2007 / 11 / 23
صدر عن الشيخ ياسر الحبيب البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
حُرّر في 24 من ذي الحجة 1425
”فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرّّقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون“ (العنكبوت: 24).
بان جليا من واقع الأحداث الإرهابية الأخيرة أن بلادنا العزيزة لم تصل إلى هذه المرحلة الخطرة إلا بسبب سياسات حكومية سمحت لهؤلاء المجرمين بالتمادي منذ عقود دون الانتباه إلى مراميهم الخبيثة للسيطرة على البلاد وقلب نظامه إلى ما هو أشبه بنظام طالباني ولو بالتضيحة باستقرار البلاد وتعريض شعبه للاغتيال وسفك الدماء. ومع كل الأسف نقول أن عقليةً تخاصم الوعي هي التي تحكم في بلادنا مع الأسف، تلك العقلية التي كنا نظن أنها انضمرت بفعل التغيرات التي طرأت على العالم اليوم، بيد أن واقع ما جرى علينا من اضطهاد وظلم ومكائد أثبت أنه مهما تغيّر العالم وتطوّر علميا وثقافيا فإن العقلية الحاكمة في الكويت – ومثيلاتها من دول الانحدار – تبقى على حالها من الصدأ والجمود.
القعود على ركام الماضي المزوّر، والرضوخ لجراثيم الإرهاب الناصبي الوهابي، والتنكيل بالمفكرين ودعاة التحرر من قيود الجهل.. تلك هي سمات العقلية التي تحكم اليوم في الكويت. ولهذا لم نجد طريقا يخلصنا من كل هذه الأوحال سوى الهجرة في سبيل الله تعالى، حاملين في قلبنا مرارة ترك بلادنا الحبيبة، وفقدان أهالينا وأعزائنا.
لم يكن لنا من جرم سوى التعبير عن آرائنا واستنتجاتنا في التاريخ، وهي آراء نتحدى فيها أكبر كبراء النواصب، لأنّا استخرجناها من كتبهم ومصادرهم. وكنا نتمنى أن تكون عندهم الشجاعة الكافية لمواجهتنا علميا، غير أن طالب الشجاعة في أمثالهم كطالب الماء في الرمضاء الحارقة! ولأنهم يعلمون بخسارتهم إذا ما نزلوا إلى ساحة النقاش العلمي فإنهم عمدوا إلى محاولة تكميمنا وخنقنا وسجننا.
إنّا لا ننكر أن ما جئنا به في محاضراتنا كان خطيرا ومؤلما في آن واحد، غير أن هذه هي الحقيقة وعلينا جميعا الإذعان لها، فالحقائق لا تكون حقائق إلا إذا سبّبت مثل هذه الصدمات النفسية في البداية، لأن عامة الناس تربّت على موروثات قديمة، وكلما ازداد قدمها كلما زادت رسوخا في الأذهان دون نقاش، فإذا جاء من ينسفها أصلا فإنه يتسبّب عادة في مثل تلك الصدمات.
وقد فزع أعداء الحقيقة الإرهابيين من أن تخرج هذه الحقائق أمام العامة فتتغير قناعاتهم ويهتدوا، وكرهوا أن يكون ثمة صوت يكشف وزر ما اقترفه أسلافهم المقدسون بحق النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وهالهم ما جئنا به إليهم من براهين تنطق بالصواب، فشحذوا كل هممهم للقضاء علينا، فاتهمونا أولا بإهانة الخلفاء! وهي تهمة لسنا نفرّ منها، فإنّا أهنّا من يستحق الإهانة بلا ريب، ومَن أجدر أن يُهان من المجرمين الذين استباحوا قتل رسول الله وأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم؟! على أن إهانتنا لهم لم تكن سوى عرض وتحليل لتفاصيل جرائمهم ومخازيهم، ولم تكن مجرد إهانة غير مستندة للدليل والبرهان.
إن الدليل العلمي والبرهان التاريخي يثبتان أن أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة وأذيالهم من الأوباش (عليهم اللعنة) قتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسقوه سمّا أدى إلى استشهاده وخسارة البشرية لأعظم شخصية عرفتها الخلائق، وأنهم قتلوا ابنته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) وأدموها وكسروا ضلعها وقتلوا جنينها المحسن (عليه السلام) أثناء حادثة الهجوم على دار النبوة وهو ما أدى إلى استشهادها مظلومة مقهورة، وأنهم تآمروا على إقصاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن منصبه الشرعي الذي جعله الله له، ثم أشعلوا نيران الحروب ضده في الجمل وصفين والنهروان، إذ كانوا هم السبب والمؤسس الأول لاتجاه عزل ومحاربة أهل بيت النبوة. أما اضطهادهم وظلمهم لسائر الناس وجرائمهم في حق عباد الله وتسببهم في تحريف دين الله ووضعهم للعراقيل التي تحول دون تقدم الأمة ونهضتها وتطورها.. كل ذلك يحتاج إلى عشرات بل مئات من المجلدات لبيانه، وليس هنا ما يتسع لذلك. فأي ذنب على مَن يكشف للناس حقيقة هؤلاء الظلمة؟! وإلى متى تبقى ستائر الجهل حاجبة لنور الحقيقة؟! وألم يحن الوقت لصحوة علمية تزيح عن الأذهان القداسات الزائفة والثوابت الدينية المزيفة؟!
