا شرقية ولا غربية، فالشجرة الزيتونية الشرقية هي التي تشرق عليها الشمس فقط ولا تغرب، والشجرة الزيتونية الغربية هي التي يقع عليها ضياء الشمس حال الغروب فقط، أما الشجرة الزيتونية التي تكون لا شرقية ولا غربية فهي التي تشرق عليها الشمس وتغيب فتستفيد من ضياء الشمس منذ الشروق وحتى الغروب أي طوال النهار كله، وهذه الشجرة تعطي أصفى وأنقى أنواع الزيتون وزيت الزيتون على الإطلاق، فهذا المعنى بليغ جدا وقد أشار إليه إمامنا الباقر عليه السلام. (بحار الأنوار - الجزء4 - الصفحة 18).
كما أن لقوله تعالى «لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» مصداق آخر ورد في التفاسير وهو أنه لا يهودية؛ لأن اليهودي (شرقي) يصلي قبل شروق الشمس، ولا نصرانية؛ لأن النصراني (غربي) يصلي قبل غروب الشمس، كما أوّل المعنى بلا دعيّة ولا منكرة، وعلى أي حال فأن التفسير الظاهري لهذه الآية بحد ذاته في قمة الإعجاز، فلنا أن نقول أن النور قد نسبه الله لنفسه فصار الواجب أن يكون حاكما لا محكوما، فإذا قال أن هذا النور يتقد من زيت شجرة شرقية أو غربية فالمعنى أنه يكون محكوما بإحدى هاتين الجهتين، ولكنه نفى ذلك بهذا التشبيه المجازي البليغ.
وقد ورد في تأويل «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ» أن هذا النور قد أودع في صدر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وفي تأويل «كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ» أي فيها نور النبوة أو نور العلم، وفي تأويل «الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ» أنه صدر إمام الكون علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهما)، وفي تأويل «الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» أنها فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، كما أن بعض الروايات عن الأئمة الطاهرين تشير إلى أن هذا الآية تتحدث عن نور المؤمن، وفي تأويل «نُّورٌ عَلَى نُورٍ» أي إمام بعد إمام، وأن الله يهدي لنور آل محمد من يشاء من عباده. فهذه الآية فيها من الأسرار والدقائق البلاغية ما يمكن أن يجعلنا نطيل ونسهب لاستخراجها، ولعل تفصيل ذلك يصل إلى 600 حلقة في سلسلة منفردة لو أردت فعلاً أن أتفرغ من كل أعبائي للتأمل فيها. فمثلا لو تأملنا في قوله: «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ»، لوجدنا أن هذا المعنى عجيب وعميق جدا، إذ أنه يشير إلى أن مادة هذا الضياء هي مادة مضيئة بنفسها!
كما أن هذه الآية تحوي على جملة من المحسّنات اللغوية البديعة، ففيها طباق كما في قوله «لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ»، وفيها تعانق لفظي أو ما يسمى بتشابه الأطراف كما في قوله «... كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ • الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ • الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ... »، فالتعانق اللفظي هو الابتداء بالمنتهى مرة أخرى على وزن معيّن، مما يجعل المتلقي يندهش أو يلتفت. وكذلك وجدنا أن في تنكير النور عند قوله «نُّورٌ عَلَى نُورٍ» وجهاً بلاغياً دقيقاً يشير إلى الاستمرارية واللاحدّية، أي أن هذا النور لا حدّ له، وعليه فإن هذه الآية أدهشت البلغاء العرب والمسلمين بل حتى من لا يكون مسلما ولا يجيد اللغة العربية إذا ما ترجمت له هذه الآية واستوعب ما انطوت عليها معانيها فأنه لا يسعه سوى الاعتراف بأن هذا كلام الله تبارك وتعالى، فقد سجّل التاريخ عن شاعر روسي قديم يطلق عليه لقب أمير الشعراء الروس واسمه ”أليكسندر بوشكين“، وهو متوفي سنة 1837 ميلادية، أنه قد قرأ مقاطع مترجمة للقرآن بالروسية مأخوذة من مقاطع مترجمة للقرآن باللغة الفرنسية في إحدى مؤلفات أديب روسي معاصر نقلها للاطلاع مع إلحاق تلك المقاطع المترجمة بمهاجمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، والنيل منه - والعياذ بالله - بأنه كاذب في ادعاء النبوة، ولكن الغريب أن هذا الشاعر انبهر بالمقاطع المترجمة للقرآن فألّف كتابا بعنوان ”قبسات من القرآن“، فكان من جملة ما أبهره هذه الآية «الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... »، فكان الكتاب رداً على ذلك المؤلف في أن هذا القرآن لا يمكن إلا أن يكون من عند الله عز وجل.