لقد كنا ومازلنا مؤمنين بضرورة أن تتخلص هذه الأمة من أمراض الماضي، وقد دفعنا ثمن هذا الإيمان وهذه القناعة، فاعتُقلنا وأودعنا السجن قبل أن نُحاكم، وكانت هذه سابقة أولى بالنسبة لقضايا الرأي في بلادنا. وهناك – أي في السجن المركزي– وضعونا في أسوأ وأقذر الأمكنة، مع تجار المخدّرات ومتعاطيها، وعذّبونا وعاملونا أسوأ معاملة وحرمونا من كل الحقوق.
ليس هذا فحسب؛ بل خططوا بكل خبث لاغتيالنا في السجن، عندما قاموا بتعليق لافتات في كل ممرات السجن تحرّض على ”مَن سبّ الصحابة“! وأعطوا الضوء الأخضر لعدد من سجناء تنظيم القاعدة لافتعال مشاجرة بيننا وبينهم حتى يتم طعننا بالسكاكين ويتحقق الاغتيال دون أن تكون على إدارة السجن أدنى مسؤولية رسمية في ذلك! ولولا لطف الله تعالى الذي نجّانا منهم لكنّا اليوم تحت التراب!
وليت أن ظلمهم انحصر عليّ، بل تعدّى إلى ظلم أهلي وذويَّ، فهجم أكثر من ثلاثين خسيسا مدججا بالسلاح منهم – أي من رجال أمن الدولة – على منـزل والديّ دون إذن قضائي، فاقتحموا الدار على النساء والأطفال من كل الجهات دون أدنى اعتبار للحرمات، وروّعوهم وأفزعوهم وهم يكسرون الأبواب، ولم يسمحوا للنساء حتى بارتداء حجابهن! وليس بالوسع تعداد المظالم الآن.. فالله حسبنا على من ظلمنا.
ولما حُكم علينا بأقصى عقوبة في قانون المطبوعات والنشر وهي السجن لمدة سنة مع غرامة ألف دينار؛ وجد أعداء الحقيقة أن ذلك ليس بكافٍ، فلفقوا لنا تهمة أكبر وهي زعزعة استقرار البلاد! فحُكم علينا بالسجن لعشرة أعوام وفق قانون أمن الدولة. كل هذا لرأي قلناه، فإذا به يهز استقرار البلاد! وكل هذا أمام عين الذين يحكمون، الذين جعلوا جراثيم الإرهاب تستشري حتى دمّرت البلاد والعباد وها هو شعبنا اليوم يدفع الثمن الباهظ لذلك كما رُؤي في الحوادث الإجرامية والتخريبية الأخيرة. لقد فسحوا لهم المجال لتولي المناصب العليا، سيما التي تتحكم في سير القضايا، كمنصبي وزير العدل والنائب العام، فهذان الإثنان استغلا منصبيهما أبشع استغلال، وتدخّلا في مجرى القضية، وتآمرا مع قضاة الجور على أن تصدر هذه الأحكام ضدنا خلافا للعدالة والقانون. ولم يكفهم هذا أيضا، بل استصدروا حكما آخر يقضي بالسجن لمدة خمس سنوات إضافية! فأصبح المجموع خمس عشرة سنة كاملة! أي عمرا كاملا!
لقد أرادوا وأراد الله، والله بالغ أمره. أرادوا أن أبقى سجينا لعشر سنين، بل خمس عشرة، بل أن أُقتل في سجني، حتى يخمدوا هذا الصوت إلى الأبد، فإذا بالله (جلّت عظمته) يقهر ما أرادوا، فيخرجني من السجن بأعجوبة أمام أنظارهم! ويتكفّل برعايتي طول مدة الاختفاء دون أن تصل إليّ أياديهم بسوء! ثم يخلصني منهم ومن ملاحقاتهم المرعبة! ثم يهيّء لي مستقرا ومقاما آمنا أواصل فيه بث نداءاتي ويبقى فيه صوتي حرا!
تلك هي قدرة الله التي يقهر بها الظالمين، وذلك هو فضل وكرم أهل بيت الرحمة (صلوات الله عليهم وسلامه) الذين علمت منذ بداية المحنة أنهم ليسوا بتاركيَّ، فكنت أتوسل بهم طوال تلك الليالي الكئيبة في السجون واثقا من إجابتهم عاجلا أم آجلا، حتى منّوا عليّ بالحياة والحرية من جديد. ولينظر أعداؤنا الآن إلى هذا الدرس الإلهي، كيف أن رجلا تخلّى عنه معظم الناس ولم يبقَ له من ناصر سوى القليل؛ يهبّ الأطهار من آل محمد (عليهم السلام) لنجدته وينصرونه نصرا عزيزا على كل مناوئيه رغم ما يمتلكه هؤلاء من العُدّة والعدد!