وقد جاء في القصيدة الخامسة لهذا الشاعر بكتابه الذي طرح فيه أشعاره على أبناء قومه بلغتهم الأصلية محاولا تقديم تصور موضوعي عن القرآن وعن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ما هذه ترجمته: ”لقد أضاءت الشمس في الكون، وغمر النور أيضا السموات والأرض، مثل حبة زيتون مفعمة بالزيت، تضيء في مصباح بلوري، صلّ للخالق فهو وحده القادر، وهو يحكم الريح في يوم القيظ، ويثير السحب في السماء، ويهب الأرض فيمد ظلال الأشجار، إنه الرحيم قد كشف لمحمد القرآن الساطع، فلننطلق نحن أيضًا نحو النور، ولننزع الغشاوة عن أعيننا“.
• يقول القرآن: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ الَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» وهنا ثلاث اشكالات بلاغية؛ الأول: ما هي فائدة نزول هذه الآية؟ فهل أن الزواج بهؤلاء النسوة كان حراماً على النبي قبل نزولها؟ والثاني: كل المسلمين بنات عماتهم وخالاتهم وبنات عمهم وخالهم حلال عليهم فلماذا تخصيص الخطاب للنبي فقط؟ والثالث: أنه يقول «قدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ» فشيء طبيعي أنك تعلم بما شرّعته أنت، لأنك أنت من فرضته فما هذا التهافت؟!
تعليق الشيخ: ”الرد على الاستحماق الأول: هذا الرجل يتصوّر أن نزول الآية على هذا النحو كان لغواً، لكون الأزواج كن حلالا عليه من قبل فيعني أنه لا داعي للتكرار، ولكنه غفل أن لنزول هذه الآية حكمة عظيمة لمن يتأملها ويرجع إلى أجوائها في الحديث والسيرة، فبعد نزول آية «فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ» حينها عَلِمَ جميع المسلمين بأنه لا يجوز للرجل أن تكون بذمته من الأزواج اللاتي تزوجهن بالعقد الدائم أكثر من أربعة، لذا صار من الضروري أن تنزل آية أخرى تخص النبي (صلى الله عليه وآله) لتخرجه من هذا الحكم العام فتبيّن أن حكمه مختلف وأنه مستثنى في جواز الزواج الدائم بأكثر من أربع نساء، وذلك كي لا يختلط الأمر على الناس من جهة، ولإغلاق باب الأقاويل والمطاعن في شخصية وقدسية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من جهة أخرى على أعداء الإسلام والمتربصين به وعلى المسلمين أنفسهم الذين قد تنشأ في أذهانهم الأوهام بخصوص سيرة نبيهم، فالآية هنا تبيّن أصناف النساء اللاتي تحل لرسول الله صلى الله عليه إلى جانب من كن في عصمته.
وفي هذه الآية التفاتة بلاغية جميلة في قوله «مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ» أي بما معناه ”رجع إليك“، في إشارة إلى أن ما على هذا الدنيا كلها من الأموال والجواري وما أشبه كله تحت ملكك، ووجود ذلك في يد الغير يكون في حكم المغصوب، إلا أنه قد عاد إلى مالكه الحقيقي.
الرد على الاستحماق الثاني: هذا الرجل لا ينظر في أن الآية قد وضعت قيودا على النبي في تخصيص بنات العم وبنات العمّات وبنات الخال وبنات الخالات اللاتي أحلّهن الله للنبي، إذ تقول الآية «الَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ» فهذا تضييق للحكم، وعليه يكون المعنى: يحرم عليك أيها النبي أن تنكح مثلا ابنة عمك التي لم تهاجر قبل الفتح قبل أن توسّع عليه الآية بإضافة صنف الواهبات أنفسهن، وبهذا فإن الحكم يختلف عن سائر المسلمين، إذ أنهم يحل لهم الزواج ببنات عماتهم وبنات خالاتهم وبنات عمهم وبنات خالهم اللائي لم يهاجرن مع النبي إلى المدينة المنوّرة.
وقد ورد في الروايات أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) خطب أم هانئ بنت أبي طالب فاعتذرت إليه لأن لديها أبناء، فتخشى أن لا تفي بحقوقه بسبب انشغالها بهم، فنزلت هذه الآية لتحريمها عليه (صلى الله عليه وآله) بقيد أنها لم تهاجر معه. (تفسير البيضاوي - الجزء 4 - الصفحة 380).
كما ورد أن المراد ببنات عماتك أي قريباتك من نساء قريش، وببنات خالاتك أي قريباتك وأرحامك من نساء بني زهرة، وعلى أي حال فالآية بيّنت صنفا خامسا للنساء اللائي يجوز للنبي أن يجعلهن ضمن أزواجه و جعلت ذلك من اختصاصه، إذ تقول: «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا»، وقد جرى هذا الحكم على خولة بنت حكيم السلمي، والتي سمّاها الله مؤمنة ولكن تطاولت عليها عائشة (لعنها الله) وقالت لها: ما أنهمكِ للرجال! (تفسير القمي - الجزء 2 - الصفحة 195)، وفي رواية أخرى أن حفصة (لعنها الله) أيضا قالت لها ذلك، فنهرهما النبي وقال لهما ما مضمونه: أنها أفضل منكما، ثم قال لتلك المرأة ما مضمونه: ارجعي رحمكِ الله وانتظر أمر ربي في هذا الشأن، فنزل قوله «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا» أي إذا كان راغبا في نكاحها، «خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» أي هذا الحكم خاص بك تستنكحها بلا مهر وبلا عقد دون سائر المسلمين الذين لا يجوز لهم ذلك.”“«»
الرد على الاستحماق الثالث: قوله تعالى «قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ» المقصود منه أننا أحكم في هذا الأمر، أي أننا بفرضنا هذه الأحكام الخاصة (للنبي وللمسلمين) أعلم بالحكمة من ورائها، ولتوضيح المراد بمثال؛ لو أن رئيس دولة أصدر قانونا وتساءلت الناس عن وجه المصلحة فيه، فإنه إن أراد أن يقول: إني أنا الأدرى بالحكمة من وراء القرار وأنه لم يأتكم هكذا اعتباطا، يقول: أنا قد عَلِمت ما فعلت بسن هذا القانون، وليس معنى كلامه أنه كان جاهلا فأصبح عالما بما فعل، بل هذا مجاز يعرفه البلغاء ولا إشكال فيه حتى يقال هذا ”ضعف بلاغي“. وبعد بياننا بطلان هذه الإشكالات السخيفة لا بأس أن نتطرق إلى بعض الجوانب البلاغية في هذه الآية، إذ اتفق البلغاء أنها تحتوي على لمسة بيانية رائعة في إفراد العم وجمع العمات وإفراد الخال وجمع الخالات، وأن هذا يعتبر من الفن البلاغي في إيقاع الفضول لدى المخاطب، خصوصا إذا لاحظنا ورود لفظتي الأعمام والأخوال في موضع آخر من القرآن الكريم، وقد قدّم بعضاً من اللغويين تفسيرا لهذا الإفراد بأن بنات العم كلهن يرجعن بالأصل إلى أب واحد هو الجد وكذلك الحال مع بنات الخال، ولهذا جاء الإفراد للعم والخال وجمع العمات والخالات حيث أنهن يرجعن إلى عدّة آباء، بينما قدّم بعض الأدباء تفسيرا ثانٍ وهو أن هذا الإفراد جاء لتعظيم الذكر على الأنثى، وقدّم قسمٌ ثالث تفسيرا آخر هو أن النبي ما كان له سوى عم واحد ينطبق على بناته شرط الآية، وهو أبو طالب، لأن حمزة كان عمه وأخوه من الرضاعة، أما بنات عمّه العباس فلم يهاجرن معه (صلى الله عليه وآله)، أو كان له بنات عم أخريات لكنهن متزوجات وكذلك الحال مع الخال.
من جانب آخر، جاء في الآية جملة اعتراضية متمثلة في قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ»، فهذه الجملة جاءت اعتراضا على جملة أكبر في سياق واحد، وهذا فن من فنون البلاغة يسمى أيضا بالمداورة في الكلام، أي أن يتحدث المتحدث بسياق متصل وفي وسط الكلام يومئ إلى معنى آخر ثم يعود مرة أخرى إلى سياق كلامه.