حقا.. إنها كرامة العباس بن علي قمر بني هاشم (روحي فداه) الذي بمجرد أن ناديته في تلك الرؤيا مستصرخا: {يا أبا الفضل العباس وحقّك أخرجني من السجن} وجدت يده المقدسة تمتد إليّ وتنتشلني من مستنقع المجرمين في أقل من ثلاثة أيام من تلك الاستغاثة!
ألا فليعلم من يعلم أنّا على العهد الذي عاهدنا عليه الله ورسوله وأولياءه (عليهم الصلاة والسلام) فلم نبدّل ولم نغيّر، وسنبقى إن شاء الله تعالى مجاهرين بالحق منادين بالثأر للمظلومين من آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) مهما حصل ويحصل. وليس يرعبنا أحد من أعداء الحقيقة فإن صراعنا معهم.. مع هؤلاء الإرهابيين المجرمين، وليس من قبيل الصدف أن يكون الشخص الذي جرّنا إلى الاعتقال والمحاكمة هو نفسه الذي قبضت عليه السلطات الأخيرة بعدما اكتشفت أنه رأس من رؤوس الإرهاب تمويلا وتدبيرا حتى أنه أبلغ القتلة بأسماء ضباط أمن لاغتيالهم وتصفيتهم! والحمد لله تعالى الذي أراني إياه اليوم سجينا وأنا حر.. بعدما كنت أنا السجين – بسببه - وهو الحر قبل عام واحد فقط!
وفي شأن العهد؛ يهمنا أن نؤكد مجددا على الجميع بضرورة إعادة اكتشاف التاريخ الإسلامي، ومعرفة الحقائق والتفاصيل التي وردت، فإن ذلك سيؤدي إلى فهم صحيح وقراءة واقعية لتاريخنا، ستؤدي بالتالي إلى النهوض بواقع مجتمعاتنا وأمتنا نحو الأفضل والأحسن، لأن الحاضر السليم لا يُبنى إلا على الماضي السليم، فإذا كان ذلك الماضي مشوبا بالنفايات، وجب رميها والتخلص منها ليبقى النقاء الذي نستفيد منه.
ألا إن النقاء كل النقاء في سيرة محمد وآله الطيبين الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) تلك السيرة التي تقدم لنا أروع الدروس وتعلمنا كيف نكون أحرارا وكيف نسمو بنفوسنا وكيف نتقدم ونتطور في حياتنا وكيف نصل إلى جنة الفردوس العليا. وألا إن القذارة كل القذارة في سيرة أبي بكر وعمر وأضرابهما (عليهم اللعنة والعذاب) تلك السيرة التي لا تعلمنا غير الإجرام والإرهاب والخداع والتضليل ولا تورّث لنا سوى مساوئ الأخلاق ولا تحقق لنا سوى التأخر والتقهقر في حياتنا ولا تنتهي بنا إلا إلى قعر نار جهنم. وما الحوادث الإرهابية الأخيرة إلا دليلا واضحا على أن الذين يتبعون أبا بكر وعمر وأمثالهما إنما يتعلّمون منهما الإجرام والكراهية والقتل وسفك الدماء وتدمير البشرية.
فالعاقل يختار محمدا وآله (عليهم السلام) والمغفل يختار سواهم، هذه هي معادلة الحق والباطل وليس هناك غيرها، ومن يطرحها بجرأة لا يجب أن يُرمى بتهمة تمزيق المجتمع بل يجب أن يتم تقديره لأنه يحاول أن يوصل الناس إلى ما يراه طريقا قويما. والوحدة الحقيقية هي تلك التي تُبنى على أرضية الحقيقة، لا أرضية الباطل والزور.
والواجب اليوم على جميع أولياء آل محمد (عليهم السلام) ومحبيهم أن يكشفوا لبقية الناس حقيقة ما جرى عليهم من الظلم، وأن يفضحوا الظالمين والقتلة والمجرمين منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا دون خوف، وأن يصدعوا بالحق دون وضع أي اعتبار سواه، فإن الحق حق.. وإن كان مؤلما للمشاعر. ولا شك أن في هذه الطريق مصاعب وتضحيات، وعلينا جميعا تحملها، فحتى لو قُتلنا في هذا السبيل فإننا سنكون الرابحين، إن شاء الله تعالى. ولتكن توصية إمامنا الكاظم (صلوات الله عليه) ماثلة أمام أعيننا إذ قال: ”قل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك“. (الاختصاص للمفيد ص32).
وبعدُ.. يبقى إمامنا المهدي المفدى (صلوات الله عليه) والينا وحامينا والذائد عنا.
”هذا تأويل رؤياي من قبلُ قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن“ (يوسف: 100) صدق الله العلي العظيم وصدق رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين.
ياســـــــر الحبـــــــيب