جانب بلاغي آخر في هذه الآية الكريمة يتمثل في عدول الخطاب الموجّه للنبي مباشرة إلى الحديث عنه بصفة الغائب عند قوله: «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً» ثم عودة الخطاب المباشر إليه بقوله: «لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا، فهذا بحد ذاته فن بلاغي يقصد الله من ورائه أن تشريع حكم الواهبات أنفسهن للنبي وقبوله بهن لم يأت لغرض الشهوة عند النبي وإنما لبيان شرف النبوّة بقبول النبي من يأوين إليه إذ هنّ مشاريع إصلاحية للأمة، وبيان أن هذا الحكم خاص بالنبي فقط كي لا يقع التوهم في أذهان الناس، فهذه أيضا لمسة بلاغية تدل على الإعجاز البلاغي لهذه الآية.
• يقول القرآن: «ليس عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون»، وهذا الكلام لا بلاغة فيه لأنه لا فائدة من ذكره، فكل أحد له أن يأكل في بيته وفي بيت أقاربه لأن هذا حلال، ثم ما ربط هذا بالأعمى والأعرج والمريض؟! لماذا تخصيص هؤلاء فقط بالذكر دون غيرهم كالمرأة أو الطفل مثلا؟! ولماذا تكرار كلمة ”الحرج“ بعد ذكر كل واحدٍ منهم؟! ولماذا هذه الإطالة في تعداد الأقارب؟! قل منذ البداية (بيوت أقاربكم) أو (بيوت أرحامكم) واختصر الموضوع! ثم لماذا تشمل بيت «مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ» في الأكل؟ هذا خطأ فليس كل شخص يترك مفاتيح بيته عندك لك أن تذهب فتدخل منزله وتأكل منه ما تشاء؟! وأيضا لا داعي لذكر «جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا» لأنه لا إثم في أن يأكل الناس في جماعة أو يأكل كل منهم على حدة، ثم إذا أنا سلّمت على أحد فالله ما دخالته بالسلام حتى يقول «تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً»؟ وأخيرا كيف إذا لم يتبيّن لنا هذا الكلام فأننا سنكون مخبولين - حسب المعنى - ولعلنا نعقل أو لا نعقل؟ إن لم تتبيّن لنا هذه الآيات التي تتحدث عن الأكل فإننا لا نعقل؟ هذا تهافت بلاغي!
تعليق الشيخ: ”إن هذا الأحمق لم يتعب نفسه بالرجوع إلى أسباب النزول ليفهم لماذا ذكر الله هؤلاء، فقد ورد أن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: ”ذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعزلون الأعمى والأعرج والمريض، فكانوا لا يأكلون معهم، وكانت الأنصار فيهم تيه وتكرم فقالوا: أن الأعمى لا يبصر الطعام والأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا لهم طعامهم على ناحية، وكانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناحا وكان الأعمى والمريض يقولون لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا مؤاكلتهم، فلمّا قدم النبي (صلى الله عليه وآله) سألوه عن ذلك فأنزل الله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا»“. (تفسير القمي - الجزء 2 - الصفحة 108). فالحكمة من وراء تخصيص هؤلاء بالذكر كانت بسبب أن مجتمع المدينة كان يعزلهم عن موائده، إذ كان الناس لا يأكلون مع هؤلاء استحقارا واستقذارا لهم، فجاء القرآن لإبطال هذه العادة التي قد تولّد العقد النفسية لديهم، داعيا المجتمع إلى أن يرحّب بالمعاقين والمرضى والعطف عليهم واحتضانهم، وذلك لغاية تكوين مجتمع صحي يحتوي هذه الفئة ويبعدها عن الشعور بالكآبة فالإقدام على الانتحار أو الاتجاه إلى الإجرام وما أشبه، وهذا الأمر الذي عمل به في يومنا هذا المجتمع الغربي فتقدم وأنتج أفرادا من هذه الفئة بذلت كفاءات عالية في خدمة المجتمع.
ثم أن تكرار كلمة ”حرج“ بعد ذكر كلٌ من الأعمى والأعرج والمريض ليس فيه ضعفا بلاغيا، بل العكس فإن نظم الآية بهذا التكرار يضيف لمسة إيقاعية ذات صدى في السمع وفي هذا تأصيل وتأكيد على نفي الحرج عن كل صنف، والأمر ملحوظ بأشعار العرب وأمثالهم ويعدّ من القوة في البلاغة وبيان الواقع.
أما الجواب على أنه لماذا لم تُذكر المرأة والطفل مثلا ضمن هذه الأصناف؛ فهو أنهما ما كانا معزولين عن الموائد، فلم تكن هنالك مشكلة في هذا الخصوص حتى يتوجه الله إلى حلها في هذه الآية، ثم أن المقصود بقوله «وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ» هو عموم الناس و النساء بملك اليمين، فالمراد من ”أنفسكم“ هو الأزواج ومن هم بمنزلتهم كالأبناء الذين يعيلهم رب الأسرة، وليس المعني بأنفسكم هنا هو أنت حتى تقول وهل أنه حرام على الرجل أن يأكل في بيته؟!”“«»
فالآية هنا تأسس لآداب وتعاملات سليمة ولذا جاء بها ذكر الأرحام لتوثيق العرى والتأكيد على أنهم منكم وإليكم لتصير الروابط الاجتماعية مفعمة بالحيوية بين العوائل والأصدقاء، كما أنها لا تتحدث عن الإطلاق في عزل المريض فإذا كان هناك شخص مصاب بمرض ينقل العدوى فإنه هنا لا يكون مشمولا بها، كما أن الروايات قيّدت هذا التعامل بما يبقي الألفة ولا يضر بالآخرين فليس لأحد مثلا أن يذهب ويلتهم كل ما هو مخزون من المأكولات في بيت أرحامه مثلا، أما قولها ”آبائكم“ و”أمهاتكم“ فيشمل الأجداد والجدّات.
ثم أن الآية ترفع الحرج عن الأكل عند «مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ»، لأنه في السابق لم تكن هناك ثلاجات ومجمدات كي تحفظ الأطعمة، فإذا ما أعطي أحد ما مفاتيح بيت شخص آخر فأنه كان يتحرّج من أن يأكل مما في البيت بحال مراعاته له، فكان الطعام يفسد بسبب ذلك، وهذا أمر لا يرتضيه الله سبحانه وتعالى لأن فيه هدر للنعم الموجودة بذلك البيت، فعندما يرجع صاحب البيت من الطبيعي أنه سيسأل من كان بعهدته أنه لماذا صنعت هكذا بالطعام تعززا منك فتركته يفسد ولم تأكله؟ فعليه اقتضت الحكمة الإلهية رفع الحرج بهذا الجانب لتقريب الناس من بعضهم وتقوية أواصر المحبّة والمودّة بينهم.
ثم أن كيفية الأكل بأن يأكل الإنسان منفردا كان البعض يتحرج منها، لأن العرف كان يراها خدشا في الشخصية فلذا كان البعض يرقد جائعا إذا لم يجد من يأكل معه! فأتت هذه الآية لرفع هذا الحرج عن هذه الكيفية في الأكل، أن يأكل الإنسان منفردا، وكذلك عن كيفية الأكل مع جماعة بينهم الأعمى والأعرج والمريض.
والغريب أن هذا الرجل يستهزأ بالمقطع الرائع في هذه الآية والذي يحث على تعويد النفس على السلام، مع أن كلمة السلام بحد ذاتها تنشر السلام والطمأنينة بالنفس وتستجلب البركة من الله بنزول الملائكة واستغفارهم، فقوله «تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً» هو توصيف لهذا الحال مع ما ورد في الروايات من أن السلام ينفي الفقر حتى لو لم يكن هناك أحد بالمنزل. (راجع كتاب الخصال للشيخ الصدوق - الصفحة 626) فضلا عن هذا فإن السلام يطرد الأمراض والمشاكل والشرور والتفكك الأسري عن البيت، فهو إذا التزم به الإنسان فإنه سيسعد في حياته وفي آخرته، فعن أي ضعف بلاغي يتحدث هذا الأبله؟!
وللعلم فإن تعاليم هذه الآية أخذها الغرب وصار ينشرها عبر وسائل الإعلام والمنظمات الخيرية في المجتمع لأجل الصالح العام، حيث من جملة ما يطرح لغرض التأكيد على ضرورة الترابط الأسري حتى لا ينجر الأبناء إلى الإجرام، حثهم على التزاور والأكل في جماعة مع الأهل والأصدقاء مع تجنب العزلة الاجتماعية والأكل بانفراد، فهذا الأمر عقل المجتمع الغربي أهمية الالتزام به بينما لم يفهمه هذا الرجل الجاهل الدنيء في المستوى المعرفي والإدراكي.